في ظلال البيت العتيق (3)
هناك وفي ظلالِ البيت الطاهر العتيق، وفي هذه الأيام المباركة من هذا العام ومن كل عام، ترى صورةً عجيبةً للأمةِ المسلمة، ترى الأمة الهادية الوسط، الشهيدة على الناس، التي انْتُدِبَتْ بحكم إيمانها فقط لا لأيِّ اعتبارٍ آخر، لتكونَ الوصيةَ على البشرية القاصرة، الموجِّهةَ لها، الساعية لهدايتها وإخراجها من الظلمات إلى النور.
الأمةُ المسلمة الوسط، الهادية المهدية تظهرُ على حقيقتِها، وعلى الشكلِ الذي يريده لها خالقُها في ظلالِ البيت العتيق وحولَه وفي رحابِه، فهنا تتبدى مَنْ هي، وهنا تَعْرِفُ مَنْ تكون.
هنا أمةُ الإسلام، حاملةُ رايةِ القرآن، والحاميةُ الساهرة، المبلِّغةُ الحفيظة، على إرث الإيمان من لدن آدم عليه الصلاة والسلام حتى خاتم الأنبياء محمد ﷺ.
هنا أمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصاحبة الرسالة الإلهية الأخيرة للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، هنا أمة الجهاد لساناً وقولاً وأداءً وإبلاغاً، وهنا أمة الجهاد يداً وسيفاً، وطائرةً وقنبلة.
هنا الأمة الطاهرة التي هي خلاصة الأمم ولُبابُها الأفضل التي بيَّضت ذاتَ يومٍ صفحة التاريخ والحضارة، وشادت منهما أكرمَ بناء، وصاغت للإنسانية المثلَ العليا، النموذجيةَ العملية، الحقيقية الكريمة، الجديرةَ بالتأسي والاقتداء، وفي الحج تجديدٌ لهذه الأمة، وصقلٌ لجوهرها، وتذكيرٌ بالعهد، ومطالبةٌ بالوفاء بمستلزماتِ الأمانة، وواجباتِ الرسالة، ومسؤولياتِ القوامة على الناس.
فالحج يجدد لهذه الأمة معناها الحقيقي، ودورها الريادي، ومهمتها الطليعية، إذا تاهت عنها، ونسيتها، وتجاهلتها، وخانتها، وضلَّت وحادت، وضاعت وانحرفت. والحج يطالبها -ويجدد مطالبتَها كلَّ عام- بأن تكونَ على المستوى المطلوب، وإلّا حلّت بها عقوبة الاستبدال، وهو يوحّد خطاها على طريق مهمتها، وينأى بها عن الفرقةِ والشتات، ويحمي مسيرتها أن تكون نَهْباً لكل عابثٍ أو فاجرٍ أو مضلل يريدُ قيادتها نحو الدمار.
وهو تذكيرٌ لها بهذا التوحيد المرجوّ، نحو الغاية المرجوّة، وهو كذلك تعليم عملي لها أنَّ وَحْدَتَها؛ إنما الطريقُ إليها هو طريقُ الإيمان، وسَلْ شواهدَ التاريخ عن ذلك، وسَلْ عبرة الحج عن ذلك، حيثُ قَدِمَ أبناءُ هذه الأمة من كل مكان في وحدةٍ عميقة، من حيث العقيدة والهدف، ومن حيث الخطى والمسعى، ومن حيث المظهر والزي، وهم يرددون من الأعماق: الله أكبر!.. وهم يرفعون من الأعماق: لبيك اللهم لبيك!.. وقد وَحَّدَ بينهم الدينُ العظيم الذي يكرم الإنسانَ لأنه إنسان، والذي يعلو على كل الفوارق الزائفة التي تقسِّمُ الناسَ مِزَقاً شتى بسبب الأعراق والألوان، واللغات والأشكال، والحدود والتضاريس وما إلى ذلك من عصبياتٍ ضالةٍ جاهلةٍ متخلِّفة.
وإذن.. فيمكن أن يُقال: إن الحج رحلةٌ فاصلة، وبدايةٌ جديدة، وميلادٌ جديد، لحقيقة الإنسان المسلم ودوره ومسؤوليته، ولحقيقةِ الأمة المسلمة ودورها ومسؤوليتها كذلك.
ولعل وقفةً قصيرة عند المؤهلات المطلوبة من الحاج تكشفُ ذلك بجلاء، فلا بد أولاً من أن يكون مسلماً؛ لأن التائهَ عن حقيقة الحقائق وهي الإسلام، لا مجالَ له في هذا الأمر العظيم.
ولا بد من البلوغ؛ لأن الصغارَ أقلُّ استعداداً للولوج فيه، حيث لا يستطيعون وعيَ حقائقه، واحتمالَ مسؤولياته.
ولا بد من العقل؛ فللمجانين أمكنةٌ أخرى، لأن لهذا المكان مستوىً من حسن الفهم لا يستطيعه إلا عاقلٌ راشد.
ولا بد أيضاً من الحرية، وهي شرطٌ للقدرةِ على الأداء-؛ لأن ناقصَ الحرية ليسَ في الموقع الذي يتيحُ له احتمال المسؤولية، والنهوضَ بها.
ولا بد من الاستطاعة في المال والنفس والطريق وما إلى ذلك؛ لأن مَنْ تتجاوزُه حدود الاستطاعة يَعْسُرُ عليه الوفاءُ بالمسؤوليات الجسام، ويشقُّ عليها أن ينهضَ بواجباتِها الكبار.
وتأمَّلْ في هذه المؤهلات الكريمة: الإسلام والعقل والبلوع والحرية والاستطاعة؛ تَرَ أن تحققها في المسلم القادم إلى الحج، واجتماعَها معاً فيه، يجعلُه أهلاً بحق لحمل الرسالة والوفاء بمسؤولية الأمانة، قادراً على احتمالِ تكاليفها، وفهمِ أبعادها، وإدراكِ مراميها. أما حين يغيبُ شيءٌ من هذه المؤهلات المطلوبة؛ فإن المرءَ تصبح فيه ثغرةٌ معيبةٌ مُخِلَّة، تجعله عاجزاً عن القيام بواجباته ومسؤولياته، وحين يبدو هذا الأمر واضحاً بشكل جيّد، ويستقرُّ ويتحقق؛ يمكن لك بالضرورة أن تَمُدَّ نطاقَه، وتتوسعَ فيه لتجعله ينطبق على الأمة المسلمة كلها.
فالأمة المسلمة كي تعيَ دورَها بحق، وتفهمَ حقيقتَه وأبعاده وأمداءه، وكي تملك المقدرة العقلية والنفسية، والروحية والجسدية، للقيام بأعباء هذا الدور والوفاء به، لا بد لها من امتلاكِ مؤهلاتٍ تستطيعُ معها تحقيقَ ذلك، وهذه المؤهلاتُ المطلوبة منها، هي المؤهلاتُ المطلوبة من الفرد، وكلّما تكاملت كانت أقدرَ على الأداء المطلوب، وكلّما وُجِدَتْ فيها ثغرةٌ من الثغرات، ظهر القصورُ واضحاً في الأداء حتى إذا تجاوزتْ هذه الثغرة، تجاوزتْ ما ترتَّبَ عليها من قصور.
*****