السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - الملحمة الشعرية

الملحـمة الشعـرية

     حين تذكر الملحمة يقفز الذهن إلى الملحمتين اليونانيتين الشهيريتين «الإلياذة» و«الأوديسة» لأنهما أقدم الملاحم الشعرية البشرية المعروفة، ولأن النموذج اليوناني للملحمة هو النموذج الذي وضع بصماته وملامحه على الشعراء وهم يبدعون أعمالاً يحتذونه فيها وعلى الدارسين وهم يستخرجون منه أصول الملحمة وقواعدها وخصائصها.

     والملحمة قصيدة طويلة تعتمد على البطولة الحقيقية منها والمتوهمة، والخيال الممكن وغير الممكن، والإثارة، والمبالغات، والتشويق، وتروي حكايات تاريخية لها أصل حقيقي مع إضافات وزيادات، ويدخل في بنائها عنصر الأسطورة بكل ما له من طرافة وغرابة وتلبية لحاجة طفولية في الإنسان يأنس فيها أحياناً إلى الخرافات والأوهام والخوارق، ولعالم الغيب حضور قوي في المسرحية من آلهــــة مزعومة وقوى غير منظورة تتصارع وتؤيد فريقاً من البشر ضد فريق. وتركز الملحمة على شخص البطل فتزيد من بطولته، وتضفي عليه هالة من الشرف والجلال والترفع، وربما أضفت عليه سمة البطل الوطني القومي الذي يقود ذويه في صراع عنيف ضد أعدائهم ليكون في وجدان قومه فارساً وقائداً ورمزاً، وبالتالي معبراً عن الضمير الجمعي لقومه وبـــلاده.

     وتعبير العمل الملحمي عن الضمير الجمعي يكون أحياناً مدعاة لأن يشترك عدد من الشعراء المجهولين فيه، يضيف كل منهم إليه ما يرضي وجدانه ووجدان مجتمعه، ثم ينسى هؤلاء الشعراء ويبقى العمل بعدهم. وأشهر الملاحم البشريـــة ملحمة «الإلياذة» وملحمة «الأوديسة» للشاعر اليوناني هومـيروس، وملحمة «الإنيادة» للشاعر الروماني فرجيل، وملحمة «الشاهنامة» للشاعر الفارسي الفردوسي، وملحمة «الكوميديا الإلهية» للشاعر الإيطالي دانتي، وملحمة «الفردوس المفقود» للشاعر الإنجليزي ملتون، وملحمتا «المهابهارتا» و«الراميانا» الهنديتان، وملحمة «جلجامش» الآشورية، وملحمة «دافيد ساسون» الأرمنيـة، ومغامرات «فاسكـودي غاما» البرتغالية، وأنشودة «نيبلونجن» الألمانية، وأناشيد «رولان» و«تليماك» و«الشهداء» الفرنسية[1].

     وقد عرف الأدب العربي القديم نوعاً من القصائد التي تروي أخبار البطولة والقتال، وتشيد ببطولة هذا أو ذاك، مما يجعلها تقترب من شعر الملاحم بمعناه العام. كمعلقة عمرو بن كلثوم، وبائية أبي تمام الشهيرة في فتح عمورية، وقصائد المتنبي التي تصور صراع سيف الدولة مع الروم، وهذه القصائد ومثيلاتها جعلت الدكتور زكي المحاسني يقرر أنه لا يرى أدب العرب خالياً من الملاحم، ولا ينبغي أن نعنتهم فنطلب إليهم أن يكون لديهم ملحمة كالملحمة اليونانية في أناشيدها وموضوعها وحديثها، إذ ليس شرطاً في كل ملحمة أن تحتذي الإلياذة أو سواها من ملاحم الأمم العتيقة أو الحديثة[2].

     كما عرف هذا الأدب نوعاً من القصائد المطولة القصصية، مثل أرجوزة ابن المعتز في الخليفة العباسي المعتضد الذي تولى الخلافة عشر سنوات، وأرجوزة ابن عبد ربه في الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر الذي كان من أقوى الشخصيات التي مرت على الأندلس، وكان عهده عهد قوة واستقرار وغلبة، وقد وصف ابن عبد ربه في أرجوزته هذه بطولة الناصر وانتصاراته وحروبه، وجاءت في خمس مئة وخمسين بيتاً، وقد قال عنها الدكتور زكي المحاسني: «إني لأعدها ملحمة صغرى على الرغم من سهولة أسلوبها ولين شعرها وفهاهة بحرها، ولو أن أديب الأندلس ابن عبد ربه أطال نفس شعرهن فبدأ قصيدته منذ عبد الرحمن الداخل الفاتح الثاني للأندلس لجاءت ملحمته الصغرى أوفى بالغرض»[3].

     وقد نظم أبو طالب الأندلسي مطولة تاريخية في قصص الأنبياء الكرام ودول الإسلام، كما نظم لسان الدين بن الخطيب، الأديب والشاعر والسياسي والمؤرخ الأندلسي الشهير، مطولة تاريخية روى فيها تاريخ الممالك الإسلامية سماها «رقم الحلل في نظم الدول».

     ونظم نشوان بن سعيد الحميري «الحميرية في ملوك اليمن»، وهي مطولة تاريخية تروي أخبار ملوك اليمن القدماء.

     على أن هذه المطولات وأمثالها يغيب فيها الفن الجيد، وتبدو وكأنها سرد تاريخي جاء في نظم جاف بارد يصدق على شعرائه قول الدكتور شوقي ضيف فيهم: «ولكنك تقرؤهم جميعاً فتحس أنك تقرأ شعراً تعليمياً أو شعر متون علمية لا روح فيه ولا حياة ولا محاولة لفهم التاريخ وتعليل الحوادث، وإنما هو سرد ورواية حوادث مسلسلة وكأننا نقرأ أثباتاً للتاريخ مرقومة»[4].

     وفي العصر الحديث اتجه عدد من الشعراء إلى التاريخ العربي والإسلامي يستلهمون منه قصائد تطول أو تقصر ذات نفس ملحمي، ذلك أن الأمة كانت منكوبة بالضعف والتمزق والاستعمار، فكان من الطبيعي أن يتجه نفر من شعرائها إلى تاريخها المجيد يصورون معاركه وأبطاله وأمجاده، ويقارنون ذلك بحالها الحاضر البائس، وكأنهم يريدون منها أن تبني حاضرها ومستقبلها على نموذج أمسها الذي يعملون على ترسيخه في أعماق أبنائها منارة هداية وجهاد وبطولة ورفض للطغيان ومقارعة للمعتدين ومغالبة للكوارث والخطوب.

     لقد كان التاريخ الإسلامي -وسيظل- معيناً لا يجف للفنون والآداب بأنواعها. «وكما شغف القصاصون والروائيون باستيحاء البطولات والتضحيات والنماذج الإنسانية الفريدة من أحداث الإسلام ووقائعه الأولى وشخصياته المعروفة، وجد الشعراء في ذلك كله مثاراً لوجدانهم الذي يعشق المثل العليا ويحن إلى الآفاق الروحية الأولى. والهجرة وما يدور حولها من معاني الإقدام والتضحية والإلهام والعناية الإلهية وانبثاق نور الإسلام، من الموضوعات الأثيرة عند هؤلاء الشعراء. وهم يجدون في جوها الروحي مجالاً رحباً للتعبير الوجداني والألفاظ «الشفافة» المحملة برموز النور والري، وإن كانوا يختلفون في هذا حسب ثقافتهم ومزاجهم وطبيعة مواهبهم، ومدى ارتباطهم بالتراث أو اندفاعهم إلى التجديد»[5].

     إن هذا الإحياء لتاريخ الأمس المجيد، وبعث رموزه وبطولاته، وتوظيفه للخلاص من الحاضر العاجز البائس، عمل أدبي مشكور، وعمل وطني كريم، بل هو أيضاً عمل ديني إلى جانب هذا وذاك، فمجد الأمس قام على الدين، وبالتالي يجب أن يقوم عليه مجد اليوم والغد.

     وقد كثرت القصائد التي تسير في هذا الخط، وتحول بعضها إلى مطولات، فللبارودي الرائد العظيم، مطولة تحمل اسم «كشف الغمة في مدح سيد الأمة» مطلعها:

يا رائد البرق يمـــم دارة العلم     واحد الغمام إلى حي بذي سلم

     وتقع المطولة في أربع مئة وخمسين بيتاً، وهو فيها يحتذي خطا البوصيري في بردته الشهيرة في إطارها العام، وقيمة هذه المطولة أنها أول قصيدة عربية طويلة في العصر الحديث تتفوق فنياً على مثيلاتها اللواتي سبقنها، فقد تخلصت مما كان فيهن من بديعيات، وقدمت مديحاً للرسول الكريم ﷺ في إطار عصري ناضج أولاً، وثانياً أنها فتحت الباب لمن جاء بعد البارودي من شعراء المطولات ليعبروا عن هموم الأمة وآمالها من خلال التاريخ، ويقتربوا من الشعر الملحمي بدرجة أو بأخرى.

     فكما كان البارودي رائداً في السياسة ورائداً في الشعر، كانت مطولته هذه رائدة في شعر المطولات بجلال موضوعها وقوة لغتها وصدق عاطفتها مما جعل الدكتور شوقي ضيف يصفها بأنها ملحمة[6].

     ولشوقي جملة من المطولات التي تستلهم التاريخ وتوظفه وتقترب من الشعر الملحمي، منها قصيدته «كبار الحوادث في وادي النيل» وهي همزية طويلة تقع في مئتين وتسعين بيتاً نظمها بمناسبة تمثيله مصر في المؤتمر الشرقي الدولي الذي انعقد في جنيف عام 1894م ومطلعها:

همت الفلك واحتواها الماء     وحداها بمن تقــــل الرجاء

     وقد روى في هذه القصيدة تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى تاريخ نظمها أيام الخديوي عباس، والقصيدة جيدة فنياً، متماسكة البناء، متصلة الحلقات، ذات روي واحد، وهي تدل على موهبة الشاعر القوية حيث كتبها في شبابه، وهي تعلو كثيراً على الشعر التعليمي، وتقترب من الشعر الملحمي، لذلك وصفها الدكتور شوقي ضيف بأنها ملحمة[7]، كما وصفها الأستاذ صالح جودت بأنها ملحمة خالدة[8]، وقال عنها الدكتور طه وادي: إنها من الشعر الغنائي الذي تشيع فيه سمة الطابع الملحمي[9].

     ولشوقي مطولة أخرى اسمها «صدى الحرب في وصف الوقائع العثمانية اليونانية» نظمها مبتهجاً بالنصر الذي حققه العثمانيون على اليونانيين في الحرب التي نشبت بينهم عام 1897م زمن السلطان عبد الحميد الثاني، ومطلعها:

بسيفك يعلو الحق والحق أغلب     وينصر دين الله أيـــان تضرب

     وتقع هذه المطولة في مئتين وتسعة وثلاثين بيتاً، وهي متينة البناء، فخمة الأسلوب، قوية اللغة، عنيت كثيراً بتصوير المعارك، وعاطفة الشاعر فيها قوية جياشة، وقد صور فيها فرحه وفرح المسلمين عامة بالنصر الذي مجدته المطولة، وأرخت له، وهي ذات نفس تاريخي وقصصي وتصويري واضح، ولعلها أقرب شعره للشعر الملحمي.

     وقد وصف الدكتور محمد مندور هذه المطولة بأنها تشبه الملاحم، وأنها مقسمة إلى أجزاء كأنها الأناشيد في ملحمة[10].

     ووصفها الأمير شكيب أرسلان بأنها من الملاحم التي أتم بها شوقي نقصاً كبيراً في الشعر العربي[11].

     ووصفها الدكتور ماهر حسن فهمي، ووصف «دول العرب وعظماء الإسلام» بأنهما تحتلان مركزاً وسطاً بين شعر الملاحم والشعر التعليمي[12]. وهو في ذلك يلتقي مع الأستاذ أحمد حسن الزيات الذي وصف المطولتين السابقتين بأنهما تشبهان الملاحم في طول النفس وطلاوة الأسلوب ووطنية الموضوع وعمومية الحوادث، وبأنهما وسط بين الشعر القصصي والشعر التعليمي[13].

     وفي عام 1910م يطلع علينا شوقي بمطولته الشهيرة «نهج البردة»، وهي أشهر قصيدة احتذت بردة البوصيري على الإطلاق، وتقع في مئة وتسعين بيتاً ومطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلــــم     أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

     والقصيدة مثلها مثل قصيدة البارودي، تؤرخ لحياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتذب عن الإسلام، وتشيد بمزاياه، وهي محكمة إحكاماً جيداً، والشاعر يجيد فيها التخلص من موضوع لآخر، في لغة قوية، وأسلوب متين، وعاطفة حية، وتبدو هذه المطولة بجلال موضوعها وقوة بنائها وتصويرها للنموذج الإسلامي الأعلى للبطولة والأبطال وكأنها «مشروع» ملحمة متكاملة الأجزاء.

     والقصيدة من أروع شعر شوقي وأسيره، بل من أروع الشعر الإسلامي في العصر الحديث وأسيره، وقد احتفى الناس بها كثيراً، حتى إن شيخ الجامع الأزهر يومذاك الشيخ سليم البشري قام بشرحها، وقد كتب عنها بإفاضة الدكتور أحمد محمد الحوفي في كتابه «الإسلام في شعر شوقي»، والأستاذ علي النجدي ناصف في كتابه «الدين والأخلاق في شعر شوقي»، والدكتور ماهر حسن فهمي في كتابه «شوقي شعره الإسلامي»، وقد صارت بحق معلماً بارزاً يقف عنده كل دارس للشعر الإسلامي في العصر الحديث.

     ولشوقي قصيدة رائعة اسمها «الأندلس الجديدة» مطلعها:

يا أخــــت أندلس عليك سلام     هوت الخلافة عنك والإسلام

     وهي تقع في مئة وخمسة أبيات، قالها عام 1912م حين استطاع البلغار أن يقتحموا مدينة «أدرنة» بعد حصار طويل. هزم فيه المسلمون العثمانيون وانتصر البلغار. وكان للحرب وجهها الصليبي السافر، وارتكبت فيها فظائع وويلات ومظالم كثيرة، وقد صمد المسلمون المحاصرون صموداً مشرفاً لكنهم هزموا في النهاية.

     والقصيدة في حقيقتها رثاء مدينة، ورثاء دين، وهي مطولة مجدت البطولة والفروسية، وألمت بالتاريخ غير مرة، وصورت الكارثة تصويراً محزناً مؤثراً. وفي القصيدة يبدو لنا شوقي فيلسوفاً ينظر في التاريخ، وسنة الله في الكون، نظراً فيه فلسفة وتأمل وتحذير، وحكيماً يراقب دورة الحياة ومصارع الشعوب والدول، والقصيدة من غرر شعر شوقي، وهي تمت إلى شعر الملاحم بأكثر من آصرة ووشيجة.

     وحين نفي شوقي إلى الأندلس ظفرنا منه بمطولتين شهيرتين، تتصلان بالتاريخ والملاحم.

     الأولى هي «دول العرب وعظماء الإسلام» وهي قصيدة مطولة أبياتها 1526 بيتاً تؤرخ للمسلمين منذ أيام الرسول الكريم ﷺ حتى نهاية الدولة الفاطمية، وقد نشرت عام 1933م أي بعد عام من وفاة الشاعر بشرح الأستاذ محمود خاطر، ومطلعها:

الحــــمد لله القــــديم الباقــــــــي     ذي العرش والسبع العلا الطباق

     وقد وصفها الدكتور طه وادي بأنها «ملحمة تاريخية»[14]. مع أنها أرجوزة تعتمد القافية المزدوجة وتبدو أقرب للشعر التعليمي منها لأي شعر آخر، ولعل الشاعر الذي قل شعره كثيراً في أثناء منفاه في الأندلس أراد بها إزجاء الوقت في منفاه الطويل الممل، ولذلك تبدو أقل من شعره الآخر، الأمر الذي حدا بالدكتور شوقي ضيف إلى أن يصفها بأنها ربما كانت الشيء الوحيد عند شوقي الذي لم يحلق فيه[15].

     أما الثانية فهي «سينية شوقي» الشهيرة التي مطلعها:

اختلاف النهار والليـل ينسي     اذكرا لي الصبا وأيـام أنسي

     وهي مطولة بديعة تقع في مئة وعشرة أبيات، وتلتقي بالتاريخ والملاحم في تصويرها المأساة الأندلسية، وما شهدت حواضر المسلمين فيها كقرطبة وغرناطة من أمجاد ونكبات، وفي المطولة نوع من التأمل في فلسفة التاريخ ودوران الحضارات وصعود الأمم وسقوطها، ويبدو لنا شوقي فيها شاعراً ومؤرخاً وفيلسوفاً، يرقب حركة التاريخ معللاً مفسراً محذراً ناصحاً ملتمساً العبرة والعظة.

     وفي فبراير 1918م يلقي حافظ إبراهيم مطولته الشهيرة «العمرية» التي تقع في مئة وستة وثمانين بيتاً، في حشد كبير حافل يحضره الشعراء والوجهاء والمثقفون، وفي هذه المطولة أكثر من خيط يربطها بشعر الملاحم والتاريخ ومطلعها:

حسب القوافي وحسبي حين ألقيها
               أني إلى ساحـــــة الفاروق أهديها

     وقد أرخ فيهــا حافظ للخليفة العظيم عمر بن الـخطاب، وصور عدله وزهده وفتوحاته ونهايتــه، واستنهض في خاتمتها شبان المسلمين ليقتفوا أثر الخليفة العظيم.

     وتنتقل العدوى الحميدة إلى الشاعر عبد الحليم المصري، فيطلع علينا بمطولته الشهيرة «البكرية»، وواضح فيها أنه يحذو حذو حافظ، فهو يؤرخ لخليفة عظيم هو أبو بكر الصديق كما فعل حافظ، وهو يلقيها في حفل حاشد كما فعل حافظ، وذلك في مايو 1918م، أي بعد حافظ بثلاثة شهور، وتقع المطولة في 211 بيتاً، ومطلعها:

أفضني أبـا بكر عليهم قوافيا     وأمطر لساني حكمة ومعانيا

     وفي المطولة التي تبدو وكأنها مشروع ملحمة، أكثر من نسب ووشيجة تصلها بشعر التاريخ والملاحم.

     وتستمر العدوى المحمودة في سريانها فتصل إلى الشاعر محمد عبد المطلب الذي كان شديد الاعتزاز بالإسلام ديناً، وبالعروبة لغة وتاريخاً وتقاليد، فينظم مطولته الشهيرة «العلوية» ليروي فيها سيرة الخليفة العظيم علي بن أبي طالب، متأسياً خطا حافظ والمصري، ويلقي المطولة بعدهما بعام في نوفمبر 1919م في حفل ضخم حضره الأدباء والمثقفون والشعراء، وعلى رأسهم إسماعيل صبري شيخ الشعراء، وتقع المطولة في 316 بيتاً ومطلعها:

أرى ابن الأرض أصغرها مقاما     فهل جعــــــــل النجوم بها مراما

     وفي عام 1933م يقدم لنا علي أحمد باكثير مطولته «نظام البردة» التي يقفو فيها خطا البارودي وشوقي في النظم على غرار بردة البوصيري، وتقع المطولة في 257 بيتاً، ومطلعها:

يا نجمة الأمل المغشي بالألــم     كوني دليلي في محلولك الظلم

     وجميع هذه المطولات ذات نفس ملحمي واضح يظهر في طولها وروايتها للبطولة وعنايتها بالتاريخ والقصص، مع خلوها ــ بطبيعة الحال ــ من كل عناصر الأساطير والخرافات، لأن أبطالها مسلمون، ولأن شعراءها مسلمون أيضاً.

     وأياً كان حظ هذه المطولات من خصائص الشعر الملحمي يمكن القول إنها «كانت المرحلة الممهدة لظهور الملحمة الشعرية كلون جديد لم يعرفه الشعر العربي من قبل، وبخاصة أن المطولة تكاد تكون ملحمة مصغرة»[16].

     والقصائد التي تستلهم التاريخ وتقترب من النفس الملحمي اقتراباً يماثل المطولات سابقة الذكر، كثيرة جداً في العصر الحديث، وهي تأتي لتغني البطولة، وتمجد الأجداد، وتحث الأحفاد على مغالبــــة الصعاب، وتستثير عزائمهم لمقاومة الاستعمار والصهيونية والظلم والطغيان، وتدعوهم إلى امتلاك ناصية المجد والغلبة، وتهيب بهم أن يبنوا مستقبلهم على هدي ماضيهم في أيام زهوه وسيادته، في سياق وطني ديني أدبي ممتع يوظف التاريخ توظيفاً إيجابياً بانياً، مثل «يوم حطين» لعبد المحسن الكاظمي، و«ثورة بدر» لمحمود حسن إسماعيل، و«جيش أسامة» لأنور العطار، و«عبد الرحمن الداخل» لخير الدين الزركلي، و«من قارة إلى قارة» لعلي محمود طه.

     وربما كانت أشهر الملاحم التي تنحو منحى تاريخياً دينياً في العصر الحديث ملحمة «ديوان مجد الإسلام» أو «الإلياذة الإسلامية» للشاعر أحمد محرم. وقد نظم هذه الملحمة التي تبلغ خمسة آلاف بيت من الشعر استجابة لنداء الأستاذ محب الدين الخطيب الذي هاله أن يكون لكل أمة ملحمة تعتز بها، إلا المسلمين، فدعا على صفحات مجلته «الفتح» الشعراء إلى سد هذه الثغرة، فقام بذلك الأستاذ أحمد محرم، الذي سجل وقائع السيرة تسجيلاً تفصيلياً أرخ فيها كل أحداثها وفق التسلسل الزمني. وعمل الأستاذ محرم فوق الشعر التعليمي الذي نجده عند شوقي في «دول العرب وعظماء الإسلام»، وأهم عيوبه السرد والتقريرية وضعف الخيال، ويمكن أن يعد شعراً غنائياً فيه سمات ملحمية.

     وقد رفض الدكتور شوقي ضيف في الفصل الذي عقده عن هذا العمل أن يعده ملحمة، ورأى أنه مجرد قصائد جمع بعضها إلى بعض وسميت كذلك، ووصفه بالجفاف الشديد، حيث لم يستطع الشاعر أن يضفي الجمال والحيوية على التاريخ وإن كانت بعض خصائصه كشاعر غنائي تظهر من حين لآخر، وقرر أنه زاخر بالفتور ويبعث على الملل والسأم، وانتهى إلى أنه شيء بين الشعر الغنائي والتعليمي[17].

     ويرفض الدكتور أحمد هيكل أن يجعل من عمل أحمد محرم «ملحمة»، وينتهي إلى أنه في جملته قصائد غنائية تستلهم مادة تاريخية، ولا تؤلف ملحمة إلا على سبيل التجوز الذي يجعل الحديث عن البطولة بالشعر المتسم بالطول والإفاضة كافياً لإطلاق هذا الاسم. لقد أراد أحمد محرم «أن يطوع الشعر للقصص التاريخي الحماسي الطويل، فألف نحو سنة 1933م «ديوان مجد الإسلام» ليحكي بالشعر سيرة الرسول وبطولاته وغزواته. وربما أراد محرم بهذا العمل أن يطرق بالشعر العربي فن الملحمة. ولكنه في الواقع لم يخرج ملحمة بالمفهوم الفني لهذا الجنس الأدبي، وإن طاب لكثير ممن تحدثوا عن هذا العمل أن يسموه الإلياذة الإسلامية. وذلك أن الملحمة في حقيقتها -وكما عرفت من أروع نماذجها التي خلفها هوميروس- تعتمد أساساً على الأساطير الشعبية والبطولات الخيالية، التي تصل أحياناً إلى جعل الأبطال في مصاف الآلهة أو أنصاف الآلهة، وهي لهذا كله لا تعنى بالوقائع التاريخية ولا الأحداث الحقيقية، وإنما تعنى قبل كل شيء بالخيال الجامح والتصوير الأسطوري، مما كان يرضي ظمأ الجماهير إلى البطولة الخارقة، وتلهفها على الأبطال الخياليين. أما ديوان مجد الإسلام فبرغم اتخاذه سيرة بطل عظيم مادة، وبرغم تسجيله لمعارك وانتصارات باهرات فإن هذا العمل الشعري قد التزم الوقائع التاريخية، وسجل الأحداث الحقيقية، ولم يعتمد أصلاً على الأساطير ولم يحكم الخيال؛ ثم هو بعد ذلك قد التزم في البناء الفني شكل القصائد الغنائية المتتالية، التي تؤلف في جملتها ديواناً ذا موضوع واحد، هو حياة محمد ﷺ، وبطولاته وغزواته. وقد درج الشاعر على أن يقدم بين يدي القصائد بمقدمة نثرية تجمل الأحداث التاريخية التي ستعالج فيما يلي من أبيات. كذلك درج على التزام الوزن والقافية في كل قصيدة تعالج فصلاً أو موضوعاً معيناً، ثم تغيير الوزن والقافيـــة في القصيدة الأخرى، وهكذا. ومن هنا نرى أن أهم تجديد في هذا العمل، هو معالجته في ديوان كامل لموضوع واحد، هو سيرة الرسول وبطولاته وغزواته. أما بعد ذلك فهو في جملته قصائد غنائية تستلهم مادة تاريخية، ولا تؤلف ملحمة إلا على سبيل التجوز، واعتبار الحديث عن البطولـــة بالشعر المتسم بالطول والإفاضة، كافيا لإطلاق هذا الاسم»[18].

     وللأستاذ عامر بحيري ملحمة عن الرسول الكريم ﷺ اسمها «أمير الأنبياء»، وللأستاذ كامل أمين الذي تخصص في شعر الملاحم التاريخية المطولة عدة ملاحم هي «عين جالوت» و«السموات السبع» و«محمد» و«القادسية»، وللأستاذ إبراهيم العريض ملحمة باسم «أرض الشهداء» يتحدث فيها عن كارثة فلسطين، وللأستاذ بولس سلامة ملحمتان هما «عيد الرياض» و«عيد الغدير».

     ويبدو أن النقد الحديث يتوسع أحياناً في مفهوم الملحمة فيطلقها على المطولات وإن لم تتصل بالتاريخ والحروب والخوارق والبطولات بسبب، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى القصائد التالية «شاطىء الأعراف» لمحمد عبد المعطي الهمشري التي تصفها الأستاذة نازك الملائكة بأنها «ملحمة كاملة تحدث فيها عن رحلته الأولى بعد الموت نحو الحياة الأخرى، والقصيدة تكاد تكون أغنية حب موجهة إلى الموت، لا أثر فيها للحسرة ولا للذكرى، وكأن الشاعر يلتذ بكل لحظة من لحظات موته إن صح التعبير»[19]، وكذلك نجد الأستاذ صالح جودت -وهو صديق الشاعر- يصف القصيدة بأنها ملحمة[20]، ونجد الدكتور محمد فتوح أحمد يصفها بأنها ملحمة ذائعة[21].

     ومطولة «ثورة في الجحيم» للشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي البالغة أربع مئة وخمسة وثلاثين بيتاً، تصفها نازك الملائكة بأنها ملحمة[22]، ويعدها الأستاذ أحمد أبو سعد ملحمة[23]. أيضاً، علماً أنها لا تتصل بالبطولة أو التاريخ، بل هي قصيدة ذات منزع فلسفي تأملي تتخيل ثورة تحدث في الجحيم، اعتراضاً على الظلم الذي يتوهمه الشاعر واقعاً على سكانه، وتدور أحداثها في القبر حيث يرى الشاعر أنه مات، وبعد ذلك في الجنة والنار والسماء، وهي دعوة للتمرد على الدين والمجتمع والتقاليد.

     والدكتور شوقي ضيف يصف مطولة الشاعر المهجري فوزي المعلوف «على بساط الريح» بأنها ملحمة[24]، علماً أنها تصور رحلة يقوم بها الشاعر في السماء ويتصل فيها بعالم الغيب، في سياق فلسفي تأملي.

     والأستاذ صالح جودت يصف مطولة الأستاذ عباس محمود العقاد «ترجمة شيطان» بأنها ملحمة[25]، وهي قصيدة فلسفية لا علاقة لها بالمأثور من شعر الملاحم في قليل أو كثير.

     والدكتور زكي المحاسني يصف قصيدة ابن الرومي في فتنة الزنج في البصرة بأنها ملحمة مع أنها أقرب إلى الرثاء العام منها إلى أي شيء آخر[26].

     ومع هذا التوسع المتسامح لمفهوم الملحمة يمكن أن نعد من شعر الملاحم مطولة «عشتروت وأدونيس» لحبيب ثابت، ومطولة «عبقر» للشاعر المهجري شفيق المعلوف، ومطولتي الشاعر علي محمود طه «الله والشاعر» و«أرواح وأشباح».

     ومن المطولات الملحمية التاريخية خارج نطاق التاريخ العربي والإسلامي قصيدة «نيرون»[27] الشهيرة لخليل مطران، وهي قصيدة طويلة ذات روي واحد تقع في ثلاث مئة وثمانية وعشرين بيتاً ألقاها عام 1924م في الجامعة الأمريكية ببيروت، مطلعها:

ذلك الشعب الذي آتاه نصرا     هو بالسبة من نيرون أحرى

     والقصيدة هجوم على الظلم في شخص نيرون، وعلى الشعوب التي تمكن لهم، فلولا العبيد لما كان الطغاة. وقد عدها الدكتور شوقي ضيف «ملحمة كاملة»[28]، وعدها الدكتور جابر قميحة ملحمة أيضاً[29]. كما وصفها الدكتور جمال الدين الرمادي بأنها «ملحمة» لأن مطران اقترب فيها من ذوق الشعر الملحمي الغربي بخصائصه المعروفة[30].

     والحديث عن الملاحم يقتضي منا أن نشير إلى أن الأستاذ سليمان البستاني قد عرب إلياذة هوميروس، وعمل في ذلك 18 عاماً، وقد قسمها إلى 24 نشيداً، وقد صدرت عن مطبعة الهلال في القاهرة عام 1904م.

     وعمل الأستاذ البستاني عمل مشكور، إذ إنه وضع بين أيدي الشعراء والنقاد في مطلع القرن العشرين -حيث تتحفز الأمة للنهضة من خلال محاور شتى منها الشعر- أول ملحمة شعرية في التاريخ الإنساني. ولا يخفى على أحد أن النقاد يكادون يجمعون على أنها كانت المنطلق الذي بدأت منه، وسارت كل الملاحم فيما بعد، وأن خصائصها وموضوعها قواعد لكل الملاحم التي اقتفت آثارها، كما يقرر الأستاذ حسن محسن[31].

     هذا ومن الطبيعي أن تتفاوت آراء النقاد والدارسين في الشعر الملحمي، فمثلاً يرى الدكتور زكي المحاسني «أن كل شعر طال أو قصر، إذا وصفت فيه المعارك، وسردت فيه أخبار البطولة، ورويت فيه ملاحمات الجهاد هو من شعر الملاحم»[32]، وهذا الرأي لا يجعل النموذج اليوناني هو النموذج الذي ينبغي أن يحاكيه كل عمل ملحمي، ولعله أقرب إلى ذوق اللغة العربية وآدابها، فكلمة «ملحمة» في اللغة العربية تعني الوقعة العظيمة، والشعر الذي يتضمن أحداث المعارك ووقائعها هو شعـــر ملاحم. ويدعم رأي الدكتور زكي المحاسني أننا نجد أبا زيد القرشي في «جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام»، يطالعنا بسبع قصائد تسمى «الملحمات» كلها تشترك في تصوير الحياة البدوية وما يتخللها من لهو بريء أيام الصبا، ومن تطاحن عنيف بين القبائل أيام الحروب، وهذه القصائد للفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة، والكميت، والطرماح.

     أما الملحمة عند الأستاذ أحمد حسن الزيات فهي «حكاية شعرية في الغالب لأمر خارق عجيب، أو عمل حماسي عظيم له أثر في حياة شعب بأسره، فهي تختلف عن الرواية بأنها تحكي الحادث وهذه تمثله، وعن التاريخ بأنها تخلق وتبالغ وتؤثر بالصور الكلامية الخلابة، وهو يروي ولا يبتدع، ويحقق ولا ينمق، ويصدق ولا يمين»[33].

     ويلتقي رأيا الأستاذين الزيات والمحاسني في أنهما لا يشترطان لوازم النموذج اليوناني للملحمة من تدخل الآلهة في المعارك وانحيازها إلى هذا الفريق أو ذاك، وبذلك هما أقرب للحس الإسلامي والعربي، وضمن هذا الفهم الواسع والمتسامح منهما للملحمة تدخل قصائد كثيرة قديمة وحديثة في باب الشعر الملحمي.

     أما الأستاذ سامي الكيالي فله رأي يقف على النقيض من رأي الدكتور المحاسني، فعنده «أن الملحمة عمل قصصي له قواعد وأصول، يشاد فيها بذكر الأبطال والملوك وآلهة الوثنيين، ويتألف من أناشيد عديدة نظمت في وصف حرب من الحروب ووصف جيوشها وأبطالها والأمكنة التي دارت فيها، تشترك الآلهة في وقائعها وتقوم على الخوارق والأساطير، وما أظن أن أرجوزة من بضع مئات من الأبيات مهما كان لونها تعد من أدب الملاحم»[34]، وواضح أن رأي الأستاذ الكيالي يجعل النموذج اليوناني هدفاً ومثلاً، ووفق معياره هذا لا يوجد شعر ملحمي في الأدب العربي قديمه وجديده.

     وللدكتور محمد مندور رأي يتجاوز الآراء السابقة جملة وتفصيلاً، ومؤداه أن فن الملحمة فن لا ينسجم مع طبيعة العصر، ومرد ذلك أن شعر الملاحم الذي ظهر في التاريخ القديم للبشرية كان مقبولاً لأنه يغذي في الناس يومذاك ما هم بحاجة إليه من بساطة وسذاجة وطفولة نفسية وعقلية مما لم يعد يحتاجه إنسان اليوم ولا يطيقه، ومن أجل ذلك لم تعد الإنسانية تقرأ وتشغف إلا بالملاحم القديمـــة «كالإلياذة والأوديسة والإنيادة في الغرب، والمهابهارتا والراميانا في الهند، والشاهنامة في فارس، والواقع أن الآداب الفنية في العصر الحديث قد تركت فن الملاحم للآداب الشعبية...، وأن محاولة بعض شعرائنا المحدثين كتابة الملاحم إنما هو ضرب من المجازفة الذي يتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية، وما نظن أن أحداً منهم يستطيع أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة والسذاجة الساحرة التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة»[35]. وهذا الرأي المتفرد للدكتور محمد مندور يطوي صفحة الشعر الملحمي، ويجعلها تاريخاً أدى مهمته ذات يوم، ولم يعد يصلح للعصر ولم يعد العصر يطيقه.

     والدكتور مندور مصر على رأيه هذا لأننا نراه يؤكده مرة ثانية قائلاً: «ففن الملاحم يلوح أنه قد انقرض بانقراض العقلية البدائية والمرحلة الحضارية التي اتسعت له»[36]. ومرة ثالثة قائلاً: «إن فن الملاحم قد عفَّى عليه الزمن منذ عهد طويل بعد أن تخطت الإنسانية دور طفولتها الأولى التي كانت تخلق فيها الأساطير لتحيط بها معارك بطولتها، وتتغنى بتلك البطولات الأسطورية في سذاجة ساحرة»[37].

     وللدكتور الطاهر أحمد مكي رأي مشابه لرأي الدكتور مندور يقرر فيه: «وفي العصور الحديثة حاول عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر كتابة ملاحم، وكلهم فشلوا جميعاً وطوى الزمن ملاحمهم، ولم تعد الإنسانية تقرأ أو تعجب بغير الملاحم القديمة»[38].
❊❊❊

     ترى أين يقف شعر عمر أبو ريشة الملحمي في هذه الآراء النقدية المتعارضة إزاء الملحمة؟

     أياً كان الأمر فإننا سوف نقف على قصيدتيه الشهيرتين «خالد» التي نظمها عام 1938م، و«محمد» التي نظمها عام 1941م، ونتجاوز ما وعد به من أعمال لم تر النور على كثرة الوعد وتطاول الزمن.

     فإذا بدأنا بالقصيدة الأولى «خالد» التي تقع في تسعة وستين بيتاً، والتي تجري على البحر الخفيف الذي يؤثره الشاعر وعلى روي واحد هو النون المكسورة المسبوقة بألف ممدودة، نجد الشاعر يخاطب راويات الزمان في مقطع يشكل أربعة عشر بيتاً أولها:

لا تنامي يا راويات الزمـان     فهو لولاك موجة من دخـان

     وهو يطلب في هذه الأبيات من راويات الزمان ألا تغفل عن مهمتها في رواية التاريخ وتسجيل وقائعه، فبذلك يخلد التاريخ، وبدونه يصبح موجة ضائعة من الدخان تتبدد وتتلاشى، والعصور تظل غضة طرية، والحياة تظل تبسم، ذلك أن الراويات تسجل كل شيء، ولذلك يطلب منها الشاعر أن تلتفت إليه، وألا تبخل عليه بحكاياتها الملهمة وأساطيرها الموحية، فروحه ظمأى إلى ذلك تريد أن تجعل منها صلاة في القلوب وأغاني في الشفاه.

     ثم يطلب منها أن تجدد صلته بماضي المسلمين المجيد، لينفض الغبار عن أردانه، ولتستيقظ في وجدانه ذكريات الأجيال الكريمة ومواكب الطيوف الرانية ليجد نفسه في زمن البعثة الشريفة، والفتوح الهادية، والمجد والكرم والبيان، يحفل بذلك كله موطنه الصحراوي المقفر الذي يمتلئ قلبه إعزازاً له وإكباراً، فهو منبت المجد والجمال وهو ساحة الكرم والعطاء.

     وفي الأبيات الخمسة التالية نجد أنفسنا مع بني مخزوم، وهم قوم خالد، يستعدون لطلب الثأر من المسلمين في «أحد» لعلهم يغسلون ما حل بقريش من هزيمة في «بدر». وفي هذه الأبيات يرى الشاعر ونرى معه، خيام بني مخزوم تجوس خلالها الرجال والخيل في غضب يعصف بالعقول حيث يستعد القوم لرحلة الانتقام، وهدفها هو النبي الكريم ﷺ تريد الثأر منه، وينتهي المشهد والخيل مسرعة إلى «أحد» تخطف الأرض خطفاً.

     في المشهد التالي نجد أنفسنا في ساحة المعركة في «أحد» حيث يلتقي الحق الذي ينشد الهداية بالجاهلية السادرة في عبادة الأوثان، وتقوم المعركة عنيفة مهولة تتحطم فيها السيوف وتتقصف الرماح، وتلوح بشائر النصر للمؤمنين الذي تلهيهم بروق الأطماع عن واجب الجهاد، فما يشعرون إلا بسيوف المشركين تحيط بهم وتتخطفهم، وفي الطليعة فتى مقدام يطيح برؤوس المؤمنين وينتزع الإعجاب ببطولته وإقدامه، وهو خالد الذي لا ينسى أن هدف المعركة هو قتل النبي ﷺ، فيسرع نحوه، لكن شيئاً غير عادي يحدث، فمهره يكبو وسيفه لا يقوى وقدماه لا تتحركان، فيعود وفي قلبه هاجس كريم من هداية الله، وتلك هي إشراقة الإيمان الأولى التي ما تلبث بعد ذلك أن تفيض.

     ويراجع المؤمنون أنفسهم فيخجلون من تقصيرهم إذ عصوا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وخالفوا أمره حين حدد لهم واجباتهم القتالية مما أتاح الفرصة للمشركين أن يهزموهم، ومما أتاح الفرصة لبروز هذا البطل المخزومي الفريد الذي فتك بهم، غير أن النبي الكريم ﷺ ما يلبث أن يأخذ زمام المبادرة، فيجمع صفوف أصحابه من جديد، ويحذرهم من الزيغ والضلال.

     بعد ذلك يقفز عمر أبو ريشة فوق الأحداث ليطوي مرحلة زمنية يسلم فيها خالد ويموت فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويأتي عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لنجد الفتح الإسلامي يمتد في العالم، ولنجد خالداً أبرز رموزه وصانعيه، وعليه وشاح البطولة، ومن حوله زغاريد النصر وأناشيد الجهاد، وقد ظهرت عبقريته العسكرية المتفردة، وثباته ورباطة جأشه، يمضي في غرب الأرض وشرقها، وكأنه بجهاده البطولي لإعزاز الإسلام يكفر عما كان منه يوم أحد، ويصدق الفاتح العظيم مع الله عز وجل فيمُنُّ الله عليه بالنصر تلو النصر، فإذا صداه في كل مكان، وإذا المآذن تصدح بالأذان حيث حل، وإذا الروم في اليرموك يلقون على يديه شر هزيمة، تحمر الأرض من دمائهم، ويجري نهر اليرموك بجثث قتلاهم.

     ويتناقل المؤمنون في كل مكان أخبار الفتوح الرائعة التي يصنعها خالد للمسلمين، فإذا بالجميع رجالاً ونساء يتحدثون عنه، ويكادون يجعلونه سبب النصر، فيفطن إلى ذلك الخليفة العظيم، ويريد أن يقضي على الفتنة التي ربما تطل فينحيه عن القيادة ويؤمر عليه وعليها أبا عبيدة، فيكشف هـــذا العزل عن أصالة خالد ومعدنه النفيس وإيمانه القوي حيث لم يغضب للعزل، وازداد بطولة وتفانياً، ومضى يقتحم الأسوار، فقد راضته العقيدة على العطاء وطهرته من دواعي الأثرة المقيتة.

     بعد ذلك يأتي دور الشاعر الذي يناجي البطل الفاتح وهو بين يدي الله عز وجل ويعاهده أن يكون لسان حق لا يجبن عن الجهر به مهما عصف البغي، ويشكو إليه حالة الأمة اليوم، لكنه يلتمس لها العذر، فهي مازالت موئل البطولة والشجاعة، وكوارثها اليوم تعود أسبابها إلى من قادوها وتولوا أمرها.

     ويعود الشاعر في نهاية القصيدة ليناجي راويات الزمان يبثها حزنه ومتاعبه ويطلب منها أن تكون عوناً له فيما يلاقي من عنت ومشقة، ويطلب منها أيضاً أن تكون منارة للأجيال الجديدة تنفض عنها النوم وتهديها سواء السبيل.

     أما قصيدة «محمد»؛ فقد نظمها عمر أبو ريشة بعد ثلاث سنوات من قصيدته «خالد» ودائماً كان يضع بجوار عنوانها هذه الجملة «مقدمة ملحمة النبي» التي لم تر النور مع كثرة الوعود وتطاول الأيام، وتقع القصيدة في مئة بيت، وهي أيضاً على البحر الخفيف الذي يؤثره الشاعر، ولها روي واحد هو الهمزة المكسورة المسبوقة بألف ممدودة، ومطلع القصيدة:

أي نجوى مخضلة النعماء     رددتها حنـاجـر الصحراء

     تبدأ القصيدة ببزوغ فجر الرسالة المطهرة الذي يغضب قريشاً خوفاً على وثنيتها فتمشي إلى الكعبة المشرفة وترتمي على اللات والعزى تجأر بالدعاء وتطلب العون وتنحر القرابين، ثم تعود بعد ذلك وقد ركبها من جاهليتها العمياء الزهو والخيلاء، ولكن الشاعر ينظر إلى رعاية الله عز وجل للناس وهدايته إياهم، فيطلب منها ــ ساخراً ــ أن تعربد ما تشاء، لأن عربدتها لن تقف أمام قدر الله عز وجل الذي شاء أن تظهر النبوة في قفر مكة المكرمة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما ظهرت من قبل في قفر سيناء على يدي موسى عليه السلام.

     بعد ذلك نجد أنفسنا في رحاب بني هاشم والبشر يخلع عليهم مطارف الخيلاء، والسعادة تملأ أقطار نفوسهم وهم يحيطون بالوليد العظيم اليتيم الذي تزاحم الغبراء تيهاً به مناكب الجوزاء.

     يلي ذلك المشهد الذي نرى فيه اليتيم الكريم في ديار بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية التي تحبه حباً جماً لما رأت فيه من خير وبركة ويمن، لذلك تحزن أشد الحزن حين ينتهي مقامه عندها ويعود إلى أمه آمنة، فما يلبث أن يفقدها كما فقد أباه من قبل فينشأ يتيم الأب والأم. ويشب اليتيم الكريم بعيداً عما يشيع بين أترابه من عماية وغواية متصفاً بكل خلق نبيل، فتجمع قريش على حبه وتلقبه بالأمين، وتنشر ذكره الطيب العطر بين الناس، ويجد نفسه بفطرته النقية وعقله الراجح رافضاً لوثنية قومه معتزلاً لها ناقماً عليها.

     وتأتي لحظة الخير والسعادة له ولقريش وللناس أجمعين حين يفاجئه جبريل عليه السلام في غار حراء طالباً منه أن يقرأ، ويقرأ اليتيم الكريم ما نزله عليه ربه عز وجل، فيكون النبي العظيم الخاتم، ويبدأ بذلك عهد النبوة الزاهر يحمله إلى كل مكان رسول كريم لم يعرف القراءة والكتابة.

     بعد ذلك نقفز ثلاثة عشر عاماً لنجد أنفسنا يوم الهجرة حيث هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة ليقيموا فيها دولة الإسلام، وتعمل قريش بكل وسعها لمنع الرسول الكريم ﷺ من الهجرة، وتعزم على قتله لكن الله عز وجل يبطل كيدها فيخرج ومعه الصديق إلى غار ثور ترعاهما عناية الله حتى إذا هدأ الطلب عنهما هاجرا إلى المدينة المنورة، وعادت قريش خائبة حزينة والرياح تعصف بالرمال وتنثره على وجوهها الغاضبة.

     بعد ذلك نجد أنفسنا في المدينة المنورة وقد وصلها الركب الكريم فهي سعيدة به، سعيدة بالدعوة الجديدة، وأذانها المبارك وصلاتها الطهور، سعيدة بالإنسان الجديد الذي تطهر من أدران الجاهلية ووهب نفسه للرسالة الكريمة، ولكن الغضب لم يزل يملك على قريش أقطار نفوسها، فهي حاقدة، عنيفة، عنيدة، تعتدي على من تناله أيديها، وتتردى في خسة تغضب المروءة وتستفز الغضب، مما يجعل الصدام بينها وبين الدعوة الجديدة أمراً لا مفر منه، وما كان ذلك ليروق للنبي الكريم ﷺ، ولكن الحلم إذا أخفق فلابد من السيف، وهنا نجد أنفسنا في مشهد جديد هو معركة بدر.

     تقع معركة بدر في السنة الثانية للهجرة بين الإسلام الهادي والوثنية المتخلفة، وكانت قريش في زهوها وقوتها وكثرتها خلافاً للمسلمين الذين كان سلاحهم الإيمان والعزيمة، ويبدأ القتال بالمبارزات الفردية فتكون الغلبة للمؤمنين، فتنشب المعركة العامة ويطغى الهول، والنبي الكريم يدعو ربه، ويمن الله عز وجل بالنصر على المؤمنين، فتعود قريش إلى ديارها خاسرة خائبة تبكي قتلاها، وتستعد للثأر ناسية أن الله عز وجل نصر المؤمنين في بدر نصراً باقياً شاءت أو لم تشأ.

     يلي ذلك مشهد يختزل أحداثاً كثيرة حيث يهزم المسلمون في أحد، لكن موكبهم الظافر لا يتوقف فتتوالى انتصاراتهم ويكون في قمتها ذلك اليوم السعيد الذي تفتح فيه مكة المكرمة، وتطهر من الأوثان، وتعلو راية التوحيد، ويقف الرسول الكريم ﷺ في قمة انتصــاره ليترفع عن الانتقـام ويفي بالعهود ويمن بالعفو الجميل على من أساء.

     نجد أنفسنا بعد ذلك في المشهد الذي يصور وفاة الرسول الكريم ﷺ، والحزن الذي يعصف بالمؤمنين، حتى يقع الفاروق ــ على جلالة قدره ــ في الخطأ حين يأبى أن يصدق خبر الوفاة، لكن الحقيقة ما تلبث أن تتضح وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات لكن دينه باق لا يتطرق إليه فناء.

     يقفز عمر أبو ريشة بعد هذا المشهد قفزة بعيدة نرى فيها الفتوح تتوالى، فتغمر بنعماها فيما تغمر الشام والعراق والأندلس، وتملأ الأرض عدلاً ونوراً.

     ويعود عمر أبو ريشة ليناجي الصحراء في آخر القصيدة كما ناجاها في بدايتها طالباً منها أن تعيد للعرب أمجادهم ذلك لأن دأبها العطاء ولو صمتت إلى حين.
❊❊❊

     بعد هذا الاستعراض الدقيق للقصيدتين، يمكن للدارس أن يقرر أن فيهما جملة من خصائص الشعر الملحمي التي تسوغ انتسابهما إليه، وهي:

(1) المطلع الذي يطلب فيه الشاعر العون، ويبدو ذلك من مخاطبة الشاعر راويات الزمان في مطلع قصيدته «خالد» حيث يطلب منها وعي التاريخ وتسجيله، ويطلب أن تبل غليله من حقائق وأساطير، يتعهد لها أن يحفظها ويردها لها صلوات لا تنتهي وأناشيد لا تبيد:

لا تنــامي يا راويـات الزمـــان     فهو لولاك موجـــة من دخـــان
تتـوالى عصـــوره وبهـــــا من     ـك ظـــلال طريـــــة الألـــوان
أبــداً تبســـــــم الحيــــاة عليـها     بســـــمة المطمئــــن للحدثـــان
أسمعيني حفيــف أجنـــحة الإلـ     ـهام من أفقـــــك القصي الداني
وانثري حوله الأسـاطير فـالرو     ح على شبـــه غصـة الظمـــآن
حسبــها أن أردها لك مــن قلـــ     ـبي صــلاة ومن شفاهي أغاني
راويات الزمان هل شعر الرمـ     ـل بنفض الغبـــــار عن أرداني

     وكما بدأ الشاعر قصيدته بمناجاة راويات الزمان، يختمها بمناجاته إياها مرة ثانيـــــة:

راويات الزمان ما لي أناجيـــ     ـــك وما لي أغص بالأشجـان
اغسلي الذكريات عني فما لي     في احتمال العبء الثقيل يدان
أو فسيلي مـراوداً تنثر الكحـــ     ـــل ضياء في مقلة الوسنـــان

     هذا العمل من الشاعر هو في حقيقته، تجاوز لعالم المادة، يتطلع فيه إلى قوى غيبية غير منظورة يستلهمها العون ويطلب منها الإلهام، ولعل الشاعر تذكر ما يزعمه اليونايون القدماء من أن هناك آلهة للفنون ومنها الشعر، تمنع أو تعين الشعراء الذين يظلون دائماً خائفين من منعها مؤملين في عطائها. وربما يكون قد نظر إلى استهلال هوميروس للإلياذة فتأسى به، وهو ما قرره الدكتور محمد فتوح أحمد، إذ جعل عمر أبو ريشة في افتتاح مطولته في خالد بمناجاة راويات الزمان إنما كان يحتذي خطا هوميروس في الإلياذة والأوديسة، وجعل نجوى الشاعرين ترجع إلى التعويل على فيض فني يتنزل إليهما من طاقة غيبية[39]. ومطلع عمر أبو ريشة جعل لقصيدته سمة ملحمية، ارتفع بها فوق الوقائع وفوق الجدية والرتابة والتكرار النمطي في حياة تتشابه باستمرار، وتحرر من أسرها، وعاد إلى عالم فيه الطفولة العقلية والنفسية، والبساطة الساحرة بحقائقها وأوهامها، والأحلام المجنحة، والأساطير الطريفة، والبدائية الأولى بسذاجتها وغرارتها وبعدها عن العقل والمنطق وما إلى ذلك، مما يلبي في النفس الإنسانية حاجتها حين تريد أن ترتد أحياناً إلى الطفولة التي تصدق الخرافات وتأنس للخوارق وتسعد بالأساطير.

     والملاحظ أن الشاعر لم يأت بمثل هذا المطلع في قصيدته الثانية «محمد» التي نظمها عام 1941م أي بعد ثلاث سنوات من قصيدته «خالد»، وقد يكون السبب أنه عدل عن الإحساس بضرورة محاكاة النموذج اليوناني، أو لأنه شعر أن مثل هذا المطلع لا يليق في مقام الحديث عن الرسول الكريم ﷺ، إذ كيف يأتي بأشياء وثنية أو أسطورية وهو يمجد الرجل العظيم الذي جاء دينه ليقضي على الأوثان والأساطير.

     وعلى كل حال لقد اختار عمر أبو ريشة في قصيدة «محمد» مطلعاً موفقاً صور فيه حاجة الجزيرة العربية إلى البعثة الشريفة تصويراً بديعاً جعل فيه الصحراء تردد نجواها المتعطشة إلى من ينقذها من ليل الجاهلية والوثنية والتيه والضلال وأشواقها إلى الفجر الجديد الذي سوف يبني لها حياتها على قواعد العدل والهداية والتوحيد والسلام، وما إلى ذلك مما كان يتردد لدى العقلاء والحنفاء والأحبار قبيل البعثة النبوية الشريفة، وكان يعد من إرهاصات البعثة ومقدماتها ومطالعها:

أي نجوى مخضلة النعماء     رددتها حناجــر الصحراء

     وكما كان مطلع الشاعر موفقاً كان ختامه موفقاً أيضاً، إذ ختم قصيدته بمناجاة الصحراء، رابطاً بينها وبين المجد، طالباً منها أن تعيد للعرب والمسلمين مجدهم، وفي هذا تذكير بمهد الرسالة الأولى الذي يرجى منه أن يكون مهد المنطلق الجديد، وفيه تذكير أيضاً بما يشيع في الصحراء من أخلاق الرجولة والمروءة والحرية والبطولة مما يعد لوازم لا غنى عنها لصانعي الانطلاقة الجديدة، وفيه أيضاً تذكير بهوية الجزيرة العربية وصحرائها، وهي هوية المؤمن صاحب القضية وحامل عبء الرسالة والعامل على نشر أنوارها في العالمين:

يا عروس الصحراء ما نبت المجـ
               ـــد على غـيــر راحة الصحـــراء
كلما أغرقت ليــــاليهــا فــي الصـ
               ـصـمـت قـــامت عن نبــأة زهراء
وروتها علــى الوجــــود كتــــابــاً
               ذا مضاء أو صارمــــاً ذا مضـــاء
فأعيـــدي مجــــد العروبـة واسقي
               من سنــــاه محـــاجــــــر الغـبراء
قد تـــرف الحيــــــاة بعــد ذبـــول
               ويليـــن الزمــــــان بعـــــد جفـــاء

     وهكذا بدأت القصيدة بالصحراء وما يتصل بها ويشيع فيها من تشوف وأمان ورغاب، وختمت بالصحراء وما يتصل بها ويشيع فيها من تشوف وأمان ورغاب، فبدأت بأمل محمود، وختمت بأمل محمود، وهو أليق ما يقال في مقام الحديث عن النبي الكريم ﷺ ورسالته الكريمة. وإذا تذكرنا أن قصيدة «خالد» بدأت بمخاطبة راويات الزمان وانتهت بمخاطبتها كذلك، وأن قصيدة «محمد» بدأت بالصحراء وانتهت بها كذلك، أمكن لنا أن نعد اختيار الصحراء في «محمد» بديلاً عن الراويات في «خالــد» عمــــلاً واعياً مقصوداً من الشاعـــر، تجنب فيه الأساطير وما يتصل بها إجلالاً لمقام النبوة، وحسناً فعل، واختار بديلاً مناسباً ومؤدياً وموحياً ووثيق الارتباط بالرسالة من قبل ومن بعد.

     وقد فطن الدكتور حلمي محمد القاعود إلى توظيف عمر أبو ريشة للصحراء في أول قصيدته «محمد» وآخرها هذا التوظيف الإيجابي فقال: «وإذا كان مطلع القصيدة ينطلق من الصحراء ومن اهتزازها للبشارة بمحمد فإن الشاعر يختتم أيضاً بمخاطبة الصحراء، ويرى فيها دائماً القدرة على النبت الجديد أو البشارة المتجددة كلما أغرقت لياليها في الصمت والسكون، ولعل خطاب الشاعر للصحراء كان محكوماً بحلمه الجميل في استعادة مجد الأمة أو العروبة التي طال ليلها وصمتها، وفي هذا المقطع الختامي، رغم ضجيج النصر وفرحة المنتصرين، رنـــة الأسى والحــزن على واقع الأمة وإحساس الشاعر بالذبول والجفـــاء»[40].

(2) الطول؛ إذ الملاحظ أن قصيدتي الشاعر طويلتان جداً بالقياس إلى أكثر شعره فقصيدته «خالــد» تقع في تسعة وستين بيتاً، وقصيدته «محمد» تقع في مئة بيت، والطول إحدى سمات الشعر الملحمي. حقاً إن القصيدتين لا تصلان في عدد أبياتهما إلى ما اعتاده الناس من طول القصيدة الملحمية، ولكنهما حين تقرنان إلى بقية شعر عمر أبو ريشة تبدوان طويلتين، ذلك أن أكثر شعره قصائد قصيرة، بل إن كثيراً من هذه القصائد لا يصل إلى عشرة أبيات، مما يدل على أن هذه القصائد كانت تعبيراً عن تجارب ومواقف محدودة خلافاً للقصيدتين الطويلتين «خالد» و«محمد».

(3) وثمة سمة ملحمية ثالثة نجدها في هاتين القصيدتين، وهي غياب الجانب الذاتي فيهما، وبروز الجانب الموضوعي، ذلك أن الشعر الملحمي تعبير عن وجدان جمعي وأمان عامة وهموم قومية لا مجال فيها لنوازع الشاعــر الخاصـــة، وهذا هــو ســر احتفاء الناس به، إذ يجدونه وكأنه يعبر عن نفوسهم جميعا خلافاً للشعر الذاتي الذي قد يتفاعل معه الناس، وقد لا يتفاعلون إذ لا يجدون ما يشدهم إلى تجارب ذات خصوصية مفرطة.

     ودراسة القصيدتين تدل على سيطرة الوجدان الجمعي عليهما، وهو من آثار التعميم الموضوعي الذي تستدعيه طبيعة الشعر الملحمي. ونحن لا نجد في قصيدة «محمد» أي جانب ذاتي ولو قل، ولا نجد في قصيدة «خالــد» إلا هذه الأبيات الثلاثة:

لا رعاني الصبا إذا عصف البغـ      ـي، وألفى فمي ضريح لســــاني
أقســـــم المجـــــد أن أقطـع أوتـا     ري عليـــه بأكــــرم الألحــــــان
أنا مـــن أمـــة أفـــاقت على العزْ     زِ، وأغفت مغـــموسة في الهوان

     وهذه الأبيات الثلاثة -وإن ظهرت فيها ذات الشاعر- هي بمنزلة توظيف لملكته البيانية من أجل قضية الأمة، فهو يأبى أن يسكت حيث ينبغي له أن يقول، خاصة أن المجد أقسم عليه أن يكون شاعراً ينشد أمته أناشيد البطولة ويحفزها إلى الخلاص مما هي فيه من هوان، ويطالبها أن تستشرف ما يليق بها من مكان بحكم جدارتها السابقة.

     وتبقى هنا قضية مهمة تتعلق بصلة الشعر الملحمي بالوجدان الجمعي الذي يعبر عن وجدان المجموع لا وجدان الفرد، وهذه القضية هي نظرة الشعراء خاصة في العصور التي تضعف فيها الأمة ويتكالب عليها أعداؤها إلى الشخصية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. وخلاصة هذه النظرة أنهم يجدون فيها صورة المنقذ القومي إلى جانب صورة المنقذ الهادي الديني، وكأنهم يلتمسون من استلهام مواقفها وتاريخها وذكرياتها نصراً يغسلون به عار الواقع، ويتغلبون فيه على الأعداء. لقد سكنت الشخصية المحمدية بملامحها الغنية العظيمة وجدان كل عربي، «ولا شك أن الملامح المحمدية في صورتها العامة قد استولت على الاهتمام الأكبر للشعراء خاصة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، فتوقف الشعراء عندها باعتبارها الملاذ الذي يناغي أحلامهم ويهدهد أشجانهم ويقودهم رغم أي شيء إلى تحقيق الحلم في الوجود الظافر القوي المتحضر، وقد اعتمد الشعراء على الملامح العامة كقناع يتحدثون من ورائه عن هموم الأمة وأحلام المسلمين في واقع أفضل، واتخذوها رمزاً يعبرون به أو يدافعون به عن هوية الأوطان الإسلامية وشخصيتها الذاتية. وقد رأى الشعراء العرب في هذه الملامح المحمدية صورة المنقذ القومي ورسول الإنسانية ورمز التفوق والحضارة، فقد نظروا إليه من خلال صورة المنقذ القومي باعتباره الأمل في حفز المسلمين على الجهاد والتضامن ومواجهة الأعداء وتجاوز الخيبة التي أصابت المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري أمام جحافل المستعمرين والغزاة»[41].

     ولم يكن الشعراء العرب في العصر الحديث بدعاً فيما صنعـوه إزاء تعاملهـم مع الشخصية المحمدية حين وجدوها رمزاً للبطولة والإنقاذ والحكمة والنصر، فالقضية قديمة، وهي تبرز أكثر ما تبرز في فترات المواجهة العنيفة خاصة حين تكون الأمة مغلوبة والعدو غالباً، ففي زمان المواجهة الإسلامية مع التتر والصليبيين «كانت الشخصية المحمدية هي المحور الذي دارت من حوله الأشعار والمطولات باعتباره رمز الانتصار المؤزر والحكمة البالغة والبطولة الظافرة، وكان لذلك التصور أثره الكبير في صمود الشعوب العربية والإسلامية حتى تغلبت على الغزوة التترية والغزوات الصــليبية جميعاً...، وقد تعامل الشعراء في القرن الرابع عشر الهجري مع الشخصية المحمدية من خلال ملامحها الخاصة والعامة، بقصد الدفاع عنها والدفاع بها في وجه الهموم الذاتية والهموم الإسلامية والقومية والوطنية جميعاً، ولكل من حالتي الدفاع قيمتها الفنية وظروفها التي تبررها. وإذا كان معظم الشعراء المحافظين قد تبنوا حالة الدفاع عن الشخصية المحمدية، فإن الشعراء المجددين قد خطوا خطوة أكثر تقدماً حين دافعوا به في وجه الهموم والهجوم الذي قوبل به الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرن الرابع عشر»[42].

     ويقرر الدكتور ماهر حسن فهمي أن الشعر الذي يدور حول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ازدهر في ثلاث فترات، الأولى: في فترة الدعوة الإسلامية أيام البعثة الشريفة، والثانية: في فترة الحرب الصليبية، والثالثة: في العصر الحديث. ويرجع سبب هذا الازدهار إلى إحساس المسلمين بالخطر الماحق في هذه الفترات الثلاث، بحيث يتلفتون باحثين عن حصن وملاذ وأمل، فيجدون في رسولهم الكريم ذلك كله. ويصف الفترة الثالثة بأنها: عصر التحدي الأكبر، نكون أو لا نكون، «ولذلك تعود المدائح النبوية قوة دافعة من جديد، وتعود السيرة مثلاً أعلى وقدوة يتبعها السائرون»[43].

     كما يقرر أيضاً أن المدائح النبوية ظلت قادرة على العطاء، تنبض بالحياة، وتمنح الإحساس بالأمان في فترات الشدة، وتكمن فيها قوة دفع كبيرة، وأن هذا التوجه في المدائح دار حوله كثير من الشعراء مثل محمد مصطفى الماحي وحسن عبد الله القرشي وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة[44]. ثم ينتهي إلى القول: «وهكذا يتضح في النهاية أن حياة الرسول ظلت نبعاً يتدفق بالعطاء على مدى السنين، وقد أثرت في الأدب العربي الحديث شعره ونثره بنفس القدر الذي أثرت به في أدب التراث، غير أن الأدب العربي الحديث أكثر ثراء وأشد تفنناً»[45].

     وهكذا غدا الرسول صلى الله عليه وسلم ملاذاً دينياً ووطنياً وجهادياً يفزع إلى نبوته وسيرته وبطولته وانتصاراته الشعراء خاصة في أيام الكوارث والخطوب، ذلك أنهم يجدون فيه البطل المجاهد والقائد المنصور الذي يحلم ويصفح ويعفو، لكنه إذا دعا داعي القتال قاتل خلافاً لنبي كريم آخر هو المسيح عليه السلام الذي لم يقاتل قط. من هنا وجدنا شاعراً مسيحياً كبيراً هو الشاعر القروي «رشيد سليم الخوري» يحث الناس في سورية على محاربة الفرنسيين أيام استعمارهم إياها، وذلك باتباع طريق محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدفع سيفه الظلم، لا طريق المسيح عليه السلام المتسامح حتى مع عدوه:

إذا حاولت رفع الضيم فاضرب     بسيف محمــد واهجــر يسوعــا

     وربما كانت مطولة عمر أبو ريشة «محمد» أشهر قصيدة بين مثيلاتها في العصر الحديث ذاعت وشاعت، وقد استلهم فيها الشاعر الشخصية المحمدية استلهاما موفقاً، ووظف سيرته المجيدة توظيفاً محموداً. فأبو ريشة «وقد استلهم التاريخ المحمدي في بناء قصيدته بناء متتابعاً متنامياً قائماً على التدفق والترابط، قد استطاع أن يوظف الشخصية المحمدية توظيفاً جيداً لجلاء ملامحها، ولتقديم نموذج البطل الذي يتجاوز كل العقبات ليحقق الانتصار الكامل والساحق»[46].

     وقد ظل للشخصية المحمدية هذا الحضور الملح في وجدان الشعر والشاعر الذي يوظفها في إطار التعبير عن الوجدان الجمعي، فنرى عمر أبو ريشة عام 1945م يذيع قصيدته «يا رمل» التي تأتي أهميتها في هذا المجال من ارتباطها بحدث هام في التاريخ الحديث، وهو إعلان الرئيس الأمريكي روزفلـت أن ميثاق الأطلسي كفيل الحريات الأربـع، لا أثر له في الوجود، فيحزن الشاعر لحال أمته، ويأسى لنكث القوي عهوده ومواثيقه، ويتجه إلى التاريخ فيرى في الشخصية المحمدية «المنقذ القومي» كما رآه من قبل. ومن هنا تأخذ القصيدة شيئاً من السمة الملحمية. وواضح أن الشاعر كان «يعالج من خلال قصيدته الواقع العربي الذي أصمته المحن، وعربد فيه المستعمرون، خاصة في فترة الحرب العالمية الثانية، والقصيدة بوضعها الذي هي عليه الآن أقرب إلى قصيدة «محمد» في البناء الشعري، وإن كان إلحاح الواقع يظهر بوضوح أكثر مع الإشارة إلى ميثاق الأطلسي الذي ما غير شيئاً، بل ازداد تحت ظلاله سفك الدماء وسفح العبرات والصراخ ألماً، ولعل الشاعر في بيتيه التاليين قد حالفه التوفيق:

وما المواثيق إن فاه القوي بهـــــا     ونصب الختل في أقداسها حكمــا
ما كان أغناه عن تزوير غايتــــه     من يحمل السيف لا يبري به قلما

     وتبدو القصيدة أكثر انتماء للعصر، من خلال تناولها الواقع، ولذلك نجد الشاعر يكشف عن غايته في المقطع الختامي، فيستدعي شخصية محمد ﷺ من أجل الإنقاذ القومي في إطار من التصوير الجميل والحلم الجميل أيضاً:

يا رمل رجع حداء في مسامعنــــا     هل حمل الركب بشـراه وما علما
قيثارة الوحي لم تجــرح لها وتـراً     أيدي الليالي ولم تحبــس لها نغـما
أمن سنـــا أحمـــد حر ستطلعــــه     وتطلع المجد في برديه مضطرما

فيرجع الأرض ريا بعـدما همدت ويمتطي الدهر غضاً بعد ما هرما»[47]

     وتلفتنا قصيدة «يا رمل» لعمر أبو ريشة إلى معنى آخر طالما ركز عليه الشعراء وهم يتحدثون عن الرسول الكريم محمد ﷺ، وهو الإشادة بالجانب الإنساني العام الذي يقدم الإسلام دين حضارة عالمية إلى جانب كونه دين قوة وغلبة وظفر، وهو بهذا البعد الحضاري الحافل بشتى الفضائل النبيلة يفضح زيف الحضارة المعادية التي تبطش بالمسلمين وتتنكر للعهود والمواثيق.

     وبهذا مثل الرسول الكريم ﷺ، كما مثلت رسالته بآفاقها الحضارية السامية النبيلة «لدى الشعراء العرب الجانب الإنساني الذي يتجاوز حدود الوطن القومية إلى الدائرة العالمية»[48].

     كما مثل «باعتباره رمزاً للتفوق والحضارة جانباً هاما لدى الشعراء العرب، فهو القائد المنتصر والقائد المتحضر والقائد المتفوق، وقد أكثروا من النظم في هذا الجانب ليواجهوا العالم الغالب والقاهر من حولهم، وقد كانت المقارنة بين المدنية الغربية والمعطيات الإسلامية من خلال الشخصية المحمدية عنصراً بارزاً في أعمال الشعراء، حيث ركزوا على إبراز الجوانب الحضارية التي تحث عليها الشخصية المحمدية في العلم والقوة والتفوق البطولة»[49].

     وكأن عمر أبو ريشة في قصيدته «يا رمل»، إذ يدين الغدر الغربي بتنكره لعهوده ومواثيقه يطالبنا بأن نوجه أبصارنا صوب الرسول الكريم ﷺ، لنستلهم منه ومن رسالته وانتصاراته ووفائه بالعهود دروساً في الإيمان من ناحية، وفي البطولة من ناحية، وفي الأخلاق من ناحية.

     وإذا كانت قصيدة «يا رمل» قد انتهت بالتطلع إلى الغد الظافر، حيث سيطلع الفجر الجديد مهتدياً برسالة الإسلام وأنوارها الهادية، وهو فجر واعد بكل ما ترنو إليه الأمة، وتصبو إليه من عز بعد ذل، ومجد بعد ضياع، وشباب بعد هرم، ونماء بعد جدب، فإن القصيدة الأخرى «محمد» تنتهي بتطلع مماثل إلى غد مماثل:

قد ترف الحياة بعـد ذبول     ويلين الزمان بعد جفـــاء

     وبهذا البيت يختتم عمر أبو ريشة قصيدته وهو يرنو إلى أمله المنتظر الذي يراه وشيك التحقيق في بعث الأمة التي تصنع النصر، وتبني الحضارة، وتشيد أركان المجد، وتستأنف حياة رغدة لينة بعد ذبول وجفاف.

     لكأن عمر أبو ريشة في قصيدته الملحمية هذه يبشر بأن صراع الأمة مع أعدائها سينتهي بفوزها، ومن هذه البشارة يبدو الحلم الجديد بالفوز «امتداداً للحلم الذي كان نبراساً في المسيرة الإسلامية الطويلة، وفي انتصاراتها الباهرة صاغه الشاعر في إطار فني متميز ومقتدر»[50].

(٤) والسمة الملحمية الرابعة في القصيدتين هي تلك الروح الغيبية التي تشيع فيهما، والتي تصلنا بأسرار الكون وما فيه من قوى مؤثرة غير منظورة، مع الفارق الذي لا بد منه هنا، وهو أن الملاحم القديمة تكثر فيها الخرافات والأساطير لسببين هما: وثنية قائليها، وطفولة العقل البشري يومذاك، خلافاً لموقف عمر أبو ريشة الذي نحى ذلك بعيداً بحكم إسلامه وطبيعة عصره.

     لقد احتلت الأساطير والخوارق والخرافات وما يتصل بها من سحر وغموض وإثارة وغيوب وأسرار حيزاً مهما في الملاحم القديمة، لذلك نرى النبوءات ونرى المبالغات، بل نرى للآلهة المزعومة حضوراً بارزاً، نجدها فيه تتدخل في الصراع بين البشر وتجتمع في الأولمب، وربما ائتمرت بهذا الطرف لصالح ذاك، وربما كادت كما يكيد البشر، وما من ريب أن هذا كله ثمرة من ثمار الوثنية التي سادت اليونان، وثمرة من ثمار العقل البشري الذي كانت فيه طفولة وسذاجة يصدق معهما ذلك.

     أما عمر أبو ريشة فليس له أن يفعل ذلك لأنه مسلم موحد نشأ في أسرة متدينة منذ صغره، وقد حدثنا عن الأناشيد الصوفية التي كان يشارك فيها في صغره حديث المحب لها المتذكر لنشوتها الروحية مع مضي أكثر من نصف قرن عليها[51]. ولما كان طالباً في مانشستر كتب مقالاً يدافع فيه عن الإسلام ويهاجم المنصرين[52]، وللشعر الإسلامي في ديوانه حظ وافر موضوعاتٍ ورموزاً وإشاراتٍ وإسقاطاتٍ. وليس له أن يفعل ذلك أيضاً لأنه رجل مثقف واسع الاطلاع غزير المعلومات، كثير الأسفار واسع العلاقات؛ يعلي من قيمة العقل الذي يرفض الوثنية ويأباها.

     على أن عمر أبو ريشة لم ينس أن في الكون جانباً من الغيب يقره الإسلام، ويجعله أحد أركان الإيمان، وهذا الغيب مقيد بما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فليس للبشر فيه نصيب من قريب أو بعيد، وبذلك يبقى في دائرة الصواب فلا تتسرب إليه وثنية أو خرافة أو وهم، خـــلافاً للغيب الذي نراه خارج الدائرة الإسلامية والذي يختلط ما فيه من حق وهو قليل بما فيه من باطل وهو كثير بسبب إضافة البشر إليه.

     وفي قصيدة «محمد» يوظف عمر أبو ريشة الغيب توظيفاً حميداً لا يخالف العقيدة كما نرى ذلك في أبياته التي يصور فيها لجوء النبي الكريم إلى غار حراء ونزول جبريل الأمين عليه ليهتف به «اقرأ» ويخبره بأن الله عز وجل اختاره نبياً كريماً:

وأتى طوده الموشح بالنـــــو     ر وأغفى في ظل غار حراء
وبجفنــيه من جــــلال أمانيـ     ـه طيــوف علويـة الإســراء
وإذا هــاتف يصيح به اقــرأ     فيــدوي الوجـــود بالأصـداء
وإذا في خشــوعه ذلك الأمْـ     ـمِــيُّ، يتلو رسالة الإيحــــاء
وإذا الأرض والسماء شفــاه     تتغنى بسيـــد الأنبيـــــــــــاء

     ونحن في هذا المشهد نلتقي بجبل يتوشح بالنور، ونرى الرسول الكريم ﷺ نائماً في الغار والأطياف السماوية تحيط به، وجبريل الأمين يطلب منه أن يقرأ، فيقرأ وهو الأمي ما نزله إليه ربه، وتتجاوب الأرض والسماء بالثناء على سيد الأنبياء ويبدأ من يومها عهد النبوة السعيد.

     ومن المواقف المتصلة بالغيب والأسرار ما نجده يوم الهجرة حيث تعزم قريش على قتل النبي الكريم ﷺ فيأتيه الصديق خائفاً عليه فيجده هادئاً مبتسماً عليماً بالأمر حيث جاءه الوحي بذلك وأمره بالهجرة فهاجر، وحين أقام مع الصديق في غار «ثور» ووصل إليه المشركون وكان بوسع أحدهم أن يراهمــا لو نظر إلى الغار من موقـــع قدميه؛ خاف الصديق فقال له الرسول الكريم مستشعراً عظمة الله تعالى ورعايته لهما: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما!؟». وقد وفق عمر أبو ريشة توفيقاً بعيداً في تصوير هذا الموقف:

جمعت شملها قريش وسلـــــت     للأذى كل صعـــــــــدة سمـراء
وأرادت أن تنقذ البغي مـن أحـ     ـمد في جنح ليلـــــــــــة ليـــلاء
فأتاه الصديق منخـــلـــع اللـــبْ     بِ مثاراً بأفــــــــدح الأنبــــــاء
فتلقــاه أحمـــد بــاســم الثغــــــ     ــر عليماً بما انطوى في الخفاء
أمر الوحي أن يحـــــــث خطاه     في الدجى للمدينـــــة الزهــراء
وأقاما في الغــــار والملأ العلــ     ـــوي، يرنو إليهمــــا بالرعـاء
وقفت دونه قريـــش حيــــارى     وتنزت جريحـــــــة الكبريـــاء
وانثنـت والرياح تجـأر والرمــ     ـــل نثير في الأوجـه الربـــداء

     وعناصر الغيب واضحة في المشهد، وخاتمة المشهد تزيدها قوة إذ نرى الرياح بأمر ربها عوناً للمهاجرين الكريمين تقف في صفهما ضد الأعداء، ولو أضاف الشاعر إلى ذلك الروايات التي تذكر الحمامة التي سكنت في مدخل الغار والعنكبوت الذي نسج خيوطه عليه لزادت العناصر الغيبية قوة وجمالاً وتأثيراً، ولاستفادت بالذات من الطرافة التي تأتي من تسخير حيوانات لا تعي لصرف أنظار العدو عن المهاجر الكريم وصاحبه.

     ومنها دعاء النبي الكريم ﷺ يوم بدر حيث كان يقود المعركة وهو شاعر بأهمية العصابة التي يقودها في مسيرة حركة التوحيد. فدعا وألح في الدعاء وفي عينيه الكريمتين طيوف الأمل، وفي يديه الكريمتين حفنة من رمال يلقيها في وجوه المشركين قائلاً: «شاهت الوجوه»، فتقشعر الأرض من رهبة الموقف:

وعيــون النـــبي شـــاخصة تـــر     قـص، في هدبها طيـوف الرجـاء
ودنت منه عصبة الإثم والمــــــو     ت، على راحهــــــا ذبيـــح عيـاء
فرماهــــــا بحفنــة مــــن رمــال     ورنــــــا ثـائــر المنى للعـــــــلاء
ودعا «شــــاهت الوجوه» فيا أر     ضُ اقشعري على اختلاج الدعاء

     ومن هذه المواقف المتصلة بالغيب ذلك الموقف الذي يصور فيه عمر أبو ريشة معركة أحد، وقد حقق خالد النصر فيها لذويه على المسلمين، ومضى صوب الرسول الكريم ﷺ يريد أن يقتله فإذا به يشعر بقوة خفية تحول دون ذلك: فرسه يكبو، وقدماه لا تنطلقان، ويداه تخذلانه حين يجرد سيفه. لقد سمرته هذه القوة الخفية وحالت بينه وبين ما يريد، فلا غرابة أن وقع في قلبه إحساس رباني بأن هذا الرجل الذي يريد قتله محفوظ يصونه قدر الله، ويرعاه قضاؤه، ويكون هذا الإحساس الرباني الخيط الأول الذي يدفع بخالد إلى الهداية:

دفع المهر مغضبـاً فكبا المهــــ     ــــر أمام النـبي بعــــد حــران
فانتضى سيـــفه وهم فلــم يقـــ     ــو، ولم تنطــــلق لـه قدمــــان
فارتضى بالسجــال وارتد حرَّا    ن، وفي النفس هاجس رحماني

(٥) والسمة الملحمية الخامسة التي نجدها عند عمر أبو ريشة هي وصف المعارك الذي يعد معلماً أساسياً من معالم الشعر الملحمي. إن تصوير المعارك ووصف البطولات والإشادة بالشجعان الذين لا يرهبون موتاً ولا ظلماً، أمر محبب إلى النفس الإنسانية التي تتوق بفطرتها إلى الحرية والعدل والحق، فإذا عجزت أن تحقق ذلك بنفسها سرت به وهو يتحقق على أيدي الأبطال الذين تروي الملاحم ما صنعوه منها، فترى فيهم أحلامها وآمالها، وتفرح لانتصارهم، وتحزن لإخفاقهم.

     وفي قصيدتي عمر «خالد» و«محمد» من الحديث عن المعارك ووصفها والإشادة بالبطولة والتغني بالإقدام، وإعلاء قيمة الشجاعة، وتصوير الصراع بين الخير والشر، والفرح بانتصار الخير، ما يوثق الصلة بين هاتين القصيدتين وبين الشعر الملحمي. وقد سبق أن مر بنا رأي الدكتور زكي المحاسني وهو «أن كل شعــر طال أو قصر إذا وصفت فيه المعارك، وسردت فيه أخبار البطولة، ورويت فيه ملاحمات الجهاد، هو من شعر الملاحم»[53].

     في قصيدة «خالد» يقدم لنا عمر أبو ريشة وصفاً لمعركتين، كان النصر فيهما حليفاً للبطل، الأولى: في معركة أحد قبل إسلام خالد حيث نرى ذوائب مخزوم التي ينتمي إليها البطل غاضبة زائغة الحلوم تستعد لقتال محمد ﷺ لعلها تدرك منه ثأر هزيمتها يوم بدر، وتدور المعركة في أحد، ويطغى الهول، وينتصر المسلمون في البداية، ثم يخسرون في النهاية لعصيانهم أوامر نبيهم وقائدهم ﷺ، وكان البطل المخزومي أبرز الفرسان الذين ساقوا النصر لقريش:

وإذا المشــــركون عاصفة هو     جــاء تدمي جوانب الميــــدان
وفتــــاهم ذاك المطوح بالهـــا     م، مثير الإعجاب في الفرسان

     أما الثانية: فهي في معركة اليرموك، حيث أسلم البطل وتفانى في الجهاد وكأنه يريد أن يكفر عما كان منه يوم أحد. وقبل أن يدخل الشاعر في وصف معركة اليرموك يخبرنا عن خالد أنه البطل المتثني بوشاح أرجواني، الذي تزغرد الانتصارات له، والذي يمعن في شرق الأرض وغربها مجاهداً صادقاً، تتوالى الفتوح بين يديه، ويقترن باسمه الظفر، فحيثما حل علا صوت الأذان، وبنيت المساجد، ورفرفت راية التوحيد. لكن الشاعر يشير إلى عقبة في طريق هذا الموكب المتواصل من الظفر وهي الروم الذين يعترضون طريق الرسالة الجديدة ويحشدون قوتهم لمحاربتها فلا بد لخالد إذن من مواجهتهم بالأبطال الذين استوى عندهم الموت والحياة:

وبدا الروم في ضـلال مناهم     شوكة فــــي معاقد الأجفـــان
فأتاهم بحفنــة من رجـــــــال     عندها المجـــد والردى سيان

     وتدور المعركة بين الروم والمؤمنين حاسمة عنيفة، فينتصر الإيمان، ويحمر وجه الأرض من دماء القتلى، ويمضي نهر اليرموك إلى غايته وهو يحمل الجثث الهامدة بعد أن صار قبراً لها:

ورماهـــم بهـــا وما هــــــي إلا     جولــــة فالتراب أحمر قـــــــان
وضلوع اليرموك تجري نعوشاً     حامـــــلات هوامــــد الأبــــدان

     أما قصيدة «محمد» فيقدم لنا فيها عمر أبو ريشة وصفاً حيا لمعركة بدر، نتعرف فيه على غيظ قريش وزهوها، وحشدها جيشاً لجباً لمحاربة الإسلام، وغرورها الذي يجعلها تسخر من المسلمين وجيشهم الضئيل بالقياس إلى جيشها، وروح التحدي التي تجعلها تطالب الأكفاء اللائقـــين بمبارزة أبطالها في القتال الفردي الذي يسبق القتال العام، ومصرع هؤلاء على أيدي أبطال المسلمين وعنف المعركة التي يطغى فيها الهول ويلتقي الند بالند، والهزيمة التي تحيق بقريش، والنصر الذي يصنعه الله عز وجل للإسلام والمسلمين في بدر:

وقريش في جيشها اللجب تسعى     بين وهج القنا وزهــو الحـــــداء
بلغت منحنى القليـــــب ولفــــت     من عليه ببسمــة استهـــــــــزاء
وأرادت أكفـــــــــــاءها فتلقـــــا     ها علــــــــي ذؤابــــة الأكفــــاء
جز بالسيف عنــق شيبة وارتــدْ     دَ إلى صحبه خضيــب الـــرداء
فطغى الهول والتقى النـد بالنـدء     دِ وماجا فـــي لجـــة هوجــــــاء
قضي الأمر يا قريش فســــيري     للحمى واندبي على الأشــــــلاء
يوم بدر يوم أغــر علـــــى الأيـْ     ـيَـام باق إن شئت أو لم تشائـــي
ركز الله فيــــــــــه أسمــى لـواء     وجثا الخلد تحـت ذاك اللــــــواء

     إن هذا الوصف للمعركة يذكر المرء بأبطال الإلياذة مثل: أخيل وهكتور وإينياس وهم في مواقف بطولية نادرة وشجاعة تأسر القارئ، ويضفي على القصيدة جواً ملحمياً أخاذاً. ولذلك قرر الدكتور محمد فتوح أحمد أن ما عمله هوميروس وعمر أبو ريشة من تصوير النموذج البطولي تصويراً يرتقي فوق مرتبة البشر، لم يكن محض مصادفة لأن كلاً منهما كان يصور تجربة ذات عبق ملحمي واضح[54].

(6) والسمة الملحمية السادسة في قصيدتي عمر أبو ريشة هي البناء القصصي، فمن المعلوم المقرر أن الشعر الملحمي يعنى كثيراً بالجانب القصصي الذي يأسر ألباب الناس وهم يستمعون إلى وقائعه المثيرة، وقد زينها الخيال والخارقة والمبالغة والأسطورة. وقد عني أبو ريشة بالسرد الروائي في قصيدتيه مع فارق كبير بينه وبين هوميروس، فهوميروس يطيل ويفصل ويلاحق الجزئيات ويتابع كل واقعة من بدئها حتى نهايتها، أما عمر فيستغني عن ذلك بسرد «انتقائي» يختار فيه موقفاً حياً، أو واقعة غنية ذات دلالة، أو مشهداً ذا ظلال وإيحاء، ويتحاشى السرد التقريري التسجيلي المفصل. وربما كان ذلك من عمر وعياً بطبيعة العصر الذي لم يعد يطيق بالضرورة ذوق عصر قديم. وربما كان أثراً من آثار الشعر العربي القديم الذي يميل بطبيعته إلى الإيجاز، وربما كان أثراً من آثار المذهب الرمزي الذي يجنح إلى الإيحاء، ويتحاشى التصريح، ويكتفي باللمحة المؤدية الدالة بدلاً من متابعة الدقائق والتفاصيل والجزئيات وحشدها.

     ففي قصيدته خالد لم يقف عمر أبو ريشة عند نشأة البطل وظروفه الأولى وطفولته، بل قفز قفزة بعيدة لنرى فيها بني مخزوم وهم ذوو البطل يستعدون لمعركة أحد، ولنرى البطل يشارك في المعركة فارساً متميزاً يحقق النصر لقومه، ويهاجم الرسول الكريم ﷺ فلا يقدر، وينشأ من جراء ذلك الخيط الأول لهدايته. ثم يقفز الشاعر مرة أخرى قفزة بعيدة يتجاوز فيها وقائع كثيرة ويضعنا في إطار معركة اليرموك والنصر الساحق الذي حققه المسلمون، ثم يشير إلى الموقف النبيل لخالد وهو يتلقى أمر العزل ويقاتل تحت إمرة الجراح راضياً متفانياً في سبيل المبدأ الغالي الذي جعل الجهاد من أجله هدفه الأعلى في الحياة. وهكذا اكتفى عمر أبو ريشة بهذه اللمحات المضيئة المتفوقة في حياة خالد عن التفاصيل الكثيرة التي تزدحم بها حياته الملأى بالأحداث والوقائع. ولعل الموقف الذي كان يجدر بالشاعر أن يضيفه إلى قصيدته هو وفاة خالد، فهو مشهد حي مؤثر، فيه تفوق وإثارة وروعة وفيه خاتمة حزينة مأساوية للبطل الذي يموت حتف أنفه، مع توقه الشديد للشهادة، ومع المعارك الكثيرة التي خاضها، ولو فعل ذلك لأغنى قصيدته وارتفع بها.

     وفي قصيدة «محمد» يميل الشاعر إلى السرد القصصي ميلاً واضحاً يزيد كثيراً على ما وجدناه في قصيدة «خالد»، فنحن نرى المولد الشريف الذي يجعل أقيال بني هاشم في سعادة وحبور، ونرى أبا طالب يقدم الأضاحي شكراً وابتهاجاً، ونرى الطفل الكريم في ديار بني سعد مع مرضعته وحاضنته، ونراه يعاني من موت أمه كما عانى من قبل من موت أبيه، ونرى شبابه العفيف المترفع عن لهو أترابه، ونرى عزلته في غار حراء ونزول الوحي عليه، ونرى الهجرة بظروفها وأحداثها المثيرة، ونرى المدينة المنورة سعيدة بالمهاجر الكريم، ونرى معركة بدر بمقدماتها وأحداثها ونتائجها، ونرى الفتح الذي تطهر فيه الكعبة المشرفة من الأصنام.

     لم يذكر عمر أبو ريشة بطبيعة الحال كل أحداث السيرة الشريفة، ولكنه اختار منها طائفة أحسن انتقاءها، وسردها سرداً قصصياً ملفعاً بالخيال والجمال دون مبالغة أو أسطورة أو خرافة، وبذلك اقتربت قصيدته من أصول الشعر الملحمي، واكتسبت سمة مهمة من سماته، وحققت قدراً كبيراً من المتعة الأدبية، وارتفعت درجات في مضمار الجلال والجمال، جلال القصص الشائق الواقعي، وجمال التصوير الحي البديع، وتجاوزت كثيراً من جوانب القصور التي عابت من سبقه، وحققت وحدة متجانسة نفسياً وشعورياً هيأت لعمله نوعاً من التفرد والامتياز.
❊❊❊

     هذا وإن لعمر أبو ريشة قدراً جيداً من القصائد، فيه سمات من الشعر الملحمي تتفاوت وتتناوب بدرجات مختلفة، من حيث: الإشادة بالبطولة، ومتانة الصياغة، وسطوة الألفاظ، وجلال المعاني، وحفز الهمم، وإشاعة الأمل، ووصف المعارك، واتقاد الحماسة، وقوة الموسيقى، وطول النص، والوجدان الجمعي، والعرض الشيق، والتصوير القصصي، قالها في مراحل عمره المختلفة، في شبابه، وفي كهولته، وفي شيخوخته، وهي من أجمل شعره وأفضله، وأجدره بالبقاء.

     واستعراض هذه القصائد يقود إلى النتائج التي خرجنا بها من قصيدتيه الشهيرتين «خالد» و«محمد» لذلك نكتفي بالإشارة إليها، وهي:

❊ قصيدته في المتنبي «شاعر وشاعر» التي قالها في عام 1935م، وتقع في ثلاثة وتسعين بيتاً، ومطلعها:

شاخص الطرف في رحاب الفضاء
               فـــوق طــــود عالي المناكــــب ناء

❊ قصيدته «قيود» التي قالها في ذكرى إبراهيم هنانو في عام 1937م، وتقع في أربعة وأربعين بيتاً، ومطلعها:

وطن عليـه من الزمان وقار     النور ملء شعابــــــه والنار

❊ قصيدته «شهيد» التي قالها في رثاء سعيد العاص في عام 1937م، وتقع في خمسة وستين بيتاً، ومطلعها:

نام في غيب الزمــــان الماحي     جبل المجد والنــــدى والسماح

❊ قصيدته «يا عوادي» التي قالها في رثاء الملك غازي في عام 1939م، وتقع في ستة وسبعين بيتاً، ومطلعها:

شهقة في الدجى وراء البـــوادي
               روعت خاطر الضحى المتهادي

❊ قصيدته «هذه أمتي» التي قالها إثر خروجه من السجن في عام 1945م، وتقع في اثنين وستين بيتاً، ومطلعها:

ما صحا بعد من خمار زمانه     فليرفه بالشــــدو عن أشجانه

❊ قصيدته «يا رمل» التي قالها في عام 1945م، وتقع في خمسين بيتاً، ومطلعها:

يا رمل ما تعب الحـادي ولا سئما
               ولا شكا في غوايات السراب ظما

❊ قصيدته «بلادي» التي قالها في رثاء سعد الله الجابري في عام 1947م، وتقع في سبعة وسبعين بيتاً، ومطلعها:

هيكل الخلد لا عدتك الغوادي     أنت إرث الأمجــــاد للأمجاد

❊ قصيدته «عرس المجد» التي قالها ابتهاجاً باستقلال سورية في عام 1947م، وتقع في تسعة وخمسين بيتاً، ومطلعها:

يا عروس المجد تيهي واسحبي     في مغانينا ذيــــــول الشهـــــب

❊ قصيدته في رثاء عدنان المالكي التي قالها في عام 1955م، وتقع في ثمانية وستين بيتاً، ومطلعها:

لا تحل بين جرحـه وضماده     
وترفق إن كنـــت من عـواده

❊ قصيدته «حكاية سمار» التي قالها في حفل تكريم الأخطل الصغير في عام 1961م، وتقع في ثلاثة وثمانين بيتاً، ومطلعها:

هل في لقائك للخيــال الزائر     إغضاء سال أم تلفـــت ذاكر

❊ قصيدته «الفارس» التي قالها في رثاء إميل البستاني في عام 1963م، وتقع في ثلاثة وخمسين بيتاً، ومطلعها:

كيف يرتد عن مداه مـراده     وعلى ملعب الخلود طراده

❊ قصيدته «بنات الشاعر» التي قالها في رثاء الأخطل الصغير في عام 1969م، وتقع في أربعة وخمسين بيتاً، ومطلعها:

نديك السمح لم يخنـق لـــه وتر     ولم يغب عن حواشي ليله سمر

❊ قصيدته «من ناداني» التي ألقاها في موسم الحج في عام 1972م، وتقع في ثلاثة وستين بيتاً، ومطلعها:

رد لي ما استرد مني زماني     فأراني ما الحلــم كان أراني

❊ قصيدته «أنا في مكة» التي ألقاها في موسم الحج في عام 1974م، وتقع في مئة بيت وبيتين، ومطلعها:

لم تزالي على ممـــــر الليالي     موئل الحق يا عروس الرمال

❊ قصيدته «أمرك يا رب» التي قالها في رثاء الملك فيصل بن عبد العزيز في عام 1975م، وتقع في اثنين وخمسين بيتاً، ومطلعها:

يا رب أمرك هذا لا أطيق له      رداً فأمرك يا ربـــي تولاني
❊❊❊

     وبعد: فإن بوسع الدارس أن يقرر أن لعمر أبو ريشة جهداً متميزاً في الشعر الملحمي، ومحاولة جادة مشكورة. صحيح أنه لم يتابع النموذج اليوناني متابعة دقيقة ولكنه حسناً فعل، فذلك النموذج لا يناسب العصر أولاً، ولا يناسب أبطال الشاعر وهو مسلم وهم مسلمون ثانياً. ولعل من الحكمة والإنصاف أن ندرك ما يلائم العصر والظرف والشاعر وأبطاله، في أي عمل ملحمي إدراكاً يوسع أمامنا دائرة الاختيار والتطوير، بحيث يكون لكل عصر وشاعر نوع خاص لملحمته، يعبر فيه عما يريد ويوصل للمتلقي الرسالة التي يريد.

     ولا يسع الإنسان المنصف إلا أن يشيد بشعر عمر أبو ريشة الملحمي، ويراه نسيجاً متفرداً عبر فيه عما أراد، واختار له الأسلوب الذي أراد، ووظفه توظيفاً إيجابياً لصالح دينه وأمته وبلاده، فذكر بالأمجاد، وأشاد بالبطولة، وأعلى من مكانة الإيمان، وحفز الهمم، وحارب العجز، وقارع البغي والطغيان، ودعا إلى بناء الغد على هدي الأمس، فكان شاعراً ذا رسالة كريمة، وهموم إسلامية وقومية ووطنية عامة، وكان مناضلاً ضد الاستعمار، وكان لسان صدق، وكان داعياً للجهاد، وكان حادياً للأمة، وكان رائداً لا يكذب أهله وكان بشيراً ونذيراً.
❊❊❊

-------------
[1] انظر: جورج غريب في كتابيه: "الشعر الملحمي تاريخه وأعلامه"، بيروت، دار الثقافة، 1985م، ص8. وسليمان البستاني في مقدمة الإلياذة" ص54.
[2] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص23.
[3] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص26-27.
[4] شوقي شاعر العصر الحديث، القاهرة، دار المعارف، ص54.
[5] عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص321.
[6] البارودي رائد الشعر الحديث، ط3، القاهرة، دار المعارف، ص93.
[7] شوقي شاعر العصر الحديث، ص26.
[8] بلابل من الشرق، ص60.
[9] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ط3، القاهرة، دار المعارف، 1985م، ص12.
[10] أعلام الشعر العربي الحديث، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، 1970م، ص53.
[11] شوقي أو صداقة أربعين عاماً، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1936م، ص22.
[12] شوقي شعره الإسلامي، ط2، القاهرة، دار المعارف، ص170.
[13] في أصول الأدب، ص176.
[14] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص56.
[15] شوقي شاعر العصر الحديث، ص54.
[16] حلمي محمد القاعود، القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث قراءة ونصوص، ص11.
[17] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص44-57.
[18] تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية، ص285-287.
[19] قضايا الشعر المعاصر، ص308.
[20] بلابل من الشرق، ص180.
[21] الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ص199.
[22] قضايا الشعر المعاصر، ص343.
[23] الشعر والشعراء في العراق، بيروت، دار المعارف، 1959م، ص51.
[24] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص280.
[25] بلابل من الشرق، ص147.
[26] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص167.
[27] ديوان الخليل، 3/51.
[28] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص138.
[29] الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف، ص263.
[30] خليل مطران شاعر الأقطار العربية، القاهرة، دار المعارف، ص146.
[31] الشعر القصصي، القاهرة، دار النهضة المصرية، 1980م، ص115.
[32] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص23.
[33] في أصول الأدب، ص350.
[34] الأدب العربي المعاصر في سورية، ص385.
[35] فن الشعر، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص8-9.
[36] الأدب وفنونه، القاهرة، دار نهضة مصر، 1974م، ص55.
[37] الشعر المصري بعد شوقي، 2/29.
[38] الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته، ص74.
[39] واقع القصيدة العربية، ط1، القاهرة، دار المعارف، 1984م، ص88.
[40] محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر الحديث، ط1، المنصورة، دار الوفاء، 1408هـ/ 1987م، ص384-385.
[41] المرجع السابق، ص523-524.
[42] المرجع السابق، ص521-522.
[43] قضايا في الأدب والنقد رؤية عربية وقفة خليجية، ص93-94.
[44] المرجع السابق، ص97.
[45] المرجع السابق، ص125.
[46] حلمي محمد القاعود، محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر الحديث، ص385.
[47] المرجع السابق، ص385-386.
[48] المرجع السابق، ص524.
[49] المرجع السابق، ص524.
[50] المرجع السابق، ص183.
[51] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ= مايو 1978م.
[52] عنوان المقال: التبشير الإسلامي وأثره في بلاد الغرب، وقد نشرته مجلة الجهاد الحلبية، في 6 مارس 1932م.
[53] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص23.
[54] واقع القصيدة العربية، ص89.

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - القصة الشعرية

القصة الشعرية

     للقصة الشعرية عند عمر أبو ريشة قيمة فنية كبيرة تدل على مقدرته على ضبط عناصرها وتحريك أحداثها ورسم شخصياتها، بما يؤدي في النهاية إلى تحقيق الأثر الذي ينشده الشاعر لدى المتلقي. ومع أن القصة الشعرية عند الشاعر لم تأخذ حيزاً كبيراً من شعره إلا أنها تظل إحدى علاماته البارزة لا يخطئ قارئ ديوانه أن يتوقف عندها متأملاً معجباً.

     وتتباين الآراء حول قيمة الشعر القصصي تبايناً لا غرابة فيه، ذلك أن القصة تحتاج إلى عمل عقلي هادئ ويقظة فكرية وشعورية، وتخطيط للحدث ورسم للشخصية واختيار للخاتمة، وهذا كله لا ينسجم مع طبيعة الشعر الذي يقوم على العاطفة والوجدان والبارقة النفسية والفكرية السريعة الخاطفة، وشتان ما بين هذا وذاك، لذلك نجد فريقاً يشيد بالقصة الشعرية، وآخر ينكرها.

     من بين المنكرين الدكتور محمد مندور الذي يرى أن النثر وحده هو المؤهل لاستيعاب القصة، وأن القصة في الشعر هي عبث وتبديد للطاقة الشعرية، يقول: «ولكن الشيء الذي لا نستطيع أن نفهمه، ونرى فيه عبثاً وتبديداً للطاقة الشعرية، هو أن نرى شاعراً يحاول أن يكتب قصصاً ــ ولا أقول أقاصيص ــ شعراً، مع أن فن القصة قد نشأ نثراً ولا يزال فناً نثرياً في جميع الآداب، وذلك بحكم أن النثر أكثر طواعية ومرونة وقدرة على الوصف والتحليل فضلاً عن السرد والقصص»[1].

     والدكتور مندور إذ يرفض القصة في الشعر يستثني الأقاصيص، لذلك يمكن أن يكون رأيه أقرب إلى الصواب، ذلك أن الشعر إذا لم يستطع أن يستوعب القصة بكل تعقيداتها ومحاورها فإن بوسعه استيعاب الأقصوصة لأنها تركز على موقف لا شتات فيه.

     في مقابل ذلك نجد فريقاً يشيد بالظاهرة القصصية في الشعر ويعدها مظهراً من مظاهر الموضوعية حيث يبتعد الشاعر عن طابعه الغنائي، وهو يعمل في قصته الشعرية من خلال جهد أكبر يقتضي يقظة ومعاناة وقدرة أكبر على الإبداع وتقمص شخصيات الآخرين في انفعالاتها، ووعياً دقيقاً بتطور الأحداث واختيار نهايتها المناسبة. وقد أشاد الدكتور إحسان عباس بالقصة الشعرية عند إيليا أبي ماضي، موضحاً الجهد الأكبر الذي تحتاج إليه منوهاً بالقدرة التي لا تتاح بسهولة لمن يتصدى لكتابة القصة الشعرية[2].

     وتنوه الدكتورة عزيزة مريدن بالقصة الشعرية، وترى أن الإجادة فيها إجادة مضاعفة لأنها تجمع بين جنسين أدبيين هما القصة والشعر، فتقول: «ما من ريب في أن للقالب الشعري وما يرسمه من صور وأخيلة أثراً كبيراً في هذه الناحية، ولكن مما لا ريب فيه كذلك أن للقصة ذاتها كفن مفعولاً مباشراً في قوة التأثير وطبيعته ونوعه، فكيف إذا اجتمع الشكلان معاً فتضافرا واتحدا، ثم تواءما واتسقا معاً، وتولد منهما شكل جديد هو القصة الشعرية؟... إن القصة الشعرية تجمع بين شكلين لكل منهما أهمية كبرى في الأدب، وإذا كان الشعر يصور جانب الحياة كما تنعكس على نفس الشاعر، فيوحي بها ويلقي إلينا بأشعتها وظلالها، وإذا كانت القصة تصور الحياة نفسها في جميع دقائقها ولحظاتها، فإن القصة الشعرية تجمع بين هاتين الصورتين، وتجعلنا نحيا التجربة النفسية الواحدة في نطاق أوسع وأفق أرحب، إذ تطرق أبواب تفكيرنا ومشاعرنا، وتسمو بخيالنــا وتأملاتنا فنحيا التجربة مرتين، أو نحياها على نحو مــــزدوج: حياة الحادثة الواقعية وحياة الفكر العلوي والخيال السامي الذي يحملنا الشعر على أجنحته ليوصلنا إليه، ويحلق بنا في رحابه. لهذه الأسباب كلها كانت الإجادة في القصة الشعرية إجادة مضاعفة مزدوجة تقتضي عبقرية خاصة، قادرة على تصوير الأحداث، وإبداع الشخصيات المناسبة، كما تقتضي براعة في الأسلوب الذي يفسح المجال للقارئ كي يطوف في مرابع النفس وحنايا الوجدان، ويمكنه من الغوص على أسرار الحياة الإنسانية، والإلمام بمذاهبها ومثلها، كل هذا في إطار من الأوزان والأنغام»[3].

     ويعلي الدكتور مختار الوكيل من قيمة القصة الشعرية لجمعها بين مزايا القص والشعر معاً فيقول: «والحق الذي لا سبيل إلى إنكاره أن القصصي فنان واسع الخيال، بعيد مدى التصور، فكل شاعر قصاص واسع الخيال بعيد مدى التصور ما في ذلك شك، والشعر القصصي عظيمة فوائده، فهو إلى جانب أنه قصة تشرح بعض العواطف والمعاملات، وتقف المرء على شيء من أزمات القلب والعقـــل، قريب إلى عقـــول الجماهير، حبيب إلى قلوبهم، ولا يستطيع المــــرء أن يغفــل مزايـــا القصة المنثورة وفضلها على الروح الإنسانية، فإذا سكبت هـــذه القصة فـــي أوزان موسيقية وخيالات شعرية، فهي حرية بأن تنساب إلى القلوب دون وعـــي أو شعور»[4].

     أما الأستاذ سيد قطب فيرى أن بين القصة والشعر تشابهاً في «تتبع جزئيات التجربة الشعورية، وتصوير الخواطر والانفعالات المصاحبة لها خطوة خطوة، ليشارك الآخرون صاحبها انفعالاته وجوه الشعري العام»[5].

     وعلى كل حال فالقصة والشعر يعمل كلاهما من خلال الكلمة، فهي أداة الفنان قاصاً أو شاعراً لإيصال ما يريد إلى الناس. ولا ريب أن النثر أطوع من الشعر لأداء القصة، ولكن ليس لنا أن نحجر على الشاعر فنمنعه من أداء قصة ما شعراً، فإنه إذا كان مقتدراً كان بوسعه الاستفادة من الفضيلتين معاً فضيلة القص وفضيلة الشعر، والتجربة الشعرية أعقد وأوسع من أن تحصر في قالب واحد لا تعدوه، والتعويل في النهاية على الجودة، والنقد سيبقى في النهاية أضواء كاشفة لا قيوداً خانقة.
❊❊❊

     وفي العصر الحديث ومع كثرة الحديث عن التجديد من ناحية، ومع التوسع في الاتصال بالمذاهب الأدبية الغربية من ناحية، أخذت القصة الشعرية في الشعر العربي الحديث مساحة من الاهتمام لم تكن من قبل، إذ بدت لوناً من ألوان الإبداع فيه جدة وطرافة، وفيه قدرة على استيعاب بعض التجارب الوطنية والاجتماعية والذاتية مما لا يتوافر لسواها، وهناك قصائد ذائعة في هذا المجال لمعروف الرصافي، وشبلي ملاط، ونقولا فياض، وإيليا أبي ماضي، والأخطل الصغير، وخليل مطران، ولشاعرنا عمر أبو ريشة، وهو ما قرره الدكتور محمد غنيمي هلال حين قال: «على أن الشعر الغنائي ــ في العصر الحديث ــ يسري في كثير من قصائده عنصر قصصي، لأن العنصر القصصي يتوافر فيه الإيحاء، وتكتسب به العواطف الذاتية مظهر الموضوعية، ثم إن العنصر القصصي لا يتفق بطبعه مع النغمة الخطابية التي قد توجد في الشعر الغنائي غير القصصي فتضعف من قوته، هذا إلى أن الشعر الوجداني متى كان ذا طابع قصصي كانت الوحدة العضوية فيه أظهر، وبدا متماسكاً لا تستقل أبياته كما كانت مستقلة في كثير من شعرنا القديم حين لم يكن ينظر لوحدة العمل الأدبي ضرورة من ضرورات التجربة الأدبية الناجحة كما هي الحال في الشعر الحديث. وفي هذا الشعر ذي الطابع القصصي تظهر الأفكار والأحاسيس صوراً تحليلية للموقف، ينمو الموقف بنمائها، وتظهر وحدتها في ظلاله»[6].

     ويرى الدكتور عز الدين إسماعيل أن القصة الشعرية تحتاج جهداً غير عادي لأنها شعر وقصة في آن واحد وبمقدار متساو، مما يبين لنا خطورة هذا «العمل الذي يجمع في آن واحد وبنسبة متوازنة بين فنية الشعر وفنية القصة. لا بد أن يكون هذا النوع على قدر كبير من الصعوبة، ولا بد أن يتطلب شاعراً له أكثر من مقدرة الشاعر، وأكثر من مقدرة القصاص. لا بد أن يكون الشاعر بحيث يجمـــع ويوازن فـــي الوقت نفسه بين المقدرة الشعرية والمقدرة القصصية. فليس يكفي إذن أن يحسن الشاعر نظم الكلام فينظم لنا قصة كان من الممكن أن يسردها علينا نثراً، وليس يكفي كذلك أن يتقن حبك القصة ثم يصوغها في أي مستوى من مستويات التعبير. لا بد إذن أن يجعلني الشاعر في كل لحظة وفي كل كلمة أحس بالشعر وفي الوقت نفسه أحس بالقصة. وإضافة الشعر إلى القصة ليس مجرد زينة، وليس مجرد إثبات للقدرة على نظم الكلام، وإنما تستفيد القصة من الشعر التعبير الموحي المؤثر، ويستفيد الشعر من القصة التفصيلات المثيرة الحية، فهي بنية متفاعلة يستفيد كل شق فيها من الشق الآخر وينعكس عليه في الوقت نفسه»[7].

     أما الدكتوران شوقي ضيف وأحمد هيكل فيلتقيان في أن الشعر الغنائي يستوعب القصة مع شيء من التساهل في أصولها المرعية يمكن قبوله في الشعر لصرامة قيوده خلافاً للنثر الذي تتيح مرونته فرصة أكبر للتقيد بتلك الأصول.

     فحين أثنى الدكتور شوقي ضيف على الشعر المهجري جعل من أسباب هذا الثناء أن أصحابه أودعوا فيه طاقة رائعة من القصص فقال: «فالقصة مبثوثة في دواوينهم، حقاً ليس في قصتهم متممات القصة العادية من العقدة والحبكة الفنية أو من الحوار الممدود، ولكن هذا لا يضيرهم، فإن الشعر الغنائي لا يتحمل القصة بكل رسومها، إنما يتحملها على النحو المبثوث في أشعارهم»[8].

     أما الدكتور أحمد هيكل فهو إذ يقرر أن النثر هو المجال الوحيد للقصة لا يمنع أن يتسع الشعر «للأقاصيص القصار التي لا تحتاج إلى عناصر قصصية تحتم مرونة النثر، بل تبدو كخاطرة أو تجربة شعرية لا يضيق بها الشعر»[9].
❊❊❊

     وكما كان خليل مطران رائداً في الدعوة إلى وحدة القصيدة، كان رائداً في القصة الشعرية، وقد غلب على ريادته الأولى التأصيل النظري، وعلى ريادته الثانية التطبيق الفعلي، وقد أشاد الدكتور مختار الوكيل بروائع مطران القصصية الشعرية وعده بحق الرائد الأول في هذا المضمار فقال: «ولعله من الخير والإنصاف للحقيقة التاريخية أن نقول في هذا الصدد: إن أول من مهد للقصة الشعرية الحديثة في هذه اللغة إنما هو الشاعر خليل مطران، فلقد كتب كثيراً من روائعه القصصية الشعرية قبل هذا القرن الميلادي العشرين، وكان مبدعاً غاية الإبداع في أداء تلك القصص أداء صادقاً قوياً سيترك صداه للأجيال القادمة من قراء العربية... فإذا انتوينا أن نؤرخ النهضة القصصية في الشعر العربي الحديث وجب علينا أن نضع مطران في طليعة الذين خدموا هذه النهضة، وأن نقول في غير لبس أو مواربة: إنه الرائد الأول في هذا المضمار»[10].

     هذا ومن أشهر قصائد مطران القصصية: العصفور، فنجان قهوة، الجنين الشهيد، إن من البيان لسحراً، فتاة الجبل الأسود، نيرون، مقتل بزر جمهر، العقاب، حكاية عاشقين.

     وقد احتفى الشاعر خالد الجرنوسي كثيراً بالقصة الشعرية التاريخية، فله ديوان قصصي كامل اسمه «قصص إسلامية»، قدم له الأستاذ محمد طاهر الجبلاوي، وصدر عن مكتبة الأنجلو المصرية في سلسلة الألف كتاب، عام 1963م، وديوان آخر اسمه «اليواقيت» وقفه على القصة الشعرية، وصدر عن دار الفكر الحديث في القاهرة عام 1954م، كما أنه وقف جزءاً كبيراً من ديوانه «خالد» على القصص الشعرية، وقد صدر هذا الديوان عن مطبعة مطر في القاهرة[11].
❊❊❊

     إذا بدأنا بقصيدة عمر أبو ريشة «هكذا» وجدنا أنفسنا أمام قصة شعرية محكمة، ليست طويلة لكنها مؤدية لفكرتها تماماً. وتقع القصيدة في ثلاثة عشر بيتاً قدم لها بمقدمة نثرية تقول: «في ليلة واحدة أنفق أحد رعايا المحميات البريطانية ستين ألف دولار على عشيقته». ونورد الآن القصيدة كاملة لأنها نموذج متكامل للقصة عند الشاعر، ولبعض خصائصه الشعرية أيضاً:

صاح يا عبد فـــرف الطيــــــب     واستعر الكأس وضـج المضجع
منـــتهى دنيـــاه نهد شــــــــرس     وفم سمح وخصـــــــــر طيــــع
بدوي أورق الصخــــــــر لـــــه     وجرى بالسلســـــــبيل البــــلقـع
فإذا النخـــــوة والكــــــــبر على     ترف الأيام جــــــــرح موجـــع
هانت الخيـــــل على فرسانهــــا     وانطوت تلك السيــــوف القطـع
والخيام الشم مالت وهـــــــــوت     وعوت فيها الريـــــاح الأربـــع
قال يا حسـناء ما شئــــت اطلبي     فكلانـــا بالغوالــــــي مولـــــــع
أختــــك الشقــراء مـــدت كفهـا     فـاكتسى من كل نجـــــــم إصبع
فانتـقى أكرم ما يهفـــــــو لـــــه     معصم غــــض وجيـــــد أتـلــع
وتلاشى الطيب مــــن مخـدعـه     وتــولاه السبــــــــــــات الممتـع
والذليل العبـد دون البــــــاب لا     يغـمض الطــرف ولا يضطـجع
والبطــولات على غربتهــــــــا     في مغــانينا جيـــــــــــاع خشـع
هكذا تقــتحــــــم القدس علــــى     غاصبيــها هكــــــــــذا تسترجع

     منذ البيت الأول نلج مع الشاعر في صلب القصة، حيث نلتقي بالسيد الآمر، والعبد المطيع، والعناصر التي تكون مسرح القصة، من طيب يعطر المكان، وخمرة تزيد في جمرة الشهوة، وسرير يعد لها، مما يجعلنا نواجه مباشرة وبصورة حادة عالماً يضج بالغريزة العنيفة، والشهوة الآثمة.

     أما البيت الثاني فيلخص لنا آمال السيد في أنها في أقصى طموحاتها تتوقف عند عالم الشهوة فلا تتجاوزه لاهتمامات أعلى شخصية أو دينية أو اجتماعية، فهي منحصرة بالمرأة التي تبيع جسدها في عرام واستجابة تتمثل في النهد الظامئ، والفم المشرئب، والخصر المواتي.

     في الأبيات الأربعة التالية نجد أنفسنا أمام مصدر الثراء المفاجئ للسيد، وهو ثراء حطم في نفسه فضائل العروبة في باديتها من نخوة وبطولة وإباء وفروسية.

     بعد ذلك نجد ثلاثة أبيات يحاور فيها السيد عشيقته حواراً يدل على سفاهته في الإنفاق، وعلى سوابقه المماثلة، وعلى خضوعه لرغباتها، وعلى تلمظ شهوته.

     ثم نجد أنفسنا أمام بيت واحد يصور مشهداً مكثفاً لا يفصِّل في لحظة الإثم، وإنما ينقلنا إلى ما وراءها حيث نجد السيد مستغرقاً في نوم ممتع بعد أن أشبع نهمه. يلي ذلك بيت يصور العبد الذليل واقفاً في انتباه ويقظة وذلة. أما البطولات المأمولة فهي حزينة غريبة في مسرح الإثم، وهو ما يصوره البيت التالي. أما البيت الأخير من القصيدة فهو نقلة بعيدة فيها سخرية مرة يقرر فيها الشاعر أن الطريق إلى استرجاع القدس يمر بهذا العمل وما يماثله!

     وفي القصة بعد اجتماعي يتمثل في المفارقة البعيدة بين القادر السفيه وبين العبد والعشيقة، فهما ضعيفان أمام تفوقه المادي عليهما، بل هما عبدان عنده خاضعان لما يريد بقطع النظر عن نوع العبودية لدى كل منهما، وإذا كانا عبدين عنده فهو الآخر عبد لأهوائه العارمة التي تجعله يفعل ما يفعل محكوماً بشهواته، ومحكوماً بطريقته في التفكير التي اعتاد عليها، وهي أن الناس كالأشياء هي مجرد سلع تقتنى بالمال.

     وفي القصة بُعْد وطني حيث يبكي الشاعر مروءات العربي التي تجد نفسها غريبة في الجو الآثم، ويبكي القدس الضائعة التي لا يمكن أن تسترد مادامت أهواء الشهوة والبذخ والسفاه والتفكير الخاطئ هي السائدة.

     هذه القصة الشعرية كتبها الشاعر عام 1954م في أعقاب قيام دولة إسرائيل والجرح العربي لا يزال جديداً، والرغبة في الثأر لا تزال حية، مما يجعل حجم المفارقة والسخرية والنقد اجتماعياً ووطنياً حجماً كبيراً، وفق الشاعر في تقديمه لنا في أبيات قلائل محكمة متوالية محبوكة، صورت الحدث، ورسمت الشخصيات، وانتهت بالعبرة الساخرة التي نقلتنا نقلة بعيدة، حين وظفت الحادثة توظيفاً وطنياً عاماً خرج بها من خصوصيتها وفرديتها.

     لم تركز القصيدة كثيراً على تفاصيل الحدث، ولم تلاحق لحظة الإثم ملاحقة تستقصي فيها التفاصيل، ولو فعلت لأخذت نحواً آخر، يخفف درجة التوتر الوطني والاجتماعي والأخلاقي، ولأحلت محل هذا التوتر المحمود نوعاً من الاسترخاء اللذيذ الذي ربما أشاع الرضا والسرور، ولذلك يشكر عمر أبو ريشة فنياً كما يشكر وطنياً واجتماعياً وأخلاقياً. أما الشكر الفني فلأنه نجا من الإغراء الذي كان سيقع فيه، في التركيز على لحظة الضعف، مما يجعل في قصيدته استطالة لا لزوم لها تفقدها وحدتها وتماسكها، وأما الشكر الآخر فلأنه استطاع أن يختم القصيدة ببيت يلخص المفارقة، ويستفز الغضب، ويثير السخط، ويجعلنا في مواجهة الموعظة التي لم يطل فيها، فنجا من التقريرية والمباشرة والتكلف.

     وإذا كان أبطال القصيدة ثلاثة هم الرجل الفاسد، والمرأة الفاجرة، والعبد الذليل، فإن الرجل هو الشخصية المحورية، ولذلك ركز الشاعر عليه، واستطاع أن يصور عالمه الداخلي، ويغوص على أعماقه، فبدا لنا على حقيقته عبداً لأهوائه أسيراً لتفاهته، وأن سيطرته على المرأة والعبد سيطرة كاذبة، وأن ربقة العبودية حكمته كما حكمت سواه. سقط وهم السيادة عنه كما سقطت مروءته ووطنيته وأخلاقه.

     وللشاعر قصة أخرى نلتقي فيها بالجانب الوطني الذي يشده دائماً الى أمجاد أمته قديماً، ويجعله يتحسر على حالها الآن، القصيدة القصة عنوانها «في طائرة» قدم لها بالمقدمة النثرية التالية التي توضح مناسبتها «كان في رحلة إلى الشيلي، وكان إلى جانبه حسناء إسبانيولية، تحدثه عن أمجاد أجدادها القدامى العرب، دون أن تعرف جنسية من تحدث»، وهذه هي القصيدة:

وثبت تستقرب النجــــــم مجالا     وتهادت تسحب الذيــــل اختيالا
وحيالي غادة تلعــــــــب فــــي     شعرها المائج غنجــــــاً ودلالا
طلعـــة ريا وشـــــيء باهــــــر    أجمال جـــل أن يسمى جمــــالا
فتبسمت لهـــــا فابتسمــــــــــت     وأجالت فـــيَّ ألحاظاً كسالــــى
وتجاذبنا الأحاديـــــــث فمــــــا     انخفضت حساً ولا سفـت خيالا
كل حرف زل عن مرشفهــــــا     نثر الطيب يمينـــــــاً وشمـــالا
قلت: يا حسناء من أنت؟ ومــن     أي دوح أفـرع الغصن وطالا؟
فرنــــت شامخـــــة أحسبهـــــا     فـــوق أنســـاب البرايـا تتعـالى
وأجابــت: أنـــا من أندلـــــــس     جنـــة الدنيـــا سهــولاً وجبــالا
وجدودي ألمـــح الدهــــر على     ذكرهم يطوي جناحيـــه جـلالا
بوركت صحراؤهم كم زخرت     بالمــروءات رياحــــاً ورمــالا
حملوا الشـرق سنـــــــاء وسنى     وتخطوا ملعـب الغـرب نضـالا
فنما المجــد علــــــى آثارهــــم     وتحدى بعدمـــا زالوا الـــزوالا
هؤلاء الصيد قومـــي فانتســب     إن تجد أكرم من قومــي رجالا
أطرق القلب وغامـــــت أعيني     برؤاها وتجاهلـــــت الســــؤالا

     تقع القصيدة في خمسة عشر بيتاً، البيت الأول يصف لنا الشاعر فيه الطائرة، ثم يقسم ما بقي من الأبيات قسمين: يصف في القسم الأول جارته الحسناء في الطائرة، ويصف لنا في القسم الثاني اعتزاز الحسناء بجذورها الأندلسية، لتنتهي القصيدة وقد وظفها الشاعر توظيفاً وطنيا حميداً.

     منذ البيت الأول نجد أنفسنا في جو القصة ومسرحها الذي تعين على تمثله المقدمة النثرية التي مهد بها الشاعر لقصيدته، ففي هذا البيت نلتقي بالطائرة التي يسافر عليها الشاعر، وقد قفزت إلى الفضاء لتسير متهادية مختالة. أما الأبيات الستة التالية فهي وصف للحسناء الأندلسية التي تجاور الشاعر في رحلته، وهو وصف جميل يجمع إلى وصف حسنها وصفاً آخر هو اعتزازها بجذورها وثقتها بنفسها، فهي متحدثة بارعة، عالية الذوق، شامخة الأنف.

     ولو لم يلتفت الشاعر إلى هدفه الوطني لاسترسل في وصف الحسناء حيث إن الحديث عنها شديد الإغراء لمثله، لكنه لم يلبث أن تحول فيما بقي من القصيدة ليفخر بالأندلس على لسان الحسناء، وليلخص موقفه وحاله بلسانه هو في البيت الأخير الذي جاء ختاماً مكثفاً مركزاً مؤدياً.

     وتصوير الشاعر للحسناء الإسبانية جمالاً وذكاء وذوقاً، لم يتحول إلى امتداد يعصف ببناء القصة ويفقدها تماسكها، ذلك أنه تصوير يقدم لنا جمال الفتاة بعيداً عن كل ما يتصل بالشهوة، فبقي الجمال في القصيدة عامل تشويق يستثير الإعجاب لا أكثر، وهو إعجاب ينتقل بعد قليل من الفتاة شكلاً؛ إلى الفتاة مضموناً، وهو ما نلقاه في فخارها بالأندلس الذي يحسن الشاعر توظيفه توظيفاً وطنياً. ومن هنا يبدو مجيء الأبيات الستة مبرراً، وكأن الشاعر أراد فيها أن يصور جمال الأندلس من خلال تصويره لجمال الحسناء، وأن يقرن جمال الأرض بجمال البشر، ولا غرابة في ذلك، فالأندلس تعني للعرب من بين ما تعنيه الذوق والحسن والجمال.

     قال الشاعر على لسان الحسناء ما شاء من اعتزاز بالأندلس، فأثنى على جمالها، ومجد أجداده الذين فتحوها، وشادوا حضارتها الزاهرة المشرفة، وأشاد بمهد العرب ومنبتهم، وختم ذلك بسؤال جاء على لسان الحسناء فيه الاستفزاز والتحدي والاعتزاز معاً:

هؤلاء الصيد قومـــي فانتسب     إن تجد أكرم من قومي رجالا

     البيت الأخير في القصيدة يأتي على لسان الشاعر، وفيه يبدو ذاهلاً معتزاً متحسراً متوجعاً في آن واحد:

أطرق القلب وغامــــت أعيني     برؤاها وتجاهلـــــــت السـؤالا

     إنه في صمته وتجاهله للسؤال متحسر حزين، ذلك أن الحسناء تتحداه بأجداده هو دون أن تدري، وهو إذ يعتز بالأجداد يسكت عن حال الأحفاد التي لا تدعو إلى الاعتزاز؛ لذلك يؤثر الصمت في ذهول وحزن وحسرة.

     القصيدة قصة محكمة لا فضول فيها تنتهي نهاية باهرة، وقد وظفت توظيفاً وطنياً حميداً. في بيت واحد وصف الشاعر الطائرة، وفي ستة أبيات تحدث عن الحسناء الإسبانية حديثاً يمهد لما تلاه من فخار بالأندلس ومجد الصفحة العربية في تاريخها، ثم أنهى القصيدة ببيت واحد حاول أن يحشد فيه كل طاقته الفنية ليحقق ختاماً بديعاً للقصيدة القصة، دون أن يورد فيها استطالات لا لزوم لها.

     ومن القصص الشعرية البديعة لعمر أبو ريشة قصيدته «جان دارك» التي نظمها عام 1935م، وهو في أول شبابه، إذ مر على متحف اللوفر في باريس، فشاهد كما يقول في مقدمته النثرية للقصيدة صورة فتاة رائعة الجمال على صهوة جواد أدهم، فاستغرب عندما علم أنها جان دارك.

     وهذه القصيدة إحدى روائع عمر أبو ريشة التي تكشف عن مقدرته الفنية المبكرة حين قالها وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

     وجان دارك فتاة فرنسية عاشت حياة قصيرة بين عامي 1412ــ1431م، وخاضت حرباً حققت فيها نصراً على عدو بلادها، لكنها لم تلبث أن أسرت وماتت ميتة مأساوية إذ أحرقت حية من قبل أعدائها. وتختلط في سيرتها الأساطير بالحقائق، والدين بالشعور القومي، وقد كانت موضوعاً لصور وتماثيل كثيرة كتلك التي رآها الشاعر في متحف اللوفر.

     كانت جان دارك ابنة لمزارع فرنسي من مقاطعة اللورين، يقال: إنها بدأت وهي لا تزال في سن مبكرة تسمع أصوات القديسين «ميخائيل، كاترين، مارجريت» فلما بلغت السادسة عشرة من عمرها حثتها الأصوات على مساعدة «شارل الرابع» الذي كان الإنجليز يحولون بينه وبين العرش، فما كان منها إلا أن قابلت «شارل الرابع» في قلعة «شينون»، وهي ترتدي ثياب رجل، لتعرض عليه المهمة المقدسة التي انتدبتها إليها أصوات القديسين. واستطاعت بعد لأي أن تتغلب على شكوكه باجتيازها امتحاناً أجراه لها عدد من رجال اللاهوت، فجهزوا لها جيشاً خاضت به معارك ظافرة ضد الإنجليز الذين وقعت في النهاية أسيرة بين أيديهم فحاكموها بتهمة السحر والهرطقة محاكمة انتهت بإدانتها وإحراقها، فأحرقت وهي في التاسعة عشرة من عمرها. وبعد قرون من موتها بذلت جهود متنوعة لرد الاعتبار إليها، فإذا بها ترفع إلى مرتبة القداسة عام 1920م، وتصبح بالتالي بطلة دينية ووطنية في آن واحد.

     خلا عمر أبو ريشة إلى نفسه فتخيل وقائع وحوادث، وافترض أحلاماً وآمالاً، ونوعاً من الصراع والتحول في حياة جان دارك ربما لا يكون قد وقع بالفعل لكنه محتمل الوقوع، لذلك يقرأ الإنسان قصيدة الشاعر دون أن يحس بالافتعال والتكلف، ودون أن يشعر أنه يتعامل مع الأساطير، وقد قدم لنا الشاعر سيرة بطلته في أربعة مشاهد تتوالى توالياً منطقياً حتى تنتهي حياتها، وهذه المشاهد لا تغطي حياة البطلة كلها، لأنها تبدأ وهي فتاة كاملة النضج، أي أنها تغطي السنوات القلائل من آخر عمرها.

المشهد الأول:

الفجــــــــر أومــــأ والبتــو     ل بحلمها المعسـول نشوى
حتى إذا أطيافــــــــــــــــه     نفرت من الأجفـان عـــدوا
أخـــــذت تمطى والفتــــــو    ر يهزها عضواً فعضــــوا
وغطاؤهـــا المعطار يــــز     لق عن ترائبهـــا ويطـوى
وأكفهــــــا فـــي شعرهـــا     تــــزداد دغدغـــــة ولهـوا
والناهـــــــدان بصدرهـــا     يتواثبان هـــوى وشجــــوا
فـتشــــد فـوقهــــمــا وسـا     دتها وفي شغف تلـــــــوى
هيهات تروى والحيــــــــا     ء خدينها هيهات تــــروى
❊❊❊

نظـــــــرت إلـى مرآتهـــــا     والشعر مضطرب الضفائرْ
ولحــــاظهــا بثمـــــــالة الـ     أحـــــــلام ساهيـة فواتـــــر
وقميصها المحلـــــــول فــو     ق تواثــــب النهـدين حائــر
فاستعرضـــت عيشــــاً كما     شاء الهـــــوى ريان عاطــر
وتمثلـــــت خدنــــــاً يحـــلْ     لُ براحتيـــــه لهـــا المــآزر
ويضــمها شغفــــاً وتهـــــــ     ــوي فوقها القبـل المواطــر
فتلجلجت خجــــلاً وغصـــ     ـصت بالشهـي من الخواطر
وتنهــدت ألمــــــــاً وأطـــــ     ـبقت الجفون على المحاجـر

     صور الشاعر في هذا المشهد البطلة الجميلة وهي في مرحلة الأحلام الوردية والتطلعات الذاتية لفتاة مثلها، دون أي اهتمام يتجاوز ذاتها وآمالها، فالصباح يزحف ليملأ الكون، والبتول غارقة في أحلامها الجميلة، سعيدة بها، حتى إذا بدأت تستيقظ، وجدناها فاترة كسلى، شأنها شأن كل فتاة لها ظروف مواتية وليس لها هم عام أو خاص يحملها على النشاط المبكر، لذلك نراها تتمطى وتدغدغ شعرها وتعبث به، وتضغط على نهديها بوسادتها في شغف وتكسر، وهي بين نازعين متناقضين نازع الشهوة والإثم ونازع العفة والحياء، ويغلبها النازع الأعلى، فتبقى أختاً للطهر بعيدة عمــا يشين شرفها. والشرف رفيق للبتول حتى وهي تحلـــم، مما يمهد ذهن قارئ القصيدة لما سوف تقوم به من بعد من أعمال جليلة تليق بها، لذلك نراها تحلم وتتمنى، لكن أمانيها تظل في دائرة المباح إذ تتخيل زوجاً ترويه ويرويها. لكنها حتى وهي في حدود الحلم المباح تخجل وتتنهد وتطبق عينيها على أحلامها وكأنها تلوم نفسها.

المشهد الثاني:

وقفــــت تصلـــي هيبـــــــة     والنفس خاشعــــــــة كئيبـة
وصليبهـــــا القدســــــي ير     مقها بنظـــــــرات رهيبـــة
فترنحـــــــــت أجفانهـــــــا     عن دمعة القلــــــق السكيبة
وفؤادهـــــا المخذول يكــــ     تم في مخاوفــــــــه وجيبـه
فاستغفرت عن حلمه الـطــ     طاغي ولفتتــــــه المريبـــة
واستعصمــــــت بصليبهــا     من كل هاجســـــــة غريبة
وبنت له خلــــــــف الضلو     ع هياكل الحـــــب الرحيبة
وأتت على أمـــــــــل الشبا     ب وطيب زهرتـه الرطيبة

     في هذا المشهد نجد البتول في مواجهة بينها وبين دينها، فشبابها لا يزال في تطلعاته المشروعة للزواج والحياة الهانئة في ظلال الوصال والجمال والحب، ودينها ويمثله هنا الصليب يرمقها غاضباً وكأنه قد اطلع على سريرتها فيقع في داخلها الصراع الذي ينتهي بتحولها عن تطلعاتها، وتوجهها إلى واجبها الذي يمليه عليها إخلاصها لدينها، فإذا بها تبكي، وتخنق أحلامها، وتتجاوز ذاتها، وتنتقل من الهم الخاص المحدود إلى الهم العام الرحب، بآفاقه الوطنية والدينية، وإذا بها في زحمة الأحداث في حضور فاعل مرموق.

المشهـد الثالث:

مضت الليالــــي مثلمـــا الـــ     أحلام فـــــــي أجفان نائـــــم
فإذا البتول على جــــــــــــوا     د مثل جلــــــــــد الليل فاحـم
وأمامهــــــا علــــــم البـــــلا     د مموج الجنبـــــــات باســـم
ووراءها جيـــــــــش من الــ     ـفرسان مشدود العزائـــــــــم
وخيولـــــــــه مختالـــــــــــة     تحت العوالي والصــــــوارم
ينســـاب في الوادي كمــا الرْ     رَقطاء بات لهـــــا قوائــــــم
وغبـــــاره يعلــــــو علـــــى     جنبيه من عســــــف المناسم
والأفق مطـــــــروف العيـــو     ن بلفحه والصـــــــخر شاتم
❊❊❊

نادت بفيلقهـــــــا البتـــــــــو     ل وهز ساعدهـــــــا المهنــد
وعــــدت إلــى حـرم الجهــا     د السمح بالعـــــزم الموطــد
فتلاحـــم الجيشــــــــان فانــ     دلع اللظى والهــــول أرعــد
هــــذا يفـــــر وذا يكـــــــــرْ     رُ وذا يكـــــب وذاك يصعـد
والمـــــــوت يأكـــل ما تلقــ     ـقمه يد الطعـــــــن المســدد
حتى إذا نالت نــــــــــــــــوا     جذه مـــــن الأشــلاء مقصد
بدت البتـــــــــول كما بــــدا     من كوة الظلمــــــــــاء فرقد
تختال جذلــــــى بالفخـــــــا     ر وعـــزة النصـر المخلــــد

     في هذا المشهد نلتقي بالجيش الزاحف بقيادة البتول وبالنصر الذي تحققه، أما الجيش فهو ضخم كبير عتاده العدد الكبير والسلاح الكثير والعزيمة القوية، وتقوده البتول على صهوة حصانها الأسود، وأمامها علم البلاد الخفاق. وأما النصر فقد صنعته لقومها، إذ قادت الجيش بكفاءة وبطولة وعزيمة، فكان القتال المرير الذي انتهى بالنصر المؤزر وهزيمة الأعداء، فإذا البتول تختال جذلى فخوراً، وقد جمعت إلى تاج الجمال تاج البطولة.

المشهد الرابع:

نصر على نصـــر أقـــــضْــ     ضَ مضاجع الأبطال ذعــرا
حتى إذا الوطـــــــــن الأسيـ     ـر بدا من الأغـــــلال حـــرا
هوت البتــــــــول المستميـــ     ـتة في يـد الأعــداء غــــدرا
فطغـت سخائمهــــــــــم كما     لو في الهشيم قذفـت جمــــرا
ومشـوا مجوساً يحملـــــــــو     ن بتولهـــــــم للنار نكــــــرا
ومشوا بهــــا وتجمعـــــــوا     من حولهــــــا تيهاً وكــــبـرا
فتجلدت ويــــــــــد اللـظـــى     ترمي بمئزرهــا فتعــــــرى
وتهـــــزهـــا هــــــزاً فـتـعـ     ـلــــــو تارة وتخـــر أخـرى
❊❊❊

أخذت تصعــــــد روحهـــــا     في قبضة النـــــار المهيبـــة
وأمامهــــــا تمشــــي طيــــو    ف الخلـــــد فــي حلل قشيبة
فبــــدت تصـلـــى للصليـــــ     ـب صــــــلاة فـائزة طروبة
فإذا به يحنـــــــــــــــو عليــ     ــها بابتسامتــــه الحبيبــــــة

     في هذا المشهد تتوالى انتصارات البتول، ويتحرر الوطن من أغلاله. وحين تصبح أمل الناس وحديثهم تقع أسيرة بأيدي أعدائها، الذين تغلي أحقادهم عليها فيقررون إحراقها، وتحرق الأسيرة البطلة وهي متجلدة صابرة ذلك أنها اختارت ما اختارته عن وعي بخطورة العواقب المترتبة عليه، وترتفع ألسنة النار تأكل ثيابها وأعضاءها، وهي تغالب الموقف الذي آلت إليه إذ تجد نفسها تعرى وهي القديسة العفيفة، وتجد نفسها طعمة للنيران تخسر فيها شبابها وانتصارها. وتنتهي هذه المغالبة بظفرها، إذ تأخذ تصلي صلاة من رضي بالموت من أجل واجبه، فتصعد روحها للسماء وتعانقها أطياف الخلود والمجد حيث صارت رمزاً لبلدها، فيغلب عليها الإحساس بالفوز، ويغمرها الشعور بالرضا، إذ تجد صليبها الذي نظر إليها من قبل غاضباً مستنكراً، ينظر إليها الآن حانياً مبتسماً، ولا غرابة، غضب عليها من قبل إذ كانت في عالم ضيق من الاهتمامات الصغيرة المحدودة، ورضي عليها من بعد إذ تطهرت بالصلاة والنار والقتال من نزواتها وأهوائها وغرائزها، وارتفعت إلى أفق شامخ يجمع بين الدين والوطنية، فإذا بالبتول قديسة دينية وبطلة وطنية في آن واحد.

     هذه القصيدة القصة بمشاهدها الأربعة، قصيدة وطنية وظفها الشاعر توظيفاً حميداً فيما يمكن أن يسمى تقديس البطولة والتفاني في الدفاع عن الوطن والتضحية في سبيله ضد المحتل. وينبغي هنا أن نتذكر أن الشاعر نظم قصيدته عام 1935م وبلده سورية تحت حكم المستعمر الفرنسي، فكان يرى في «جان دارك» رمزاً للبطولة ينبغي أن يحتذيه السوريون، وكان يرى في انتصاراتها على الإنجليز بشريات لانتصارات يرجو أن يحققوها على من استعمروهم. وكأنه إذ يشيد بالبطولة يهيب بالسوريين أن يكونوا أبطالاً، بل يهيب بكل عربي استعمرت بلاده أن يكون بطلاً، وكأنه أيضاً يدعو شباب قومه إلى هجر الترف والميوعة والإقبال على الشدة والخشونة، ومنح الوطن ما يستحقه من فداء وتفان وإخلاص، فليست جان دارك أحسن منهم، ولا هم أقل منها، وفي وسع كل منهم أن يجد فيها نموذجاً لما يسـتحقه الوطن من بذل وعطاء ولو كانت النهاية ناراً تحرق.

     ومما يجدر ذكره هنا أن الشاعر نظم القصيدة في عنفوان شبابه، ولعله كان يتخيل نفسه قديساً في وطنه كما كانت «جان دارك» قديسة في وطنها يعينه على ذلك شباب متوقد، وطموح بالغ، واعتزاز كبير بنفسه، ونزوع إلى التمرد والمغالبة والثورة والفداء، ولعله كان يعني نفسه حين قال في عام 1941م بيته الذائع:

تقضي البطولة أن نمد جسومنا     جسراً فقل لرفاقنــا أن يعــبروا

     وقد كانت له مواقف في حياته تجعله جديراً بهذا البيت، فحسبه أنه ناضل ضد الفرنسيين، وتعرض للسجن والملاحقة.

     إذا كانت هذه القصيدة القصة تقع في صميم الشعر الوطني، وإذا كان الشاعر قد بذل جهده لتقديم جان دارك رمزاً ونموذجاً للبطولة المقدسة التي ينبغي أن يحتذي خطاها شباب العرب ضد محتلي بلادهم؛ فكيف استساغ لنفسه أن يطيل في تصوير المشاهد المثيرة للغزائز والشهوات حين صور شباب جان دارك وجمالها!؟ إننا نجد أنفسنا أمام استطالة لا لزوم لها، بل هي امتداد يصرف خيال المتلقي عن الصورة المثلى للبطلة القديسة كما أراد الشاعر أن يقدمها، ويحوله إلى التلذذ الشهواني بمفاتنها، فيضيع هدف الشاعر في غمار هذا التحول. على أننا قد نجد أنفسنا إزاء تفسيرين نفهم على ضوئهما دوافع الشاعر إلى هذه الاستطالة. أما التفسير الأول: فهو أنه أراد أن يبرز ما طرأ على جان دارك من تناقض بين فترتي حياتها حيث كانت أسيرة أحلامها الذاتية من قبل، وحيث تحررت من هذه الأحلام واستجابت لدواعي البطولة والدين من بعد. وأما التفسير الثاني: فهو أن الشاعر حين نظم قصيدته كان في وقدة شبابه حيث كان في الخامسة والعشرين من عمره، وحيث كان يعاني من تجربة حب حزينة مرت به قبل بضع سنوات فحمله عقله البــاطن على أن يمضي في هذه الاستــــطالة التي لا مـــكان لها في هذه القصيدة.

     إذا صح هذان التفسيران يمكن لنا أن نقول: إن ذات الشاعر الخاصة تداخلت مع همه الوطني العام في هذه القصيدة التي صاغها من خلال مؤثرات متنوعة وتداعيات نابعة من الشعور ومن اللاشعور. وتبقى القصيدة في النهاية عملاً فنياً متكاملاً حقق هدفه ونجا من شراك السرد النثري، وقدم حياة البطلة في مشاهد تتكامل في نسق فني جذاب اعتمد فيه الشاعر على التصوير أكثر من اعتماده على الحبكة والحدث، لذلك كثرت في القصيدة الصور المزدحمة التي أرخى الشاعر لنفسه العنان فيها وهو يرسم البطلة ومراحل حياتها مما أعطى القصيدة قيمة فنية تجعل الدارس لا يبالي كثيراً بغياب العناصر القصصية الأخرى[12].

     على أن امتداد التصوير وتطاوله، والاستطالة التي بدت نشازاً لا حاجة له، لم يفقد القصيدة توالي الوقائع فيها توالياً منطقياً مطرداً تتصاعد فيه نحو ذروتها، ثم يأتي الحل الذي يكون ختاماً مأساوياً.

     ولقد كانت جان دارك هي الشخصية الوحيدة في القصة، فهي بطلتها، وهي محور الأحداث، لذلك ركزت عليها عدسة الشاعر بكل قوتها فاستطاعت تصويرها داخلياً وخارجياً، حركة نفس وحركة حياة، حتـى انتهت حياتها النهاية التي تتسق مع الوجهتين الدينية والوطنية.
***

     وربما كانت قصيدة «كأس» خير ما يمثل شعر عمر أبو ريشة القصصي في اكتماله الفني إذ يبدو أن الشاعر بذل فيها جهداً غير عادي ونظمها وهو في أوج شبابه في عام 1940م حيث كان في الثلاثين من عمره.

     وتدور قصيدة كأس حول الحكاية المروية عن الشاعر الحمصي عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن الحمصي، بطل الواقعة ومحور أحداثها، وخلاصة الواقعة أن ديك الجن أحب جارية له اسمها «ورد» حباً عنيفاً، وقد اقترن هذا الحب بغيرة حمقاء دفعت به إلى أن يقتلها حين زعم له بعض من حوله أنها خانته، فلما تبين الحقيقة بعد فوات الأوان ندم ندماً شديداً وأحرق جثة «ورد»، وجبل من رمادها كأساً كان يشـــرب بــه الخمر، وكان بين شربه وبكائــه ينشــد:

يا طلعة طلع الحمــــــام عليهــــا     وجنى لها ثمـــــر الردى بيديهـــا
رويت من دمهـــا الثرى ولطالما     روى الهـــــوى شفتي من شفتيها
قد بات سيفي في مجال وشــاحها     ومدامعــي تجري علـــى خديهـا
فوحق نعليها وما وطــئ الــثرى     شيء أعز علـي مــــن نعليهـــــا
ما كان قتليها لأنــــي لـم أكــــــن     أبكي إذا سقـــــــط الغبار عليهــا
لكن ضننت على الحسود بحسنها    وأنفت من نظــــــر الحسود إليها

     هذا هو ملخص الواقعة التي بنى عليها عمر أبو ريشة قصيدته «كأس» بعد أن وجه أحداثها توجيهاً آخر، لذلك لا حاجة لنا في عرض سيرة ديك الجن، وما شاع فيها من خلاعة ومجون، ولا حاجة لنا في عرض الروايات المختلفة عن سبب القتل.

     تتكون قصيدة «كأس» من سبعة مقاطع يختلف فيها حرف الروي، وفي كل مقطع سبعة أبيات، فأبيات القصيدة تسعة وأربعون بيتاً، تجري على لسان المتكلم بطل القصة ديك الجن الحمصي.

     لم يتقيد الشاعر بالواقعة كما جاءت في كتاب الأغاني للأصبهاني، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتزيين الأسواق لداود الأنطاكي، ولم يجعل للخيانة الزوجية أو الدسائس مكاناً في أسباب القتل، بـــل جعل العجـــز الجنسي الذي أصاب ديك الجن وجعلـــه جريحاً أمام شباب «ورد» الظامئ سبب الجريمة، إذ دفعه هذا العجز إلى أن يغرق في أوهامه وظنونه، وفجر فيــه نــار الغيرة الهوجاء فعاقب محبوبته بذنب لم تقترفه، وأسقط عليها خيبته ورغبته وعجــزه.

     في المقطع الأول نجد ديك الجن يحاور نفسه، والجريمة قد وقعت وكأس الخمر بين يديه، وهو بين داع يدعوه إلى الكف عن الشراب وآخر يدعوه إليه وهو ضائع بين شرابه وهذيانه، وبين صحوة ضميره الذي يؤرقه وخوفه من القصاص في الآخرة:

دعها فهـــذي الكـأس مــا     مرت علـى شفـتي نــديـمِ
لي وقفــــة معهـــــــا أمـا     م الله في ظـل الجحيــــــم
دعها فقــــد تشقيــــك فيــ     ــها لفحـة البغي الرجيـــم
وتنفـــس الشبــح الشقـــيـ     ـيُ على جذى حــب أثيـم
ما لي أراك تطيــــــل فيـ     ـيَ تـأمل الطرف الرحيـم
أتخـالني أهــذي وخمــــــ     ـري صحوة القـلب الكليم
اشــرب ولا تـترك جـــرا     ح السر تعوي في رميمي

     الصراع النفسي في هذا المقطع يتخذ شكل مونولوج داخلي يخاطب فيه البطل نفسه وهو أسير دوامة من العواطف الحادة المتأججة المتناقضة التي تنتهي بهروبه إلى الخمرة يغرق فيها أحزانه فيجرد من نفســــه شخصاً يحاوره حواراً هو أقرب إلى البوح والشكوى منه إلى أي شيء آخـــر.

     في المقطع الثاني الذي يبدأ بقول الشاعر:

كانــــت تغنيني وكنــــ     ـت أحس بالنعمى تغني

     تعود عدسة الشاعر إلى الوراء حيث نجد أنفسنا أمام شريط من الذكريات المختزنة لدى ديك الجن، نجد فيه جاريته تغمره بالنعمى، وتغريه بحسن القوام، وتحمله إلى عوالم مجنحة من الأوهام الجميلة، هو بها سعيد هانئ لكن خيطاً من القلق يظهر في هذا المقطع، وهو شعوره بشيبه مقابل شبابها، ووهنه إزاء نضرتها وحيويتها، وهذا الخيط تمهيد دقيق يشي بما سوف تتطور إليه الأحداث والمشاعر وما سوف تنتهي إليه ويهيئ أذهاننا لهذا التطور.

     في المقطع الثالث نجد أنفسنا منذ البيت الأول إزاء المشكلة وهي تستفحل، هي شابة تنادي، وهو شيخ عاجز:

نـادى هواهــــا فالتفـــتْ     تُ، وما رددت له جوابـا
وشبـابها الظمــــــآن بيــ     ـن يدي يستجدي السرابا

     فما يجد نفسه إلا هارباً إلى الخمر يداري بها عجزه ورجولته الجريحة:

فوجمت مجـــروح الرجـو    لة أخفض الطـرف اكتئابا
ورجعت للأكــــــواب أمـ     ـلأها على غصص شرابا

     في المقطع الرابع نجد ديك الجن وجاريته في وصال ميت، هي تستجدي فحولته وتقدم له كل ما لديها من فتنة وهو عاجز لا يستطيع أن يروي جوعها، فكان مثله كمثل تلك الظبية التي ماتت وهي تنوء بعبء جراحها دون أن تستطيع أن تروي خشفها الجائع:

كم ظبيـــة قعـدت بعـب     ء جراحهـــا تتوجــــــع
لما رأت في خشفهـا الـ      ـجـــــــوع الملح يروع
زحفت لترضعــــه وما     تــــت وهو بـاق يرضع

     في المقطع الخامس نرى الجارية نائمة والعاشق يرقبها ويتوهم أنها تحلم بغيره، والقلق يدفعه إلى أن يعرف سريرتها التي تخفيها:

نامت وخلــف نـدي جفـــــ     ـنيهـــــــــــا حيــــــاة تحلـم
ط،،،وراً تقــــطب حاجبيــ     ــــها تـــــــــــــارة تتبســـم
وعلى ارتعاش شفاههــا الـ     ـحمــراء بـــــــــوح مبهــم
فدنوت أصغــي علهــــــــا     في همســـــــــــــة تتلعثـــم

     لكنه لم يظفر منها بشيء يدينها أو يبرئها، فيعود القهقرى حزيناً محترقاً بنار الوهم والأمل المحطم.

     أما المقطع السادس فيدور حول ديك الجن نفسه الذي يقر بغيرته الهوجاء، وعجزه الضارب أطنابه، وخوفه من أن يموت وتكون جاريته الحسناء من بعده لسواه، فيضيق الكون الرحيب عليه وتستبد به الآلام:

نامت وجنح الليــل جـــــــنْ     نَ وغيرتي الهوجاء غضبى
أنا لن أعيش غـــداً فـــــــأر     وي قلبها الظمــــــآن حبــــا
أيضم غيري هـــــــــذه النـ     ـنُـعْمى متى وُسِّـــــدت تربـا
ويحي لقد جــــــف الرضى     رطباً وضاق الكـــون رحبا

     أما المقطع السابع والأخير فهو يصور لحظة المأساة، إذ تتدافع فيه الخواطر السوداء، والرغبة الجانحة الآثمة، فيبكي ويقتل جاريته ويجبل من رمادها كأسه، ويشعر بالفزع لجريمته ويهرب مما به بالإغراق في الشراب:

قبلتهــا والليــــــــــــــل ينـ     ـفــض عنه أسراب النجوم
ومدامعي تجـــــري وكفـــ     ـفــي فوق خنجري الأثيــم
هي وقفة رعنــــــاء ضـــا     ق بهولها حلــــم الحليـــــم
فحملت شلــــــــو ضحيتي     والنـــار حمـراء الأديـــــم
وجبلت من تلك الجــــــذى     كأسي ومن تلــــك الكلــوم
وغداً أحطمهــــــــــا أمـــا     م الله فـــــي ظـــل الجحيم
فاشرب ودعهـــــا فهي ما     مــــرت علــى شفتي نديم

     لقد روى عمر أبو ريشة حكاية ديك الجن من خلال ضمير المتكلم، فأجرى الحوار والسرد على لسان بطل القصة عبد السلام بن رغبان، في مونولوج داخلي، نجد فيه مشاعره وأشواقه وعجزه وأوهامه وبوحه وباطنه وظاهره، كما نجد فيه الذكرى المختزنة واستبطان الذات، والتناقضات التي تجمع بين الحب والأثرة، والرغبة والعجز، والإقدام والإحجام، والاتزان والهذيان، وما إلى ذلك مما يضطرب في خلده فيشل قدرته شللاً يحتاج معه إلى جرعة قوية من الرعونة التي تغلب الحلم والأناة، والنرجسية الحادة التي تحول العاشق إلى ذئب مفترس يفتك بالمعشوقة فيقدم على جريمته.

     لقد التقط عمر أبو ريشة حكاية ديك الجن من تاريخ الأدب العربي، لكنه فسرها تفسيراً آخر، وأخرجها إخراجاً مختلفاً جمع فيه بين أصل الواقعة والخيال المبدع الذي يضيف ويتصور، فإذا بنا أمام عمل فني بديع متناسق، عليه بصمات عمر أبو ريشة لا أخبار الروايات المختلفة هنا وهناك، «ولا ضير على القصاص أو الشاعر في مثل هذا التغيير مادام يفسر الأحداث من زاوية جديدة تخدم الناحية الفنية»[13]. يبقى في نهاية هذه الوقفة مع قصيدة كأس أن نشيد بقدرة الشاعر على الربط بين أجزاء القصة وتطوير اتجاه الأحداث فيها، لنجدها ما بين نهايتها وبدايتها بناء متسقاً متكاملاً، ووحدة فنية مترابطة. لذلك ربما كانت أكمل أعماله الشعرية في باب القصة.
***

     وفي ميدان المرأة نجد لعمر أبو ريشة قصيدة قصصية عنوانها «دليلة» استمد الشاعر اسمها من التوراة في الأسطورة التي ترويها عن شمشون ودليلة. والقصيدة تأتي على شكل رسالة يبعث بها عاشق مخدوع لامرأة خدعته، وتتوالى فيها الأحداث توالياً متسلسلاً منطقياً حسب وقوعها حتى تنتهي نهاية على غير ما يود، فيدعها على ما وجدها عليه واعداً إياها أنه لن يفعل كما فعل «شمشون»، فلها أن تعــــربد كما فعـــــلت «دليلة».

     في البداية نجد أنفسنا في جو من السعار الجنسي المحموم والسكر والعربدة بين العاشقين يفترقان بعده على وعد منها أن تزوره في «فيينا» الجميلة، لكن العاشق يظن أن الوعد مجرد نزوة عابرة لا جدية فيها:

لم أصدقك حين قلـت سآتيـــــ     ـك وألقاك في فيينا الجميلَـــةْ
قلتـها بعدما ترنحــت بالكـــــأ     س ووسدتها الشفــــاه النحيلة
إنها خطرة على السـكر مرت     لم أعرها من التفــــاتي قليلـه

     بعد هذا المقطع الافتتاحي، نجد أنفسنا أمام مقطع آخر يتحول فيه الشاعر من السرد إلى الوصف ليقدم لنا صورة ناطقة لشتاء النمسا وخطى دانوبها الثقيلة، وفي مناخ الباحث عن الدفء وعن الرفيق يجد معشوقته تبر بوعدها وتوافيه في كوخه المنعزل فيذهل للمفاجأة السارة حيث يلتقي العاشقان في جو يوحي بالرومانسية التي تتسلل إيحاءاتها من خلال الشتاء والدفء والعزلة والحاجة إلى الرفيق الذي يشارك رفيقه اللقاء في كوخ منفرد كأنه في بيئة ريفية:

وتعرت على الشتــــــــاء فيينــا    واكتســــــت بالغمائم المجدولة
وتلوى الدانوب بـــــــين يديهــا     متعباً ساحبــــــاً خطاه الثقيلــة
كان يوم بالدفء يغـري وكانت     كل نفس عن أختهـــــا مشغولة
جئت كوخي عجلان فابتدرتني     في ذهولي فجـــــاءة مستحيلــة
إنها أنت أنت جـــزت إلى السـ     ـسحب والليل والريـــاح البليلة
لم أصدقك لم أصــــدق عيوني     لم أصدق قبـــلاتك المعســـولة

     ويغرق العاشقان في سعار الشهوة العنيف، ويعكفان على الملذات ويمضيان إلى أماكن شتى من المدينة الجميلة حيث اللهو والمجون، في كهـــوف العشاق والمدمنين والمدخنين والمتسكعين، حيث بائعات اللذة، وباعة الخمور، ومغنون، وضائعون وضائعات، ويعود العاشقان بعد هذه الجولة الحافلة إلى الكوخ من جديد ليتابعا لذة الوصال:

وانطلقنا وكل مجلــــــــى فتون     كنت تغشين ما عرفــــت مثيله
وأوينا إلى مخابـــــــــــئ كهف     رد أيــدي زمانـــــه مغــلولـــة
وعلى كل مقعد وجـــــــــــــدار    منه أسماء فتيــــة مجهولـــــــة
وصحونا على ســــــؤال مغـن     هدَّ من كاهليه عبء الكهولــــة
وبلغنا الكوخ الصغـــــير تخيــ     رت سريري لم تستطيـبي بديله
وتهاوى ما بيننا مـــــن حجاب     فانتشى جدول ورفـت خميلــــة
وأطل الصباح نشـــوان يروي     عن هوانـــــــا هديره وهديلـــه

     ويفترق العاشقان بعد وعود بالوفاء تؤكدها مواثيق ومراسلات ليعود الشاعر إلى أرض الوطن فيحمله الشوق إلى أن يتجه إلى دار المعشوقة لتكون المفاجأة ونهاية القصيدة. عاد العاشق مدفوعاً بالشوق والرغبــة والذكرى لكنه ما كاد يصل إلى دارها حتى وجدها وكراً للدعارة، وماخوراً للإثم، هنا يشعر بالذل، ويأبى على نفسه الركون لتجربة خديعة جديدة مع آثمة محترفة، فيطلب منها ــ عبر رسالته ــ أن تمزق الرسالة، وتطوي صفحة الصلة، وتستمر على عبثها آمنة من انتقامه، فلن يكون «شمشون» المنتقم، فلتكن هي «دليلة» السادرة:

لست أنسى يوم الرحيل وشيئاً     من حياتي شيعت فيـــه رحيله
وتوالت علـــي منــك رســـالا     تُ شجـون وأمنيــات نبيلـــــة
وبلوت الصــــبر المبرح حتى     لم أطق حملـــــــه ولا تعليلــه
فأتيت الحمى وكان وشــاح الـ     ـليـل ملقى على النجـوم الكليلة
وتوقفت عند بيتـــــك مـــــا أو     جعها وقفة هنــــــــــاك ذليلــة
عشيَتْ مقلتاي حـــــين تراءى     ليَ طيفان يبغيــــــــان دخولـه
قد سمعت الصدى لقبلـة عربيـ     ـد وسكرى وفاجــــــر وخليلة
مزقي هـــذه الرسالـــــــة إني     قلت فيها ما لـــم أرد أن أقوله
ليس في هيكلي مجال لشمـشو     م جديد فعربـــــــدي يـا دليـلة

     وهكذا تنتهي هذه القصيدة القصة نهاية تدل على استسلام الشاعر ورضاه بالهزيمة، وانصرافه عن المعشوقة الخائنة دون مجرد لوم لها، ودون أي توظيف اجتماعي أو أخلاقي أو وطني. إنها قصة ممتعة موفقة فنياً ناجحة في السرد والوصف والتحليل والتصوير والإيحاء، لكنها تبقى بعد ذلك كله كليلة الجناح، ذات طابع شخصي جداً يشي بالنرجسية والشهوات والآثام والاهتمامات المنحرفة.

     ولعمر أبو ريشة قصيدة شهيرة لا يجوز إغفالها اسمها «نسر» ذلك أنها قصيدة رمزية قصصية، كان الشاعر شديد الاحتفاء بها كثير الإنشاد لها وكأنه كان يرى نفسه فيها.

     والقصيدة تصور نسراً شاخ فلم يعد يعيش في شواهق الجبال التي تليق به، بل في السفوح مع بغاث الطير وعجافه، وذات يوم عصف به الجوع وهو يتلوى على الرمال، والطيور الضعيفة تدفعه وتنازعه طعامه ومكانه، فغضب على ما آل إليه أمره، وجمع بقية قوته وحلق باتجاه وكره المهجور في قمة الجبل حيث هوى جثة هامدة في حضنه مستريحاً لهذه الميتة اللائقة به. في نهاية القصيدة يسأل الشاعر صديقه النسر عما إذا كان قادراً هو الآخر أن يعود إلى قمة الجبل الذي يصون كرامته أم أن حياة الهوان في السفوح بلدت حسه وأماتت فيه هذه الروح!؟ وهذا السؤال إلى جانب معرفة أي دارس لطبيعة الشاعر ونفسيته بما فيها من إباء وكبرياء وعناد ورغبة فـي التمــرد، تجعلـــه يقرر أن القصيدة تصور صاحبها من خلال تصويرها للنسر.

     تبدأ القصيدة بتصوير السفح الذي صار بيتاً للنسر مما يستدعي غضب الجبال على مصير ابنها ورفيقها:

أصبح السفح ملعباً للنســـــــــور     فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري

     أما النسر العجوز فقد:

هبط السفح طاويــــــــاً من جنا     حيه علــــى كل مطمـــح مقبور
نسل الوهن مخلبيــــه وأدمـــت     منكبيه عواصــــــــــف المقدور
وقف النسر جائعــــاً يتلــــــوى     فوق شلو على الرمـــــــال نثير
وعجــاف البغــاث تدفعـــه بالـ     ـمخـلب الغض والجناح القصير
فسرت فيه رعشة من جنون الـ     ـكبر واهــــــــتز هزة المقـرور

     ويحمله هذا الكبر على أن يعود إلى القمة فيموت عليها:

وهوى جثة على الذروة الشمْـ     ـمَاء في حضن وكره المهجور

     أما البيت الأخير، وهو السؤال الذي يتجه به الشاعر إلى صديقه النسر أو إلى نفسه فإنه يلخص القصة كلها، ويتجه من الرمز إلى التصريح:

أيها النسر هل أعود كما عـــد     ت أم السفح قد أمات شعوري

     والحقيقة أن هذه القصيدة القصة من أجمل شعر عمر أبو ريشة وأغناه بالتصوير والتحليل، وأكثره دلالة على نفسه. حقاً إن أحداث القصة قليلة، ولكن الشاعر التقط منها ما يحتاج إليه في تصوير ما يريد، فمنذ البداية نجد أنفسنا مع القمة الغاضبة لما آل إليه أمر النسر الذي هجر وكره إلى السفح مما يجعلنا في جو القصة ومناخها، ثم نجد أنفسنا أمام نسر واهن جائع تنازعه الطيور التي ما كانت تجرؤ على الاقتراب منه، فيغضب غضباً عنيفاً، ويجمع قوته حتى يطير، وعندها يأتي الخيط الأخير حين نرى النسر طائراً في الآفاق، صارخاً صرخة مخيفة، يهوي بعدها ميتاً، ولكن في وكره على الذروة. وهنا تنتهي القصة، وتنتهي القصيدة، ويأتي البيت الأخير الذي نعلم منه أن الشاعر يريد أن يعيش نسراً، ويموت نسراً، وأنه يتخوف على نفسه من إلف الهوان والذل. يبقى أن نقول: إن الشاعر نظم هذه القصيدة عام 1938م، أي حين كان في الثامنة والعشرين من عمره، وهو في أوج حيويته التي كان يغذيها شبابه وتطلعاته ونضاله السياسي حيث كان أحد من يشار إليهم بالبنان في مقاومة المحتل ومحاربته، فكان في معمعة النضال الوطني نسراً بحق.

     ومن أروع قصص عمر أبو ريشة قصيدته «لوعة» التي قالها في رثاء ابن أخته «علي الشهابي» عام 1962م. والقصة تحدثنا عن رسالة بعثت بها أم الفقيد إلى أخيها الشاعر تخبره بالفاجعة التي لا نعلم عنها شيئاً إلا في البيت الأخير الذي يقدم لنا المفاجأة دفعة واحدة. فالقصيدة تتحدث عن مراسلات أخته الكثيرة له، وعن الشوق إلى اللقاء، وتحدثنا عن علي الشاب المرح الطموح الذي طالما حدثه عن أحلامه الخاصة والعامة، ويظل الشاعر في هذا الإطار الجميل فلا ندري ولا يدري شيئاً إلا حين تفاجئنا وتفاجئه أخته في البيت الأخير بوفاة ابنها:

ما لهـــــا تنحرني نحراً على     قولها: مات ابنها.. مات عليّ

     فنشعر بالكارثة دفعة واحدة، وهي كارثة تزيدها المفاجأة حزناً وألماً بعد مجموعة المقدمات البديعة عن الأشواق والأماني والأحلام والذكريات مما يتوقف دفعة واحدة، فنجد أنفسنا أمام ما يعصف بذلك كله ويحوله إلى خواء وهو الموت. هذه القصيدة من أعاجيب عمر أبو ريشة، متفردة في كونها رثاء، ومتفردة في كونها قصة، ومتفردة في وحدتها العضوية، وهي نموذج من أروع نماذج الجهد الفني المبدع لا يكاد يعرف له مثيل، قدمه لنا الشاعر وهو في الثانية والخمسين من عمره، في قمة عطائه الفني واكتماله. وقد سبق الحديث عن هذه القصيدة بالتفصيل في الفصل الذي تحدث عن الوحدة العضوية عند الشاعر.

     وفي قصـيدة عمر أبو ريشة «بلادي» التي أنشدها عام 1947م في تأبين السياسي السوري الشهير سعد الله الجابري قصة متكاملة صـور فيها موقفـاً نبيلاً للمـرثي وقف فيه إلى جانب الزعيم الوطني «إبراهيم هنانو» الذي قام بثورة مسلحة ضد الفرنسيين، كما صور اعتزازه بهذا الوقـوف الذي من شأنه أن يجر عليه غضب المحتـل وبطشه:

قـــــارع البغي وهو أعـــــزل إلا     من سلاحيـــــن نخوة واعتـــــداد
ما نسـينــــــاه يوم جـــيء بـإبــرا     هيـم بيــــن الحراب والأجنــــــاد
وتـلقتـــه سدة العـــــدل خجـــــلى     منـــه من جرحـــه من الأصفـــاد
وهجـــــان القضــاة تـلمع في أحـ     ـداقهــــا الزرق مديــــة الجــــلاد
ســــألوه عن صحبــــه فأبـــى أن     يقفر الغـــــاب من حمـى الآســـاد
فسرى الصمت يحبس النفس المتـ     ـعب في رهبة القضـــــاء البــادي
وإذا زأرة يموج لهـــــــــــا الجمـ     ـع وتدوي صخـــــــابة الإرعــاد
وإذا سعد الأبــــــــــــــي مطــــل     ثابت العــــــزم مطمئن الفـــــؤاد
صاح إني فرنــــــــد كــل حسـام     شهرته كــــف العلـــــى للجـــلاد
كيف أغفو على فــراش الأقـاحي     وهنانو على فــــــــراش القتـــــاد
أنــــا زودته بما أبقــــــــــت الأيـ     يــــام فينا مـــــن عــــــدة وعتـاد
فاغســــلوا ذل كيــــدكـــم بدمائي     واحمـلـــوا هامتي على الأعـــواد
حبذا الموت إن رأيـــت علــى مو     تي حيـــــــاة لأمتـــي وبـــــلادي
وقفة ردت الذئــــــــــــاب سخالاً     وثنتها عن غيهـــــا المتمــــــادي
هكذا تصمد النســـــور وتــذري     بالسوافي على ذرى الأطــــــواد
وتجلى من بعدهـــــــــا يتهــادى     باختيــــال علـــى الأذى واتئـــاد
زهوة في تواضـــــــــــع وإبــاء     في خشوع ورقـة فــــــي عنــــاد

     هذه الأبيات التي صور فيها عمر أبو ريشة الموقف النبيل للمرثي في دفاعه المحفوف بالمخاطر عن «إبراهيم هنانو» هي قصة متكاملة تقع في سبعة عشر بيتاً، قدم لنا الشاعر فيها موقف سعد الله الجابري مبتدئاً ببيت تمهيدي نعلم منه أن الجابري تصدى للموقف الخطر، وهو أعزل من القوة المادية، لكن قوته النفسية كانت له نعم العوض، وهي قوة تتكون من نخوة تحمله على المسارعة لغوث هنانو، واعتداد يجعله يربأ بنفسه عن مواقف العجز والسلبية:

قارع البغي وهـــــو أعزل إلا     من سلاحــــــين نخوة واعتداد

     بعد هذا البيت الذي كان مدخلاً تمهيدياً ذكياً تتوالى الأبيات تصور محاكمة البطل الأسير تصويراً ينقلنا إلى جو من الخوف والذعر والترقب، فإبراهيم هنانو يؤتى به أسيراً تحوطه الحراب والجنود، والشك في عدالة المحاكمة يجعل العدل خجلاً مما يرى، والقضاة الضعاف يكادون يحكمون بالموت قبل المحاكمة. وحين يسأل البطل عن أعوانه يلوذ بالصمت فهو أكبر من أن يشي برفاقه، وحين تستبد الرهبة بالموقف العصيب يفاجئ المرثي الناس، شهوداً وقضاة بموقف نبيل شجاع وطني أخلاقي، إذ يقطع الصمت في ثقة وثبات ورجولة، ليعلن أنه جاء ليدافع عن البطل الأسير، وليعلن أنه كان عوناً له وشريكاً فيما فعل.

     وبعد أن يعرض عمر أبو ريشة ببراعة لموقف المرثي يختم الأبيات بأثر الوقفة الشجاعة على الباغين إذ ردتهم عن غيهم وجعلتهم ينكمشون:

وقفة ردت الذئـــاب سخـــــــــــالاً     وثنتها عن غيهـــــــــا المتمــــادي

     ثم يشيد بأبيات ثلاثة تلي هذا البيت بوقفة المرثي ونفسيته جاعلاً منه «نسراً» وهو الرمز المفضل للرجولة عنده، ورجلاً متزناً لا تحمله ثقته بنفسه على ما لا يليق فهو يزهو في تواضع، ويأبى في خشوع، ويعاند في رقة.

     ويبدو أن عمر أبو ريشة كان معجباً بإبراهيم هنانو إعجاباً كبيراً، ولا غرابة في ذلك، إذ يمكن أن يعزى هذا الإعجاب إلى وطنية الشاعر وكراهيته للقيود والاستعمار وما جبل عليه من إباء وعناد ونزوع إلى التمرد، وحبه للبطولة والأبطال، وعشقه للرجال الذين يمثلون الفداء والرجولة والإقدام، ومواقف إبراهيم هنانو تجعله واحداً من هؤلاء، وتجعل الشاعر محباً له معجباً به، يقدمه لنا في هذه الصورة القصصية الشائقة:

وغفت هـــــذه المرابــــــــع حتى     أيقظتهـا صيحات ليث هصــــور
فاشرأبـت حيرى فلاح «هنانـو»     فوق مهـــــــر ممرد التضمـــــير
عرفت فيه طارقاً في الجبال الشْـ     شُمِّ يمشي بالجحفـــــل المنصـور
وفتى المجد خـالداً يلقــــــم الـــير     موك أشــلاء خصمـــه المدحـور
فرنت ترقــــب الهمـــــــام ولــلآ     مــال خفــق مسعّر في الصـــدور
والأعــادي تلوح كالأزرق الرجـ     ــراج في موجـــه العتي المطــير
تشتم الأرض من قنـــابلها الحمـــ     ـر ويشكو العجـــاجَ جفنُ الأثــير
و«هنانو» بين النثــير من الأشــ     ـلاء في عاصــف اللظى والثبـور
وحواليــه حفنة مـــــن رجــــــال     ثروة الموطــــن الســليب الفقـيـر
تتهاوى كالشهب من كبــد الجـــو     زاء في لجة الظـلام الضـــريـــر
كل حــــر كأنمــــــــا دم إبــــــرا     هيم يجري من شلــوه المنثـــــور
هكذا تُمْهر العـــــــــلا ببســــــاط     من دمـــاء وقبــــة من قبـــــــور

     والأبيات قطعة جميلـــة تجمع بين المشهد التصويري من ناحية وبين خيوط القصة من ناحيــة. إنها صورة قصصية يعرض لنا فيها الشاعر سيرة بطل وطني، تصحو بلاده الغافية على جهاده الجسور ضد الغاصب المحتل، لترى فيه القائد والرائد والفدائي.

     والأبيات مشهد حي، يضج بكل عناصر الحياة، حتى لو أراد فنان صاحب ريشة أن يصوره من خلال الأبيات لاستطاع. وعناصر المشهد كثيرة متكاملة، كل منها يتضام مع أخيه ليقدم اللوحة الناطقة الشائقة التي نجد فيها تاريخاً يستدعى، وبطلاً يستجيب لدعوة الجهاد، ويأتي فوق جواده الضامر ليؤدي واجبه، وعدواً يحرق الأرض بعسفه وبطشه، ومجاهدين يتساقطون تباعاً، وفيهم حمية قائدهم وروحه، ووطناً ينظر بحسرة إلى أبنائه يقتلون، ومجداً يعتز بهؤلاء القتلى الذين دفعوا غالياً حق الوطن وضريبته.
❊❊❊

     وهناك مجموعة من القصائد القصصية عند عمر أبو ريشة ذات أبعاد مختلفة نكتفي بالإشارة إليها:

     «بسمة التحــــدي» نظمها عام 1970م، وتقع في سبعة أبيات تصور شهيداً بطلاً يموت وهـــو يبتسم.

     «شقية» وتقع في ثلاثة وثلاثين بيتاً يصور فيها امرأة دفعتها ظروفها فيما تتوهمه إلى الحرام، فحقدت على الناس، وصارت تدمر الآخرين، وتدمر نفسها من خلال الإثم، وقد نظم الشاعر قصيدته عام 1933م.

     «في خندق» وقد نظمها الشاعر عام 1965م، يصور فيها بطلاً يموت في الخندق دفاعاً عن وطنه، وتقع في ثمانية عشر بيتاً.

     «عودي» وتقع في عشرة أبيات نظمها الشاعر عام 1965م، يصور فيها قصة جرت بينه وبين إحدى النساء في جبال الهيمالايا.

     «عالم من نساء» وتقع في ثمانية أبيات نظمها الشاعر عام 1964م، يصور فيها لحظة فراقه مع إحدى النساء على رصيف أحد المرافئ.

     «مظاهر» وتقع في ثمانية أبيات نظمها الشاعر عام 1940م، يصور فيها حكاية جارة له كان كل شيء فيها يشي بالسرور والنعم لكنها ماتت منتحرة.

     وفي مطولة عمر أبو ريشة عن خالد بن الوليد التي سماها «خالد»، والتي نظمها عام 1938م، مشاهد من حياة هذا الفاتح الكبير، يوم أحد، ويوم قاتل الروم في اليرموك، ويوم عزله الخليفة عمر بن الخطاب لما خشي فتنة الناس به، وهي مشاهد ذات طابع قصصي عابر.
❊❊❊

     وبعد، فيمكن للدارس أن يقرر أن لدى الشاعر مقدرة فنية عالية في الشعر القصصي، وذروة هذه المقدرة قصائده: «كأس» و«لوعة» و«فــي طائرة» و«هكذا» و«جان دارك» و«دليلة» و«نسر»، وهذه المقدرة تدل على تمكن وتفرد وعناية، فهو أصيل من ناحية، متقن لصنعته من ناحية أخـــــرى.

     إن القصة الشعرية بطبيعة تركيبها تدعو إلى شيء يقل أو يكثر من السرد والإطالة والتفسير والتبرير والتحليل والوصف، خلافاً لطبيعة الشعر الذي يظل ــ في حالاته المتفوقة ــ موجزاً مركزاً متوتراً يغني قليله عن كثيره، ويترك لدى المتلقي أعمق الآثار وأسرعها إثر أدنى تماس وكأنه الكهرباء بأعلى درجات توترها، وهذا ما يفسر لنا: لماذا خلدت أبيات وقطع وقصائد تعد قليلة جداً بالقياس إلى سواها مما لم يخلد، على مسـتوى الشـعر العربي عامة وفي ديـوان الشـاعر الواحـد خاصـة!؟ وهـذا ما يفسر لنــا أيضاً: لماذا لا تزال شوارد الشعر العربي تحظى بإعجاب الناس إلى يومنا هذا مع تطاول العهد واختلاف الزمان والمكان، كأن كل واحد منهم يجد فيها بغيته ويراها تعبر تمام التعبير عن الموقف الذي هو فيه، فيردد ما قاله المتنبي مثلاً قبل ألف سنة وهو في انبهار تام!؟.

     ومعنى ذلك أن الشاعر القصاص يكون في موقف صعب لأن تركيبة القصة الشعرية لابد أن تجره إلى بسط واسترسال، وحوار داخلي أو خارجي، واستقصاء للحظة نفسية، أو الامتداد في موقف، أو الاستطالة استجابة لإغراء لغوي أو وطني أو جمالي، أو للربط بين أجزاء القصة أو الجمع بين الشعور واللاشعور، وما إلى ذلك.

     ترى أين عمر من ذلك؟ يمكن القول: إنه استطاع أن يجتاز الموقف الصعب بنجاح، ولم يقع في محاذير القصة الشعرية إلا قليلاً.

     إن عمر أبو ريشة لم يكن ينظم الوقائع نظماً جافاً، ولم يكن يتقيد بتفاصيل الواقعة، بل كان يحسن التفسير والتبرير، والتقاط الخيوط المناسبة، والتركيز على زوايا معينة دون سواها، بما يجعله في النهاية يقدم القصة في خلق جديد عليه كل إبداعاته وخصائصه المتفردة، يعينه على ذلك خيال حي، وذوق رهيف، وإتقان للصنعة، وثقافة واسعة، وبيت مفاجئ يأتي في آخر القصيدة ليبهر المتلقي ويجعله مسحوراً مأخوذاً، وهو يعتمد في قصصه بدرجات تتفاوت وتتناوب على الإيحاء والتلميح، وعلى المباشرة والتصريح، ويعنى بتصوير العناصر المحيطة بالواقعة والممهدة لها والمعينة على استيعابها، ويرسم الشخصية من الداخل والخارج، ويركز أكثر ما يركز على الشخصية المحورية في الواقعة، وربما أنطقها ببعض ما يريد، وربما نطق ببعض ما تريد فعبر عنها وعبرت عنه.

     وقد حقق شعره القصصي مزاوجة موفقة بين عناصر القص من ناحية وبين طبيعة الشعر الغنائي من ناحية، فظلت لهذه القصائد طبيعتها الغنائية لكن العنصر القصصي فيها منحها موضوعية توسع مجالها، ووهبها وحدة تشد عرى بنائها، وأشاع فيها حركة وحيوية، وأضفى عليها اتساعاً وعمقاً وطرافة.

     لذلك لم يكن الدكتور عبد القادر القط مبالغاً في شيء حين قرر أن عمر أبو ريشة «يبدو في شعره قصاصاً من الطراز الأول، وشعره القصصي هو أحد الفنون التي تميز فيها تميزاً واضحاً»[14].

     وهذا الذي يقرره الدكتور القط، يقرره دارس آخر هو الأستاذ مصطفى عكرمة الذي ينتهي إلى «أننا نجد عمر اعتمد القصة بكل مقوماتها وشروطها فناً في إيصال ما يريده أو ما يريد منه الإبداع، ولقد تحقق له ذلك في العديد من قصائده مثل: حرمان، وجان دارك، وأخرس، ونسر، ولوعة، وكأس، وعذاب، وفي طائرة، وزاروا بلادي، وغيرها كثير كثير، ولا أحسب نفسي مغالياً إن قلت: إن ميزة القص عنده واضحة ومبتكرة. لقد قص علينا عدد غير قليل من الشعراء القصة في شعرهم، لكنهم لم يتمكنوا من عرضها بفنية مشوقة وببراعة باهرة كما فعل بنا عمر، ولا بأس أن نذكر هنا القصص المسهبة للأخطل الصغير في الريال المزيف، أو المسلول، وقصة تعاون للمرحوم الرصافي، ليتبين لنا الفارق الكبير بين القصة الشعرية عند عمر وعند سواه، إذ ليست ريادته هنا بأقل من ريادته وتفرده في حسن ختام قصائده التي تفجر أو تلهم معاني جديدة، وتوقظ مشاعر، وتلهب حماسة»[15].

     ولقد أثبتـــت قصص عمر أبو ريشة الشعرية قدرة القصيدة العمودية على الوفاء بالقصة الشعرية، وردت الاتهام الظالم الذي يجعلها عاجزة عن ذلك، والذي يتوهم أن شعر التفعيلة هو المؤهل ــ وحده ــ للشعر القصصي.

     نعم، إن شعر التفعيلة يمكن أن يكون أطوع بيد بعض الشعراء للنظم في القصص الشعري، لكنه لا يمكن أن يحتكر هذا اللون من الشعر ويجعله وقفاً عليه، خاصة إذا كان الشاعر مقتدراً مثل عمر أبو ريشة. وتتبع الشعر القصصي الذي جرى على سنن القصيدة العمودية ــ وهو شعر واسع كثير ــ يشهد بهذه الحقيقة، وحسبك بالتجربة العملية شاهداً ودليلاً.

     تقرر الدكتورة عزيزة مريدن وهي جامعية أكاديمية ناقدة في ختام دراستها الشاملة المستقصية «القصة الشعرية في العصر الحديث» أن الشعر العمودي «نجح نجاحاً محققاً في معالجة القصة...، وأن الشعر الموزون المقفى بدا في القصة أكثر تماسكاً في جمله وأسلوبه، وأقوى نسجاً وحبكاً في تعبيره وبنائه، بينما شاب عبارات الشعر الجديد بعض التفكك والتقطع...، وأن معظم الشعراء الذين نظموا القصة الشعرية نوهوا -وفي مقدمتهم إدوار مرقص وخليل مطران- بأنهم توخوا من نظمها أن يبرهنوا للطاعنين على اللغة العربية القائلين بجمود آدابها على أن لغتنا كائن حي قابل للنمو والتطور...، وأن ظهور القصص الشعرية في أدبنا المعاصر على الصورة التي رأيناها من الكثرة والتنوع يعد حدثاً مهماً في الدراسات الأدبية، إذ خطت بالشعر العربي خطوات واسعة أكسبته مرونة في القص وقدرة على الرواية وزادته اتساعاً وخصباً وإمتاعـــاً»[16].

     وتجربة الشعر القصصي تلتقي مع كلام الأكاديمية الناقدة في قدرة الشعر العمودي على الوفاء بكل ما تتطلبه القصة الشعرية من أدوات وتقنية فنية، بشهادة القصائد الكثيرة التي يمتلئ بها ديوان الشعر العربي الحديث الذي تحظى قصص عمر أبو ريشة بمكان مذكور ومشكور فيه.

-------------------
[1] الشعر المصري بعد شوقي، 2/29-30.
[2] الشعر المهجري، ط2، بيروت، دار صادر، ودار بيروت، ص146.
[3] القصة الشعرية في العصر الحديث، دمشق، دار الفكر، 1404هـ/ 1984م، ص23.
[4] رواد الشعر الحديث في مصر، ص23.
[5] النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص75.
[6] النقد الأدبي الحديث، ص454.
[7] الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ص301.
[8] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص253.
[9] تطور الأدب الحديث في مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية، ص367-368.
[10] رواد الشعر الحديث في مصر، ص21-22.
[11] عزيزة مريدن، القصة الشعرية في العصر الحديث، ص55.
[12] عزيزة مريدن، القصة الشعرية في العصر الحديث، ص122.
[13] عزيزة مريدن، القصة الشعرية في العصر الحديث، ص97.
[14] جريدة الرياض، الرياض، 30/ 12/ 1411هـ= 22/ 7/ 1990م.
[15] عمر أبو ريشة في مرآة الشعر، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[16] القصة الشعرية في العصر الحديث، ص478-480.

الأكثر مشاهدة