الأحد، 13 يونيو 2021

رثاء الأدباء في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

رثاء الأدباء في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     يعد الرثاء من أبرز فنون الشعر العربي قديما وحديثا، لما يتمتع فيه الشاعر من صدق التجربة غالبا، وتروى في ذلك مقولة مفادها أن أحدهم سأل أعرابيا: لم نجد مراثيكم أحسن أشعاركم؟ فقال: لأننا نقولها وقلوبنا تحترق. وهذا التعليل صحيح خصوصا إذا كان الشاعر ذا صلة قوية مع المرثي من حيث القرابة مثل الوالدين أو الأبناء أو الإخوة مثل رثاء التهامي وابن الرومي لابنيهما، ورثاء الخنساء لأخويها، أو الصداقة مثل رثاء المعري لأبي حمزة الفقيه، أو كان المرثي شخصية عامة مؤثرة محبوبة مثل العلماء والأدباء والأمراء والولاة، وهذا كثير جدا فوق ما نذكر له من أمثلة.

     ودواوين حيدر الغدير تضمنت عددا لا بأس به من المراثي، وبحصرها نجد معظمها في شخصيات أدبية ارتبط بهم الشاعر بعلاقة قريبة مثل الأديب عبد العزيز الرفاعي، أو محمود شاكر، أو أن الأديب كان ذا تأثير قوي في المجتمع ومحل إعجاب من قارئي أدبه مثل مصطفى صادق الرافعي ونزار قباني. وأما العلماء فكانوا ممن عرفوا بالضلوع في العلم والزهد في متاع الدنيا، وكانت لهم شهرة عالمية لدى المسلمين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ أبي الحسن الندوي، والشيخ علي الطنطاوي رحمهم الله.

     وللشاعر قصيدتا رثاء في الأقربين إحداهما في والدته، والأخرى في أخيه رحمهما الله، وله قصائد في أسماء لم يحدد فيها شخصية المرثي سنقف عندها في تفصيل قراءة الموضوع إن شاء الله.

     رثاء الشاعر حيدر الغدير الأدباء:

***

1- رثاء الشيخ الأديب عبد العزيز الرفاعي:

     كان الشيخ الأديب عبد العزيز الرفاعي صاحب قلم ودولة، وكان قد أسس في منزله بالرياض ومكة ندوة أدبية تجمع الأدباء والشعراء ومحبي الأدب أسبوعيا، وكان للرفاعي أدبان اسر بهما رواد ندوته وهما أدب القلم وأدب النفس. وشاعرنا حيدر الغدير كان أحد رواد هذه الندوة، فمن هنا ارتبط بالشيخ الأديب عبد العزيز الرافعي ارتباطا روحيا صادقا، والنص الذي بين يدينا في ديوان (من يطفئ الشمس ص 14، بعنوان زهور الرضا) يقرب أن يكون رثاء إذا تجاوزنا شرط كون القصيدة بعد وفاة المرثي، فقد كتبها الشاعر في ظروف صعبة كان يعيشها الرفاعي في معاناته مع المرض وغربته عن الأهل والأصدقاء والوطن، غير أنه كان له من إيمانه الأنس والرضا بقضاء الله وقدره، وهذا مطلب عزيز نسأل الله أن يرزقنا إياه.

     يضع الشاعر يدنا على مفتاح القصيدة في المقدمة النثرية التي كتبها، فيقول:

     "كان المرحوم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في أمريكا يتلقى العلاج، ومن مقامه البعيد كتب لأحبابه في الرياض رسالة عجلى أرسلها إليهم عبر الفاكس، وفيها رباعية ضارعة جميلة، عنوانها (طوق النجاة).

     وفيما يلي نص الرسالة:
-----
عزيزي أبا سعيد وأصدقاء مساء الاثنين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد فهذه آخر رباعية دعائية:

       طـوق النجـاة
ارم طوق النجـــــاة يا رب إني
               في خضم ولا أجيــد السبـــاحة
تترامى الأمواج من كل صوب
               لجة فــــــوق لجة منــــــــداحة
في فمي من عبيـر ذكرك عطر
               وبقلبي من عطـر ذكرك راحة
حينما تطبق الديـــــاجير فوقي
               أجد الله مشــعلاً مصبـــــــاحه
بوسطن - الاثنين 4/11/1417 هـ.

     وهرع عدد من محبي الشيخ النبيل، فتلاقوا في جلسة وفاء، يقرؤون القرآن الكريم ويضرعون إلى الله عز وجل أن يرد المريض الغريب سالماً غانماً معافى. والأبيات التالية وعنوانها (زهور الرضا) يعود فضلها إلى (طوق النجاة) فمنها نبعت وفي جوها أزهرت وإلى جدولها انتهت".

     فقصيدة حيدر الغدير أخذت شكل المعارضة الشعرية من حيث الظاهر، ومن حيث المضمون كانت رثاء لصديقه، إذ كانت قصيدة الرافعي من رثاء الذات، كما فعل مالك بن الريب وغيره من الشعراء من قبل، فالشعور بقرب الموت، والتأثر به، وبناء القصيدة على هذا الشعور هو الذي يحول القصيدة إلى غرض الرثاء. يقول الغدير في جوابه لقصيدة الرفاعي موضحا مكانته بين أصدقائه، وبعض مزاياه الخلقية من الفضل والكرم والبشاشة والوقار والفصاحة:

أيها النــــــازح الأثير لدينـــــــا
               يا أخا الفضل والندى والسماحة
أنت بين الرفـــــــاق بسمة حب
               تتهــــــادى وزهرة فـــــــواحة
جعلتــــك الأخلاق للذوق رمزاً
               وأخـــاً للرضا وصِنْو الرجاحة
صمتــــك الواثق الوقور بيــان
               فإذا قلتَ كنتَ أنت الفصــــاحة

     ثم يتحدث عن صراع الرفاعي مع المرض، مصورا سطوة المرض عليه وإحاطته به من كل جانب إحاطة الأمواج بالغريق، وكأنه عدو يريد أن يذل عدوه، فيقول:

جـــــاءك الداء مخلبــــــــاه حراب
               شـاهراً في الدجى الرهيـب سلاحه
جـدَّ بطشـــــاً والموج من كل جنب
               (لجـــــة فوق لجـــــــــــةٍ منداحة)
لطمت جســــــمك المدمى وظنـت
               أنهـــــا تســمع الغـــــــداة نواحــه

     غير أن الرفاعي المؤمن أحبط محاولات هذا العدو الشرس بصبره، وانتصر عليه، وأراه من نفسه بما رضي بقضاء الله وقدره ما لم يكن يتوقعه المرض، فهو أصاب الجسم فحسب، ولكن الروح بقيت قوية بعيدة عن متناوله، فيقول الغدير:

وهن الجسم لكنِ الروح جذلى
               عطَّرت باليقين أهلا وســاحة
غمرته بالصبـــر فانظره ثبتاً
               دأبه الشـــكر ليلَه وصبـــاحه
شكره النائبــــات مرت عليه
               كالحات كشـــــــكره أفراحه

     فالمؤمن بالصبر والشكر يجتاز بحر الحياة وأهواله.

     ويعود الغدير إلى رسالة الرفاعي، ولجوئه إلى الله سبحانه داعيا أن يلقي إليه بطوق النجاة، فيقول مخاطبا إياه بأنه سليل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من كان كذلك حق له أن يكون في مقام الشكر والصبر من باب أولى، فيقول:

يا سليل الرسول طبــــت وطابت
               منــــــك نفــس زكيـــة لمـــــاحة
قلت: ربـــــاه أنت غوثي وعوني
               فاشف من جسميَ المعنَّى جراحه
(في فمي من عبيــر ذكرك عطر
               وبقلبي من عطر ذكــرك راحـة)
(ارم طوق النجــــاة يا رب إني
               في خضم ولا أجيد السبــــــاحة)

     يكمل الشاعر الغدير قصيدته بدعاء الأصدقاء للمريض الغريب عن وطنه أن يحقق الله سبحانه له ما يريد من النجاة، ببعديه الجسمي والروحي:

خذ بطوق النجاة ما خـــــاب عبد
               جعل الصبر في الدجى مصباحه

     نعم؛ إن طوق النجاة ينجي المؤمن من المهالك، ولكن لا ينجيه من الموت الذي هو أجل مسمى لا يتقدم الإنسان عنه ولا يتأخر، وقد جاء الأجل المحتوم، فانتقل عبد العزيز الرفاعي إلى ربه، وترك حزنا عميقا في نفوس محبيه، وحيدر الغدير واحد منهم، فكتب قصيدته (رحيل ص14 من ديوان عادت لنا الخنساء)، وبدأها بالحديث عن الموت الذي هو سيف مصلت على البرية، فيقول:

الموت سيـف في البرية يَبْــــرق
               ما زال يعتـــــــام الكرام ويُرْهِق
يحمي الفتى دهراً فإن حُمّ القضا
               أهوى عليه بفتــــكةٍ لا تشـــــفق

     فهو قد يتأخر دهرا من الزمان، ولكن إذا حم القضاء على الفتى فلا بر يقيه ولا بحر..، ويرى الشاعر أن عبد العزيز أسرع الخطا، وتقدم عليهم، وهو إحساس بالموت يعتري المرء عندما يموت قريب له أو صديق حميم، وهو لا يغير من الواقع شيئا، إلا أن إحساس الإنسان وموقفه تجاه الأشياء يتغير.

عبد العزيز سبقت أسرعت الخطا
               لا غرْوَ إنك في الرفــــاق الأسبق
عصفت بك الأدواء عصفة فاتـك
               ما زال يعبــــــث بالكرام ويَحْمَقُ

     ويشير في البيت الثاني إلى معاناته من المرض، الذي قال فيه قصيدته (طوق النجاة) وتجاوب الغدير معه فيها، وينتقل بنا إلى قصيدة مشهورة للرفاعي قالها في نادي جدة الأدبي في حفل تكريمه، وهي بعنوان (سبعون)، مبلغه من العمر، وعدها كل من سمعها من رثاء الشاعر نفسه، فقد ضمنه رؤيته للحياة وحكمتها، وحنينه للتراب الذي خلق منه، ولم يعش الرفاعي بعد تلك القصيدة طويلا، يقول الغدير:

قــــالوا نعيت إلى الحيــاة غرورها
               ورثيت نفســـــك والفِراسة تصـدق
وذووك بين عنـــــــائهم ورجــائهم
               والحشد مطروف النواظر مطــرق
ووقفــت تنشـــــد واللواعج جمـــة
               ولأنت بالغــــــرر الخوالـــــد أليق
سبعون[1] قد وفد الشتاء يزورني
               والنــــار قد خمدت وجف المورق
حنــــت إلى عبق التـراب جوانحي
               لا غَرو يشتــــاق الرفيقَ الأرفـــق

     ثم يشير الرفاعي إلى صديقه الحميم الأديب الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله، وشوقه إليه بعد وفاته، وكأنه يحثه بالقدوم إليهم:

وأخي[2] الأثير يحث خطو ركائبي
               ويظل من بين الغيــــــوب يحــــــدق
وعليه من حــــلل الكرامة تــــــاجها
               وهنـــــاءة الرضوان والإستبـــــرق
ويقــــول لي: فيم التريث يـــــا أخي
               أنســــيت موعدنا؟ حذارِ سأقـــــــلق
أقبـــــل أبا عمـــــار إنك ضيفنــــــا
               لا أعهـــــدنك حين تدعى تَفْــــــرق
ولقد سبقتــــك وانتظـــــرتك فائتني
               وأنا أخــــــوك المصطفى والأعرق

     وهكذا يسوق لنا الغدير أبيات الرفاعي ومضامينها ممهدا لفراق أحبابه ورحيله عنهم، وحتى لا يفرقوا لفراقه، كما طلب منه أحمد محمد جمال ألا يفرق لفراق أحبابه وأهله. ولكن الشاعر الرفاعي يجيبه بالشوق والعناق:

فأجبته في لذة محبــــــورة ... حان اللقاء وإنني المتشوق

     أما وقد ودع الأحباب الرفاعي فرحل، فإنه نام نومة هنيئة إن شاء الله في البلد الحرام، حيث الكعبة والحجيج والجمع الحسان ونفحات الإيمان، يقول الغدير:

نم في جوار البيت[3] نومة هانئ
               البشريـــــــات بســـــاحه تتــــدفق
الكعبـــــة الزهــراء منــــك قريبة
               والآي تتـــــلى والحمــــام يحـــلق
والحج والجــــمع الحسـان مواكب
               والمئـذنــــات ونورها والرونــــق
وعلى محيّـــــاك النبيل بشـــــاشة
               كالورد يغـــمرها السنــــا ويطوّق
يلقــــاك بالرضوان نفح دعائنـــــا
               وتزورك الرحــمات وهي الأعبق
والعفو والغفـــــران فيك قـــــلادة
               يرنو لها الأبــــــرار وهي تــــألق

     ويتصور الغدير أن يقيم الرفاعي نديا آخر في محل سكناه الجديد، حيث سبقه بعض الأدباء وسيلحقه آخرون، فيقول:

وأقم نديّك[4] فالرفاق تشوّفوا
               لرواقه واستعجـــــلوا وتحلّقوا

     ويطلب منه أن يبقى على عادته في تعطير رواد ندوته حين انصرافهم، فيقول:

والعطر[5] إن حان الوداع تحية
               للمنتـــــدين تظل ريـــــــا تنشــق

     ثم يودعه بعد أن ضمن قصيدته ذوب مشاعره، وحر أشواقه، وخالص دعواته، منهيا قصيدته بحكمة فناء الدنيا وخلود الآخرة، فيقول:

عبد العزيــــز إليك ذوبُ سرائـر
               خلصت وأنت بكل فضــل أخـلق
ودعـاءُ أصحاب شكوا فقد العـلا
               قالوا وقد حزنوا الغداة وأرهقـوا
العــــالم البــــاقي مـلاذ أفيـــــح
               حيث انتهيت ونحن سجن ضيق

     وقد كان لوفاة الرفاعي أثر كبير في الوسط الأدبي السعودي، وكان من ذلك أن احتضن رجل الأعمال النبيل أحمد محمد باجنيد الندوة الرفاعية، حتى لا ينقطع هذا العمل الخير الذي أسسه الرافعي، وسمى ندوته ندوة الوفاء عرفانا بجميل الرفاعي.

***

2- رثاء الأديب الكبير العلامة محمود محمد شاكر:

     ومن الأدباء الذين ارتبط بهم الشاعر حيدر الغدير ارتباطا وثيقا الأستاذ محمود محمد شاكر، وله فيه قصيدتان في ديوان (من يطفئ الشمس) الأولى بعنوان (الصقر ص33) والثانية بعنوان (ستبقى أبا فهر ص 88)، وعندما نقرأ مقدمة القصيدة الأولى (صقر) ندرك المكانة العالية لمحمود شاكر لدى شاعرنا. يقول فيها: "كان محمود محمد شاكر أمة وحده فهو شيخ العربية وعاشق العروبة وحارس التراث وفارس الأصالة. جمع إلى غيرة المسلم عزة العربي، وإلى عناد الواثق تواضع القادر، وإلى عقل العالم البصير براءة الطفل الصغير. غفر الله له ورحمه رحمة واسعة، وأنزله منازل الأبرار والصالحين." فمن نظرة الإعزاز والإعجاب والمحبة هذه ينطلق حيدر الغدير في رثائه لمحمود شاكر، يقول في قصيدته صقر:

صقر على شم الرعــــــــان يحلق
               ومداه مغرب شمســـها والمشرق
والنجم والأفــــــلاك في تطوافها
               والروح في أســــرارها والمطلق
نسجته من أرض الجزيرة ريحها
               وخيـــولها ونخيــــــلها والأينـــق
وجبـــــالها ورمــالها وجــــلالها
               وبيـــــانها العذب الشهي المونـق
وحـــراء والآي الزواهر تزدهي
               فيه وتهــــدي العـــــالمين وتعبق
فأتى أبر رجــــــالها وأعـــــزهم
               وأحب ما يرجو الفخـــار ويعشق


     فهو في هذه الأبيات يشير إلى رمزين شكلا شخصية محمود شاكر الأدبية الثقافية هما أرض الجزيرة التي ترمز إلى ثقافته العربية والأدبية، وحراء الذي يرمز إلى ثقافته الدينية الإسلامية.

فقد عرف محمود شاكر بمنافحته عن اللغة العربية، يقول الشاعر:

ستظل للفصحى وإن كـــره العـدا
               العـــلم يروى والصوارم تبـــرق
أما عِـــــداك ففي غدٍ رايــــــاتهم
               تطوى كما يطوى الظلام وتمحق

     ويشير إلى قوة لغته وبيانه ودفاعه عن اللغة العربية قائلا:

وهبتك آيــــــات الفصــــاحة سرها
               فـــــإذا بك القــــلم البديع الشيـــــق
والضـــــاد أنت نجيّها ونجيــــــبها
               وعليــــمها وكليـــــمها المتـــــذوق
والحارس الشــاكي يصون ذمارها
               ويصول إن حمي الوطيس ويهرق

     ويقول في قصيدته (ستبقى أبا فهر) عن دفاعه عن اللغة العربية لغة القرآن:

أبــــا الغرر الشـــــماء من كل موقـــــــف
               تــــذود عن الأوطان والديــــن والعـرض
وعن لغــــــة القـــــرآن منـــذ عشقتــــهـا
               فأهدتـــــك من أسـرارهـــا كل ما يرضي
وأهديتـــــها عقــــــــلاً وقلبــــــاً وهمــــة
               وصبراً على التحقيق والغوص والخوض

     ويقول أيضا في قصيدة (ستبقى أبا فهر) مشيرا إلى شدة عنايته بالكلمة الشعرية والنثرية، وإعادة النظر فيها مرة بعد أخرى حتى يرضى عنها، فيقول:

وما (قوســــــه العــــــذراء) إلا فؤاده
               يجــــــــور عليه بالتحــــدي وبالمـض
وبالعَوْد بعد العَـــــوْد في عتمة الدجى
               إلى الصقل والتهذيب والمحو والنقض
فلا يرتضي إلا حســـــــــانـاً زواهيــاً
               لبســـن عميــــق الفكــر في أملد بض

     والقوس العذراء قصيدته التي عني بها النقاد وهي معارضة لقصيدة الشماخ بن ضرار.

     ومحمود شاكر قضى حياته باحثا عن أسرار العربية، كاشفا عن خفاياها ليعري بذلك محاولات أعدائها في النيل منها، ومعلما من يقصده لطلب العلم وشاعرنا واحد من تلك القوافل التي قصدته للنهل من معينه، يقول الشاعر:

وطويت عـــمرك عـالماً ومعلماً
               والعـــلم أجــــدر بالذكي وأليــق
وحزمت أمرك صابراً ومرابطاً
               ونهــدت للجلّى وصبـــرك أينق
أبـداً رواقـــك للمعـــــارف أفيح
               وعليه من سمت الجــلالة رونق
والطالبـــون الرفـــــد فيه قوافل
               ترنو إليـــــك محبـــــة وتحــدق
يـــأتون من كل البـلاد دنــــانهم
               ظمــــأى ليستبقوا لديك ويستقوا

     ويذكر طرفا من تعامله مع طلابه بالقسوة رجاء تعليمهم، وكيف أنه يصل بهم إلى ما يشبه اليأس، ثم يكشف لهم عن سر العلم فيما يبحثون فيكون ذلك أثبت في تعليمهم، يقول:

ولربما تقســــو فأنت أبــــــــوّة
               ترضى على أبنــــائها أو تحنق
بك يدرك الشادون كل عويصة
               فتبــــوح بالســر الخفي وتنطق

     ويقول أيضا عن هذه القسوة في قصيدة (ستبقى أبا فهر):

أبا الصبر والإيمـان والعزم موقداً
               يداك إلى بســـــط سخي بلا قبض
تذود ذيــــــاد الليث يحمي عرينه
               وتقسو بلا حقد وتسطو بلا بغض

     ويقول الشاعر: إن دار محمود شاكر لم يكن يخلو من قاصد لطلب علم، فكان بذلك مثل أحد الأجواد الذين ضرب بهم الأمثال من معن أو حاتم:

وجعلت دارك موئلاً يهب الندى
               للواردين تجمـــــعوا وتفرقــــوا
مَعْـــنٌ[6] عليه مرحّب متهـلل
               وفـــد يزايــله وآخر يطــــــرق
وضيـــــوفه هذا غني مكثــــــر
               وإزاءه عــــــافٍ مقل ممـــــلق
وعميده إرث السماحة حاتم[7]
               بالمكرمــــات وقد زهون مخلَّق

     ومن وراء ذلك كله كان محمود شاكر يحمل هم الأمة العربية والإسلامية، ويحزن لما هي فيه أشد الحزن، يقول الشاعر:

ولقد عرفتك في فــــؤادك حرقة
               نزَّت جراحات تفيـــــض وتفهق
أدمنت حزنــــــك إذ رثيت لأمة
               هي منك قلبك في الجوانح يخفق
وجعلت همك أن تكون بشــيرها
               ونذيرها العريـــان وهو المشفق
فهتفــت من قلب يكـــــابد لوعة
               والحزن عاصفة ونــــار تحرق
أبنــــاء إسماعيل[8] أنتــم أمة
               في التيه مرهقة الخطا تتـــمزق
أنتم أسـارى الجهل يدعوكـم له
               لســن يقول ومدع يتشــــــــدق
لما جفــــوتم دينـــكم وتراثــكم
               ساد الجهول بداركم والأخأرق

     ويشير إلى تحمله هم الأمة أيضا في قصيدة (ستبقى أبا فهر):

تنــــــام على هم نبيــــــــل مفزعاً
               وتصحو على هم أشد من الرَّمْض

     ويذكر الشاعر أن محمود شاكر توفي بذلك الهم الذي كان يؤوده لحال أمته، وليس في ذلك عجب، فهؤلاء الأدباء من أصحاب الفكر السليم يتمثلون الحديث النبوي: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. وتجدهم كالوالد الشفيق بولده، يقول مصورا هذه النهاية:

ولقد رحلت وفي فـؤادك غصة
               والعين يغشاها الذهول المرهق
أبصرت أمتــك الكريمة قصعةً
               وحمى مبــاحاً في المذلة يغرق
عبثت بها أدواؤها وبـــــلاؤها
               فيها ومنها غاشيــــــات تطرق

     وقد أصاب محمود شاكر بعض البلاء في سبيل أمته، فتحملها صابرا شاكرا، وفي ذلك يقول الشاعر في قصيدته (ستبقى أبا فهر):

صبرت على البلوى بنفس كريمة
               وغالبتها بالهزء والذكر والرفض
وكنت بســـجن الظالمين قذى لهم
               يجللهم بالعــار في الجمع والفض

     ويعبر عن بقاء العمل الصالح الذي قدمه محمود شاكر لأمته، بعد وفاته، ذلك أن بقاء الذكر الحسن والعمل الصالح استمرار لبقاء صاحبه، فيختم قصيدته قائلا:

ستــــبقى أبا فهر منــــــــاراً وقدوة
               تعلِّم ما يرضي و إن كان ما ينضي
وأما زيوف النـــــاس فكراً ودولــة
               فباؤوا وباءت بالصغــار وبالدحض

     ويعبر حيدر الغدير عن شعوره إزاء ما كتبه من كلمات شعرية تجاه أستاذه ومعلمه، رجاء أن يكون أدى بعض ما عليه، ولكن هيهات! فيقول في قصيدته (الصقر):

ولقد كتبت قصيــــدتي بلواعجي
               والعهــــد داع والوداد الأسبــــق
والعهــــد أكرمه القديم زمــــانه
               والود أكرمه الأصيــــل المعرق
فعساك تمنحها وشاحاً من رضا
               وعســاك تبصرها بمجدك تخلق

     ويختم رثاءه بالحب والصدق الذي يترجمه الدموع المهراقة منه على أستاذه فيقول:

شعري أبا فهر وحبي دمعـــة
               مهراقة والصدق مني موثـــق
وعليك تبكي أعين وقصــــائد
               وتطول أحزان وليل يـــــأرق
نم حيث أنت فدار مثلك رحبة
               فيحاء والدنيــا فنـــــــاء ضيق

     فرحمه الله تعالى، وأجزل مثوبته بما قدم لأمته.

***

3- رثاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري:

     ولحيدر الغدير قصيدتان في رثاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، وكانت تربطه به روابط عديدة فضلا عن رابطة الإسلام التي هي أعلاها وأسماها، وهو شديد الصلة بأسرة الأميري، ويكن لها حبا جما، وتقديرا عاليا.

     وقد تجول عمر بهاء الدين الأميري وأقام في بلاد عديدة، فمن سورية ولبنان إلى السعودية وباكستان والمغرب، ثم كان مرضه ووفاته في الرياض، ودفن في البقيع بجوار آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فمن هنا جاء عنوان القصيدة (نم في البقيع ص 15 من ديوان غدا نأتيك يا أقصى). وقد تركت هذه النهاية أثرا عميقا في نفس الشاعر حيدر الغدير، فتمنى لنفسه أن يدفن في البقيع أيضا كما رأينا في قصيدته (وساد) عند الحديث عن المدينة المنورة في شعر حيدر الغدير.

     ويبدأ الشاعر رثاءه بالحديث عن المكانة الشعرية الرفيعة التي تبوأها عمر الأميري، ويعطينا بعص صفاته الخلقية والنفسية، فيقول:

الشعر تاجك وهو روض مشـرقُ
               والفضل دوح في رحابـك مورقُ
وعلى مرابعــــك الفسيحة خيـمة
               نســج الإبــــاء جلالها والمنطـق
فيها السماحة والبشاشة والنـــدى
               ومروءة في سيــــبها تتــــــــدفق
أسرجت عزمك للأصالة حارساً
               ووفــــاؤك العالي لعزمك فيـــلق
ونسجت من ذوب الفـــؤاد قوافياً
               مثـــل النجوم بهاؤها لا يخــــلق

     ويخاطبه بعبارة قريبة من هذا في قصيدته (كفاية ص42 من ديوان عادت لنا الخنساء) فيقول:

أبا الدرر المرصعــة القوافي
               ملأت بها المدائن والفيــــافي
طلعت بها على دنياك صقراً
               إذا يــــأوي ففي شم الشعاف

     وينتقل بعد ذلك إلى مكانة الشاعر الجهادية في سبيل إعلاء كلمة الإسلام في بلد تناوشته وتناهشته الاتجاهات الفكرية المضادة للإسلام، فيخاطبه بكنيته المحببة إليه وهي أبو البراء، فيقول:

أأبا البراء وأنت رائد عصبـــة
               وحداء قافــــلة تغذّ وتعنـــــــق
سارت على حد السيوف كتائباً
               للحق ترنو والأصــــالة تعشق

     ولما كان الجهاد يجد مثبطا من داخل النفس وخارجها، فإن الشاعر الغدير يلتفت إلى معاناة الأميري في هذه الشأن فيطلعنا على ما خاطب به نفسه وهو يحثها على السير في طريق الجهاد وذلك في قصيدته (كفاية ص 42 من ديوان عادت لنا الخنساء) فيقول:

ويهتف لن أخاف ففيّ صــوت
               ينـــــاديني ويسكن في شغـافي
أليس العمر سـاعات وتمضي؟
               أليس الموت خــاتمة المطاف؟
أليس الله - في الغمرات تسطو
               لمن قصـــدوه عن ثقة - بكاف
ومم أخاف؟ يحرسني ثبــــاتي
               وصبري والسَرِيُّ من العفاف
سأحيــــا واليقين لديّ عشـــق
               كأثبــــاج البحور بلا ضفــاف

     والأسئلة العديدة التي يلقيها الأميري المجاهد على نفسه لبعث الاطمئنان في حناياها يؤكد هذا الصراع الداخلي لدى المجاهد حين يتسلط عليه شياطين الجن والإنس يخوفونه من دون الله!.

     وبذلك هيأه لأن ينام بجوار ركب المجاهدين من الصحابة الذي ضمهم البقيع المبارك، فيقول:

نم في جوار الأكرمين يحفهم
               ويحفك الرضوان والإستبرق

     ويشير بعد ذلك إلى السنوات التي قضاها عمر الأميري مجاهدا، وهي خمسون عاما، فيقول:

خمسون عاماً في الجهاد وهبتها
               للمســــلمين وما هوى لك بيرق
أبداً حســــامك دونهم متوثــــب
               والمعتـــدون جحافلاً قد أحدقـوا

     ويطلعنا حيدر الغدير على اهتمام عمر الأميري باللغة العربية الفصحى ودفاعه عنها، بوقوفه أمام التيارات التي استهدفتها، لتصل من وراء ذلك إلى زعرعة ثقة المسلمين بالقرآن الكريم كتاب الله سبحانه، تاج الفصاحة والبيان، فيقول:

أخلصت للفصحى وقمت بحقها
               ورفعتــــها لغة تقـــــال فتعشق
ودفعت عنها جـــاهلاً ومعـادياً
               يحدوه سم في الضــلالة مغرق
من كل ملتاث الضميــــر يؤزه
               غل على اللغة الشـــريفة موبق
وعلى كتـــاب الله وهو عمادها
               وهو الهداية والحجـــا والموثق
تاج الفصاحة والبيــان سطوره
               ومنـــارها الأسنى وطيب يعبق

     ويذكر الشاعر اهتمام الأميري بقضايا المسلمين، مثل أفغانستان عندما احتلها الاتحاد السوفيتي الشيوعي السابق فهب جميع المسلمين لصد هذا العدوان، فيقول:

أأبا البراء خيــــــول أحمد ضمّر
               والراية الخضـــراء فيها تخفـــق
نــــادى الأذان بها فلبـت كالردى
               تطوي الطغاة الملحــدين وتسحق
ولها على كابـــــول نصر أروع
               بالغار والذكر الكريم مطوق[9]

     وتأتي فلسطين في رأس أولويات اهتماماته، وهاهو ذا يرحل ولما تشتف نفسه من اليهود الغاصبين، مصورا معاناة القدس من عدوانهم، فيقول الغدير:

يا راحلاً والقدس في أحزانهـــا
               تشكو العنا والقيـــــد قيد مرهق
لم تكتحل بالفــــــاتحين جفونها
               وتكاد من غضب وحزن تزهق

     وبذلك يضيء لنا الغدير جوانب مهمة من حياة الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري في مسيرته الطويلة مجاهدا مدافعا عن أمته بما استطاع، بشعره ورأيه، فقد كان رجل أدب وسياسة، لنودعه في نومته الهانئة بإذن الله في البقيع، مشيرا إلى نسبه المبارك الموصول بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول:

نم في البقيــــع جوار جدك هانئــــاً
               وإزاءك الأبـــــرار فيه تحـلقــــــوا
وارقب جنود المصطفى في زحفها
               يهفــــو لها نصر ويعـــــلو بيـــرق
اليوم في الأفغـــــان عزت شمسهم
               وغداً على القدس العزيـــزة تشرق

     ويقول في خاتمة قصيدته (كفاية ص 42 من ديوان عادت لنا الخنساء) مؤكدا أن الأميري كان يرجو أن يدفن في البقيع، وقد حصل له ذلك في الدنيا فعساه أدرك ما كان يؤمله من المغفرة والرحمة من هذا الدفن بجوار الأكرمين، والشاعر الغدير يرجو لنفسه ما رجاه الأميري، يقول مخاطبا إياه بعد حوالي عشرين سنة[10] من وفاته:

أيا عمر المواقف باذخــــات
               ويا عمر المطرزة القـــوافي
عساك أصبت ما ترجو فقلها
               وسوف أقولها فرحـــاً كفاف

     وهكذا يودع الشاعر حيدر الغدير واحدا من أعز أصدقائه، وأساتذته في العلم والأدب والسلوك والشعر، وهو يرجو أن يكون حيث صار من رحمة الله سبحانه في الدنيا والآخرة.

***

4- رثاء مصطفى صادق الرافعي:

     لمصطفى صادق الرافعي مكانة عالية عند أدباء العربية المعاصرين وكتابها، وإذا كانت هذه المكانة شهدت صراعا عنيفا في عصر الرافعي بين أقطاب الصراع الأدبي والثقافي طه حسين والعقاد والرافعي ومن تجند لكل واحد من هؤلاء؛ فإن الزبد ذهب جفاء وبقي ما ينفع الناس في الأرض، فتبين للأجيال التي جاءت بعدهم وجهة كل من هؤلاء، ودافعه في حربه الآخرين، وتكشفت الوسائل والغايات، فبقي لكل واحد من هؤلاء مكانته في جهة، واهتزت في جهة أخرى.

     وبقي الرافعي مدرسة فريدة في البيان العربي المعاصر، وقلماً كالسنان حارب دفاعا عن الإسلام والعربية ولم يتكسر ولم يتثلم، ولم ينب! وقد تغيرت الأساليب الآن، وتغيرت الاهتمامات، وربما قرأ ناشئ اليوم فلم يظفر بطائل من هؤلاء الثلاثة ومناصريهم من الجيل التالي لهم، ولكن الصائغ المحترف هو الذي يميز الذهب الخالص من الزائف، وبذلك لا ضير علينا مما يجده ناشئة اليوم من صعوبة في فهم الرافعي وأدبه السامي الرفيع.

     وحيدر الغدير من الجيل الذي رضع من لبان الرافعي فارتفع بذوقه وأدبه، وهذا الصنف من الأدباء لا يلذ إذا لم يقرأ أدبا رفيعا، ولا يطرب إذا لم يقرأ بيانا ساحرا، فلذلك جاءت قصيدته في لحظة من النشوة من سحر البيان الرافعي، فتفجرت القصيدة لديه وقد قرب البعيد، وعاد الماضي إلى الحاضر، يقول الغدير مشيدا ببيان الرافعي:

بيانك بـــــاق بقاء الزمانْ ... يوشّيه من كل فن بنــــانْ
إذا أنت أدمنتـه تســــتزيد ... ويزداد حسناً ولا تسأمان

     ويشير إلى اهتمام الرافعي بالبلاغة العربية خاصة فيقول:

وأن البــــلاغة آلت إليك ... فكنت بها درة المهرجان

وعني الرافعي بكتاب الله سبحانه، فحفظه ووعاه، وكان لذلك أبلغ الأثر في أساليبه البلاغية والبيانية، وفي موقفه من المعارك الثقافية التي قامت من حوله فخاض غمراتها ببسالة منقطعة النظير حتى جعل عنوانها: تحت راية القرآن، تيمنا بكتاب الله سبحانه، أن ينتصر من ينتصر له، فيقول الغدير:

وجئـت الكتــــاب فأسكنتـــه
               حنايـــاك تتــــلوه في كل آن
وتنسج من آيه البـــــاهرات
               بروداً كحسن الصبايــا لدان
كأن عليــها رواء الكتــــاب
               وأقباسه[11] وامتداد الأذان

     ويشير الغدير إلى ثباته في تلك المعارك الطاحنة ومفيدا بأن نسبه ينتهي إلى عمر بن الخطاب رضي الله، وأن عزيمته هذه مستقاة من العزيمة العمرية، فيقول:

سلاحك في الغاشيــــات الثبـات
               وعــــزم تطاول كالسنديــــــان
لأنــــك آليـــــــــــــــت ألا تهي
               وألا تخـــاف الخطوب العــوان
دؤوبـــاً كجــــدك[12] في كدّه
               وأنت الـمــعين وأنت المعــــان
ومنه استقيت نبيــــل الخصــال
               إذا اشتــــــــــد في أمره أو ألان

     ويذكر دفاعه عن الإسلام ببيانه، ويشبهه بحسان بن ثابت رضي الله، وإن كان سلاح حسان الشعر، وكان سلاح الرافعي الأمضى هو النثر، فيقول:

نجي الدراري وترب الخــــــلود
               لقد كنت حسان[13] هذا الزمان
وأشهد كنت الجـــــريء الجسور
               ويشـــهد لي النجم والعاقبــــــان
تقـاتل عن حرمة المسلمين[14]
               وعينــــاك من غضبة جمرتـــان
تقــــول: أصــــــــاول عن أمتي
               وفي خلــــدي تسكن الحســـنيان
وعن لغـــة الضــاد وهي المدى
               وعن مجـــد أهليَ وهو الرعـان
وعن طيــــبة مــــأرز المؤمنين
               ومكة وهي الهدى منــــــــذ كان
وعما بنى الفــــــــاتحون العظام
               وشاد الخـــــــلائف عبر الزمان

     ويعدد الغدير الفئات الذين تصدى لهم الرافعي من جاهل وكاذب وخائن ومستشرق ومستغرب وغيرهم، فيقول:

وتحــــرس دينــــك من جاهـل
               وآخر مـــانَ وآخر خــــــــــان
ومستشرق مغـــرق في العداء
               ومستغـــرب قاحم أو جبـــــان
ومن منكر الشمس في رأدهــا
               ويزعم أن سنــــــــاها دخـــان
ومن بــــائع للعــــــــــدا قومه
               وسيف أبيه الصــــؤول اليمان

     وكان الرافعي أصم لا يسمع، وكان مع ذلك يصول ويجول، فكان بذلك محط إعجاب الأصدقاء والخصوم على السواء، وافقوه أو خالفوه، يقول الغدير في ذلك:

أصـم وتسمع كيد الحواة[15]
               وما قال في الخلوة الألعبــــان
وما أحكموه من الشــــــائنات
               وما بهرجوا وهو ســامٌ وران
فتفـــجؤهم فاضحـاً كيـــــدهم
               فتغــــدو سخائمهم في العِـلان
فإن سألوا: كيف صار الأصم
               عليماً وأذنــــاه لا تسمعـــــان
أجبــت بأن سمــــاعي الرؤى
               وعقلي وقلبيَ لا يكذبـــــــــان
وفيّ البصيرة مثــــل الضحى
               سمعت بها والليــــــالي دِجان

     وينهي الغدير قصيدته بحوار لطيف مع العروبة التي كرس الرافعي حياته للدفاع عنها، ترى ما مكانته عندها؟ وكيف تنظر إليه، فيقول:

سألت العـــروبة في خلوتي:
               مَنِ الرافعيُّ وأنــــت الرزان
فقــــــالت: هو الألمعي الذي
               أجاد وساد ونـــــــال الرهان
فقلت: صدقــــت وأمجــــاده
               لها حيث تسري جمال وشان
ويشهد لي الضاد والمبدعون
               سريًّا كما كنت والفرقـــــدان

     وقد لا يوافقني دارس أو باحث على تصنيف هذه القصيدة في شعر الرثاء لغلبة جانب الإعجاب الخالي من مشاعر الحزن التي هي أبرز سمات قصائد الرثاء، إلا أن كونها في متوفى وأعماله ومناقبه يجعلها أقرب إلى الرثاء من المديح، والله أعلم.

***

5- رثاء الشاعر عمر أبي ريشة:

     للشاعر حيدر الغدير علاقة أدبية وثيقة بالشاعر الكبير عمر أبي ريشة، ذلك أنه درس شعره دراسة أكاديمية، ونال بها رسالة الدكتوراه بعنوان: عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعرا وإنسانا. ومثل هذه الدراسة تترك في النفس آثارا عميقة، قلما يتخلص الدارس منها، وليس مطلوبا منه أن يتخلص.

     ومن هنا فإن وفاة الشاعر الأثير عمر أبي ريشة ترك لدى حيدر الغدير حزنا عميقا، وهذا ما يدل عليه عنوان قصيدته، إذ جعل وفاته رحمه الله؛ مأتما للشعر. فعمر أبو ريشة أحد أبرز الوجوه الشعرية في سورية خاصة وفي العالم العربي عامة في القرن العشرين الميلادي.

     وقصيدة (مأتم الشعر ص9 من ديوان عادت لنا الخنساء) نطلع من خلالها على بعض ملامح المرثي، ورؤية حيدر الغدير له، فعمر أبو ريشة شاعر بنى مجده بشعره، لذلك يجعله حيدر الغدير والشعر واحدا، فيقول:

الشعـر أنت وأنت النــــــاي والوتر
               والشمس دارك والأفــــلاك والقمر
والشعـــر خدن الدراري في تألّقها
               وأنت خدن القوافي الغــــرّ يا عمر
وأنت فارســــها في كل معتــــركٍ
               وفيــــك من مترفيها الزهو والظفر
أنت الأصالة والفصحى إذا طربت
               وجــذوة بالبيـــان الثــــر تستعــــر

     فعمر أبو ريشة هو الشعر، وهو فارس القوافي، وهو الأصالة والفصحى، لأن أبا ريشة وطبقته من الشعراء هم الذين أحيوا أساليب الشعر العربي الحديث، وأخرجوه من وهدة الضعف، إلى قمة القوة والبيان.

     ويقدم لنا الغدير رأي الناس في شعر عمر أبي ريشة إذا أنشد، وتأثرهم به تأثرا بالغا، فيقول:

إذا ترنّمت قال الناس في ولَهٍ
               اليوم يسكرنا في شــدوه عمر
بيـــانه السحر والإبداع ديدنه
               أصخْ بسمعك هذي آيه الغرر

     ويكرر الشاعر الغدير في خطابه أبا ريشة بكنيته أبي شافع على رأس كل مقطع من قصيدته، وفي هذا تأكيد للحب الذي يكنه للمرثي، وتقديره، فمن علامات المحبة النداء بالكنية الحسنة التي تغلب على الاسم أحيانا كثيرة، وأبو ريشة لم يشتهر بكنيته (أبي شافع) في الأوساط الأدبية، فإظهار الشاعر الغدير لذلك لفتة خاصة منه، فيقول:

مرحى أبا شـافع يا شاعراً غرداً
               المترفــــات على بستــــانه زمر
زفتـــه للمجد والدنيا تبـــــاركها
               ومهرجانُ العُلا والسمع والبصر

     ويضفي الغدير على مرثيه لقبا آخر لم يشتهر عنه أيضا، وهو منحه لقب إمارة الشعر، فيقول:

قالوا وصدقهم مجــــــد ظفرت به
               وصدّق الخبر ما قــــــالوه والخبر
هذا الأمير، أمير الشعر فــــارسه
               قَلِّده في عرسه التاج الذي ضفروا

     فعمر أبو ريشة عاشق المجد، الذي تغنى بمجد أمته في قصائده دائما، وتوفي والأمة ما زالت تبحث عن المجد الضائع، وليكن هو قد نال شرف البحث عن المجد في شعره، وتبوأ هذه المكانة العالية بين شعراء عصره ومجايليه، فاستحق أن يكون أمير الشعر وفارسه.

     ومن مآثر عمر أبي ريشة دفاعه عن الفصحى، لذلك يظهر حيدر الغدير هذه المأثرة فيقول:

يا حارساً راية الفصحى وفـــارسها
               طابت وطبت وطاب الورد والصدر
رددت للشعر في كبـــــر كرامتـــه
               فكان حيث العــــلا والزهو والظفـر
غنَّيـــــتَه بالقــــوافي الزهر ملحمة
               طابت وجاءت عروسـاً وهي تفتخر
وتغـــلب الكارهين الضـــاد من نفر
               هم العدو وإن أخفـــوا وإن جهـروا
حميت فصحـــاك من بـــاغٍ يمزّقه
               حقد عليها فما يبـــقي وما يـــــــذر
وصنتها عن خؤون في جوانحـــه
               تغلي السخـــــائم والبغضاء والقذر

     ودفاع عمر أبي ريشة عن الفصحى مبني على أساس من الدين، لذلك يرمز له حيدر الغدير بأذان بلال، وبالكتاب الذي هو القرآن، فيقول:

على أذان بــــــلال في منـــــارته
               والكون يعشــــقه والفجر والسحر
على الكتاب الذي ترنو القرون له
               وقد أضاءت ديــــاجي ليلها السور

     ومن هنا كان دفاع عمر أبي ريشة عن اللغة العربية وعن الإسلام مجدا رفعه إلى أعالي السماء كالنسر المحلق، الذي عشقه عمر أبو ريشة، وجعله رمزا للإباء والسمر في قصيدته الشهيرة (النسر)، يقول الغدير مخاطبا إياه بكنيته أبي شافع:

مرحى أبا شافع قد عشت ضــــــاربة
               في السحب أمجــــادك الغـــراء تنتشر
كنت الإباء وكنت النسر[16] شامخة
               رايــــاته وأعاديــــهِ قد ائتـــــــــمروا
فمـــــا حنى هـــــامة إلاّ لخـــــــــالقه
               ولم يزلــــزله في طوفـــــــانه الخطر

     ونلحظ عزة الإيمان لدى عمر أبي ريشة الذي لم يحن هامته إلا لخالقه سبحانه!، فهو حر، غايته الحق، والإيمان حارسه، وسيفه بيعة لله رابحة، يقول الغدير:

وما على الحــــر إن كانت منيـــــته
               آمــــاله فهو يرجـــــــوها وينتــــظر
الحق غايتـــــه ما انفـــك يطلبـــــــه
               هتـــافه: الحسنيــــان الموت والظفر
وملء أضـــلاعه الإيمــــان يحرسه
               والمؤمنون ومن باعوا ومن صبروا
وسيــــفه بيـــــعة لله رابحــــــــــــة
               وحصنـــــه بين أشـداق الردى القدر

     وفي نهاية القصيدة يعود الغدير إلى نفسه بعد أن حلق مع شاعره الأثير في الآفاق، وفوق السحب، وفي قمم الجبال نسرا عزيزا يأبى أن يحني هامته إلا لخالقه، مدافعا عن أمته، وعن لغتها، ودينها ليجد أن النسر المحلق توقف عن التحليق، فيفاجأ بالواقع الأليم الحزين، ليبكي عليه مع الفصحى، وملء أجفانه الأحزان والكدر، فيقول:

عفواً أبـــا شــــــافع ما كنـــت أحسبـــــــني
               أبكي عليــــــك فأنت المجـــــد يا عــــــــمر
ونفســـــك القـــــمة الشـــــماء بــــــــــاذخة
               ما شــــــانها قط في ترحـــــــــالك الخــــور
وأنت غنيـــــتها شعــــــراً بمــــــأتمها[17]
               (بعض الطـيور تغني وهي تحتـضر)[18]
لكن بكـــت بعــــدك الفصحى منــــــــابرها
               لمـــا تســـــوّرها بــــاغون قد غــــــــدروا
أنــــا الوفي لهـــــــا أبـــــــكي لمــأتمهـــــا
               فمـــــلء أجفـــــاني الأحــــزان والكــــــدر

     ولم لا يكون وفيا.. والوفاء من شيم الرجال!؟ فرحم الله عمر أبا ريشة عاشق المجد وشاعره وفارسه.

***

6- رثاء الشاعر نزار قباني:

     في رثاء حيدر الغدير للشاعر الكبير نزار قباني طعم خاص، فهذا الرثاء غير متوقع لما بينهما من اختلاف في المنهج، ليس في الشعر والأدب فنا من فنون القول، إنما في منطلق هذا الفن وغايته، وأساليبه وآلته، فالتزام حيدر الغدير الديني الإسلامي يجعله لا يفكر برثاء شاعر مثل نزار اشتهر بشعر غزل غير عفيف، وبشطحات في القول غير نظيف، فما الذي جعل حيدر الغدير يرثي شاعرا مثل نزار!؟ هل حزن عليه حقا، أم هو نوع من التشفي الذي يغلفه صاحبه بغلاف من الشفقة!؟

     إن أول ما نستنتجه من هذا الرثاء هو الإعجاب الكبير الذي يكنه حيدر الغدير لشاعرية نزار قباني. والأمر الآخر هو شعوره بالحزن والأسى لأن يكون هذا الكم الهائل من شعر نزار قد وظف في غير الوجه الذي أراده الله سبحانه من عباده، فذهب في أودية من القول يحسب على صاحبه خسارا وعارا ونارا، هذا هو ظاهر الأمر الذي نراه نحن في الحياة بالمقاييس والموازين التي بين أيدينا! أما الغيب الذي يؤول إليه أمر كل إنسان وحسابه فهو إلى الله سبحانه وحده.

     يبدأ حيدر الغدير قصيدته (ستار ص40 من ديوان من يطفئ الشمس) بجملة نثرية تكشف لنا مدلول العنوان، فيقول: "الموت ستار يطوي ما قبله ويكشف ما بعده. إلى نزار قباني في ذكراه."

     وهو بهذه الجملة يكشف أن القصيدة لم تكن وليدة لحظة وفاة نزار، بل كانت في ذكراه، وهذا يجعل الفكرة أكثر رسوخا، فالقول الآني قد لا يكون عميقا، والتجربة قد لا تكون مختمرة، لذلك نجد حيدر الغدير يخاطب نزارا بهدوء مذكرا إياه بما ترك من إرث شعري شغل به الناس، فيقول:

ورحلت عنا يا نزار
من بعد أن ملأت قصائدك المغاني والديار
طرب الكبار لها وشاقتهم وغناها الصغار
كانت على الشبان إعصاراً وطوفاناً ونار
ولدى المراهق والمراهقة المخدةَ والأساورَ والشعار
والِخدْن في ظمأ الليالي والدثار
والشهوةَ الحمراء تعصف في لظاها والسعار

     وبعد هذه المقدمة عن مدى انتشار شعر نزار، بين الكبار والصغار، يؤكد الحزن الذي خيم على هؤلاء المجبين بشعره في كل مكان، وعلى بلده دمشق والشام في كل مظهر من مظاهرها، فيقول:

ورحلت نعشك في القلوب مشى به ضوء النهار
والعاشقون قلوبهم من فوقه إكليل غار
والناس من حول الجنازة كالقلادة والسوار
والورد والفل الدمشقي المعطّر والنوار
وأزقة الشام العتيقة جبتها داراً فدار
والياسمين على العرائش والنوافذ والجدار
والشارع الغافي الذي سموه باسمك يا نزار

     ويتابع هذا الوصف لمظاهر الحرن قائلا:

وبكتك شامك يانزار
وبكتك دمّر وهي تندب للمصاب وللخسار
والمرجة الثكلى تنوح ولا يقر لها قرار
والغوطتان وفي المحيا منهما يعلو اصفرار
والحور يبكي وهو محلول الضفائر والإزار
والماء في بردى غدا دمعاً يجلّله الغبار
ودمشق تكسوها من الحزن المرارة والقتار
وتقول وهي حزينة: أودى نزار
كل القوافي يا بني إلى انكسار
وأنا المرزّأة التي قد خانها بعض اصطبار

     والحزن على فراق نزار يعم شعره أيضا، فهو أقرب الأقربين منه وإليه، ولعل هذا التعبير يستعمله الشاعر الغدير أول مرة فلم نجد مثله في رثائه للرفاعي ولا الرافعي، ولا الأميري، ولا أبي ريشة، ولا محمود شاكر! وهذا يعطينا انطباعا بمدى اهتمام حيدر الغدير بشعر نزار، فيقول:

ونعاك شعرك يا نزار
وذووك والإعلام يخبر كل دار
ونعتك في المدن الصَّبا ونعاك في البيد العرار
وهنا المراثي من دمٍ وهناك يمتد الحوار
عما فعلت وما كتبت وأنت دائرة الحوار
والناس من عشقٍ بهم أسرى ذهول وانبهار

     ويصور حيدر الغدير اتساع دائرة الحزن لتشمل المغنين لشعره، والمعجبين به من الفتيات والفتيان، وأنهم كلهم:

يبكون فقدك يا نزار
ويتمتمون ودمعهم ينهلّ قد رحل الهزار

     كما أن القصائد تمشي خلفه باكية وهي تقول:

نحن اليتامى يا نزار
ارجع إلينا أو فأخبرنا إلى أين المسار
فإذا سكت ولم تعد فإليك أزمعنا الفرار

     وهذا تصوير قد يراد به الحقيقة، وقد يراد به شيء من السخرية من الذين صوروا موت نزار نهاية للقصيدة العربية وللشعر العربي الجميل المعاصر!.

     ولكن ما الذي حصل بعد كل هذا العويل والبكاء في الناس والشوارع والأشجار والأزهار والأشعار، كل هؤلاء مشوا في موكب نزار، ولكن لم يدخل أحد منهم معه قبره، فقد رجعوا جميعا وبقي نزار في القبر وحده، فما العمل!؟

عاد الجميع وأودعوك رهين قبرك في حصار
وأويت وحدك للمبيت ولن ترى ضوء النهار

     وهنا تكمن الحقيقة:

والقبر بيت العدل والحق الصراح ولا ضِرار
بيت يشيده الفتى وله كما يهوى الخيار
فيصير بالخلق الكريم وبالهداية خير دار
ويصير بالشر المخيّم والغواية شر دار

     وهنا تكمن الحكمة في رثاء حيدر الغدير لنزار، فهو يريد أن يضعه ويضعنا أمام الحقيقة التي لا مراء فيها وهي: الإنسان، الحياة، العمل، الموت، الحساب!

     فكل ما يراه الإنسان من مباهج الحياة ستنفصل عنه، ونزار رمز الإنسان، فكل يوم يموت شاعر هو نزار:

المجد ولى يا نزار
والشعر ولى يا نزار
والمال ولى يا نزار
والحسن ولى يا نزار
والجنس قد غنيته وعشقته ونشرته وأبحته ولّى وغار
قد حيل بينك يا نزار

     (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم)، والقبر قد يزوره آخرون مع الزمن، كما قال المعري:

رب لحد قد صار لحدا مرارا ... ضـــاحكا من تزاحم الأضداد

     والموقف الأشد هو ما بعد القبر يوم النشور (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء).

     وهنا نجد الشاعر الغدير يتحول إلى ضمير جمع المتكلم، ويجعل الأمر عاما لا يخص نزارا وحده، وإنما نزار واحد من هذا الجمع الكثير، فيقول:

وغداً ينادينا النشور إلى المثول بخير دار
فنقوم نستبق الخطا ونقوم نستبق البدار
وإذا النشور دعا الأنام مضوا إليه ولا خيار
وأتيته فيمن أتوا والخوف يعصف والحِذار
خضر الجنان إزاءهم وإزاءهم لفح ونار

     وهنا يسأل كل إنسان نفسه ماذا وجد، كما أن نزارا يسأل نفسه عما وجد:

ماذا وجدت وقد صحوت وأنت وحدك يا نزار
فانطق فقد سُدِل الستار
وانطق فقد كُشِفَ الستار

     وأنى له ولغيره أن ينطق!؟ وكما قلت في البداية فإن القصيدة مشحونة بعاطفة من الأسى والندم، والأمل والرجاء في أن يكون الإنسان قدر اجتهاده على الطريق الذي أراده الله له في هذه الحياة، وخصوصا إذا كان مؤثرا، ويترك إرثا كبيرا من الكلمة التي تعمل عملها بعد وفاته.

---------------

[1] ألقى الفقيد في الحفل الذي أقيم لتكريمه بنادي جدة الأدبي قصيدة رائعة اسمها (سبعون) رثى فيها نفسه، وهذا البيت وأخوه التالي يشيران إلى ذلك ويتضمنان ما قاله الشاعر الفقيد.
[2] هو الأستاذ أحمد محمد جمال، صفيّ الشاعر وتربه، وقد سبقه إلى الدار الآخرة بشهور.
[3] دفن الفقيد في مكة المكرمة حرسها الله.
[4] الفقيد صاحب أول وأعرق منتدى أدبي ظل يقام في بيته كل خميس ليلاً لأكثر من ربع قرن.
[5] كان الفقيد يودع زواره عند انفضاض ندوته بعطر نفيس.
[6] إشارة إلى معن بن زائدة الشيباني.
[7] إشارة إلى حاتم الطائي.
[8] كان أبو فهر إذا غضب من تخبط أمته يقول في حسرة: (أنتم في التيه يا أبناء إسماعيل).
[9] كان من قدر الله أن توفي الشاعر في المستشفى التخصصي في الرياض يوم السبت 23/10/1412 هـ- 25/4/1992م، وهو اليوم الذي دخل فيه المجاهدون الأفغان عاصمة بلادهم ((كابول)) ظافرين منصورين .
[10] تاريخ القصيدة الأولى (نم في البقيع) ومكانها هو: الرياض ـ 1412هـ ـ 1992م. أما القصيدة الثانية (كفاية) فمكانها وتاريخها هو: جدة – الجمعة - 5/4/1421هـ- 7/7/2000م.
[11] وصف سعد زغلول بيان الرافعي بأنه: (بيان كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم).
[12] ينتهي نسب الرافعي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[13] وظّف الرافعي بيانه للدفاع عن الإسلام، كما فعل حسان بن ثابت رضي الله عنه.
[14] عاش الرافعي وهو يشعر أنه أحد المطالبين دائماً بحراسة الدين والأمة واللغة.
[15] ضعف سمع الرافعي حتى انتهى إلى الصمم التام.
[16] للشاعر قصيدة شهيرة اسمها (نسر) كان حفياً بها، ويبدو أنه كان يقصد بها نفسه.
[17] للشاعر مجموعة شعرية عنوانها (غنيت في مأتمي).
[18] هذا الشطر من قصيدة للشاعر اسمها (بعض الطيور).

الجمعة، 11 يونيو 2021

رثاء الأمهات والأقارب في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

رثاء الأمهات والأقارب في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

رثاء الشاعر والدته الكريمة:

     للأم مكانة عظيمة لدى أبنائها، وطوبى لمن وفقهم الله في برها، والعمل في كسب رضائها، وتحضرني الجملة الجميلة التي قالها الدكتور الأديب صالح العايد: "يظل الرجل طفلاً حتى تموت أمه!"، وهو يحكي لنا بره بأمه، وقصة وفاتها ودفنها في الكتيب الذي جعل عنوانه تلك الجملة الرائعة في التعبير عن العلاقة بين الأبناء والأمهات.

     والشاعر حيدر الغدير بنفسه المرهفة الشاعرة، وملكته الشعرية المبدعة؛ يصور لنا تأثره بوفاة أمه رحمها الله، وهو يعود بنا إلى ذكريات مختلفة معها من ماضيه البعيد والقريب، ويذكرنا بذلك بأمهاتنا اللائي قد ننساهن في زحمة الحياة، فنتخلف عن القيام بواجب البر والإحسان بالدعاء لهن بعد وفاتهن.

     وعنوان قصيدته (قد كنت أرجو، ص119 من ديوان من يطفئ الشمس) يلفت النظر، ويشد الانتباه إلى هذا الذي كان الشاعر يرجوه، ويجعلنا نتطلع إلى معرفته. وقد كتب الشاعر على عادته في القصائد المهمة مقدمة نثرية تضعنا في جو التجربة الشعرية التي عايشها وكتب قصيدته فيها، فيقول: "إلى الوالدة الغالية التي أكرمها الله U بميتة طيبة فجر الأربعاء16/10/1424هـ- 10/12/2003م لتكون ختاماً حسناً لسيرتها المؤمنة، وحياتها المرزّأة، وشكرها الدائم، ودعائها الطويل، وصبرها الجميل."

     ولا ننتظر طويلا لنعرف ما الذي كان يرجوه الشاعر، فنجد قصيدته تبدأ بالجملة نفسها التي صارت عنوان القصيدة، يقول الغدير:

قد كنتُ أرجو أن أضمَّ ثراك
               وترينني قبلَ الردى وأراك
وأقبّلَ الكفَ الطهور متمتماً
               بالآي آمل أن أحوز رضاك
وأنام بين يديك نومةَ هانئ
               وكأنني وبيَ المشيب فتاك
وكأنني الطفل الذي رضع الهدى
               والدَرَّ منك ودفأه وحجاك
وتجول في الوجه المكرم مقلتي
               وتجول فيّ سعيدةً عيناك
لكنْ سبقتِ وكلنا في رحلة
               يجتازها الراضي بها والشاكي

     هذه هي المقولة نفسها.. طفولة الرجل بين يدي أمه! الأم التي ماتت وولدها المحب البار بعيد عنها، لا يستطيع الوصول إليها عندما يريد، فبقي ظامئا للقائها، وضم ترابها بين كفيه، وتقبيل كفها الطهور الحاني التي ربته، ومسحت على رأسه، وهزت مهده وهدهدته، وهي تعوذه بآيات الله لينام هانئا هادئا، فهو يريد أن يكافئ تلك الكف بالتقبيل شكرا على ما قدمت ليسدي لها بعض إحسانها. لا..لا.. إنه يريد أن يعود طفلا صغيرا يضع رأسه في حجرها مستشعرا حنانها وينام قرير العين يملؤه إحساس الأمان الذي يستشعره الطفل الصغير الحائر حين يعود إلى أمه، وليتطلع بعينيه في الوجه المكرم الوقور، ويتشبع من رؤيتها مستشعرا أنها هي هي الأم التي جمع الله سبحانه بين عبادته والإحسان إليها!

     ولكن.. انقطعت الأماني والآمال دون تحقيق ما كان يرجو، فقد سبقته، بل سبقهما القضاء بالرحيل، وهي رحلة مقضية على الإنسان راضيا كان أم شاكيا.

     لقد رحلت الأم الأبية، العالية الهمة، المؤمنة بأن العمر برق خادع، فلذلك زهدت فيها زهد الصالحين، وجعلت أمرها لله وحده في السراء والضراء، فشكرت وصبرت، حتى جاء أمر الله الذي لا يرد.. فلقيت ربها برضا المؤمنة، فكان قبرها بإذن الله روضة من رياض الجنة، يقول الشاعر:

ووجدتِ في القبر المنوَّر روضةً
               طابت بعاقبةِ التقى وشذاك
ممطورةً بالآيِ قد رتَّلتِها
               وجزيلِ ما جادت به يمناك
والشكرِ قد أُشْرِبْتِه وعشقتهِ
               فغدا لك الكنزَ الذي أعلاك
والشوقِ للفردوس وَهْوَ المنتهى
               إني لأقســم أنه مثـــــواك

     ويتذكر الشاعر أشياء كثيرة، ولكن أعظمها لقاؤه بأمه عندما جاءت حاجة بيت الله الحرام، فتحركت أشواقها، وسالت دموعها، وكم عبرت عن فرحتها بلسانها، وما لم تعبر عنه مما في قلبها أكثر:

والذكريـــــــات كثيرةٌ وأجلّها
               لما رأيتُ الحجَ قد نـــــــاداك
فعدتكِ أشواق وسالت دمعة
               وتزاحمت في أصغريك رؤاك

     مسكين هذا الولد الحبيب البار، الذي جاء يسأل أمه عن سبب بكائها!؟

     وعظيمة تلك الأم المؤمنة التي أخفت حقيقة مشاعرها مع ربها عن ولدها لتقول له: إنها محمومة!! يقول الشاعر الغدير:

وأتيتُ أسألكِ الأناةَ فقـــلتِ لي
               محمومةً والشوقُ قد أضنــاك
الحجُ أكرمُ أمنيـــــــــاتي إنها
               أبداً معي في هدأتي وحَراكي

     إذاً فهي دموع الفرح والشكر أن حقق الله لها أمنيتها بزيارة البيت الحرام، وأداء مناسك الحج، وإذ تكون أمام البيت ينتشر الرضا على وجهها، سائلة الرضا من الله سبحانه عنها، يقول الشاعر:

ورأيتِ بيتَ الله فانهـــــــلَّ الرضــــــــــا
               كالغيـــــــــثِ في ريعــــــانه فــــــرواك
وبســــــمتِ والرضـــوانُ فيك غلالـــــةٌ
               وســــــألتِ مالـكـه الرضـــــا فحبـــــاك
فرجعتِ مَحْضَ السعدِ في محضِ الرضا
               عينـــــاك تـشــــكر ربّــــــهـا ويـــــداك

     ويتعلق الشاعر بأمر آخر، وهو الحصول على دعاء الأم، الأم التي لا تنقطع عن الدعاء، فهو دأبها وديدنها، ويسألها أن تدعو له، فتستجيب وتدعو، يقول الشاعر:

أما الدعـــــاءُ وأنتِ مَنْ أدمنـــــــــتِه
               فغـــــدا المنى محبــــــورةً وشِفـــاك
وطمعتُ فيــــك ويــــا له من مطمع
               أن تجعـــــلي لي حصةً بدعــــــــاك
فهششتِ لي وبششتِ لي ودعوتِ لي
               وأجــــدتِ ثم أطلتِ لي بثـنــــــــــاك
فشعـــــرتُ أن مكـــاسبي لا تنــتهي
               وشعــــرت أني في ذرى الأفــــلاك

     أما وقد انقطعت هي عن الحياة، ولم يبق لها من عمل صالح يصلها سوى ولد صالح يدعو لها، فليكن شاعرنا ذلك الولد إن كان يستطيع أن يكون، وطوبى إن كان! يقول الشاعر عن نفسه:

أترينــــني أنســـــاكِ كلا والذي
               خلق الوفـــــاء الحرَّ لنْ أنســاك
وأنـا الوفيّ وتعــــلمين شمائـلي
               وَهْيَ التي شبّـــت على نعمـاك
سأظلّ أهتف بالدعاء لك المدى
               وتظلّ فيَّ طريـــــــــــةً ذكراك

     لقد رحلت الأم الحنون إلى ربها راضية مرضية بإذن الله، وعسى أن تكون دعواتها، قبلت! وينهي الشاعر الغدير قصيدته بالتنبيه على حقيقة الموت، وحقيقة ما ينتظر الناس بعد الموت، وعسى أن يلحق الله سبحانه الذرية الصالحة بالوالدين في جنان النعيم، يقول الغدير:

أماه إن الموتَ غايتنــــــا التي
               تطوي قنــــاةَ البَـرِّ والأفــــاك
والحشرُ موعدُ صادقٍ ومنافقٍ
               وأخي البكاء الحق والمتبــاكي 
أماه إن عزَّ اللقـــــاء وفـــاتني
               فغداً يطيب على الجنـان لقـاك

     ونحن نقول معه: غدا يطيب على الجنان لقاء الآباء والأمهات.. ذرية صالحة بعضها من بعض. وقد توفيت والدة الشاعر في سورية بمدينة دير الزور، ولم يكن يستطيع لقاءها، ولا حضور جنازتها.

***

رثاء الشاعر أخاه الحبيب:

     الأخ للإنسان كالسلاح للمقاتل في المعركة، وابن العم كالجناح للطائر على رأي الشاعر العربي القائل:

أخـاك أخاك إن من لا أخـــــا له
               كســــاع إلى الهيجا بغير سـلاح
ألا وإن ابن عم المرء جنــــاحه
               وهل يطير البازي بغير جناح!؟

     ورغم أن الإسلام وسع دائرة الأخوة عن المتعارف عليه لدى العرب فجعل المؤمنين إخوة، وجعل المسلم أخا المسلم، وجعل الإنسان أخا الإنسان، الناس لآدم وآدم من تراب، ولكنه لم يلغ الدائرة الأساسية للأخوة وهي أخوة النسب، وإليها ينصرف المعنى إذا لم يخصص، ولم يكن في الحديث قرينة يصرف المراد إلى غير وجهه الفطري.

     ونحن مع الشاعر حيدر الغدير في دائرة الحزن مرة أخرى وهو يرثي أخاه الشقيق الحبيب، الذي يحدثنا عن ظروف وفاته بإيجاز في مقدمته النثرية، لنتعاطف معه في حرمانه من المشاركة في جنازة أخيه، يقول: "توفي أخي الكريم الشجاع الفارس مصطفى الغدير في دمشق ضحى الاثنين13/2/1422هـ - 7/5/2001م، وقد أكرمني الله عز وجل بأداء العمرة قبل أن يوارى الثرى رحمه الله."

     وفعله في أداء العمرة كما هو واضح خفف عنه الشعور بالحزن، والعجز عن التواصل، وهو يتضح في التأكيد على عبارة أداء العمرة قبل أن يوارى الثرى! فقد كان الشاعر في الذروة من الانفعال والاشتعال، وكأنه وهو يطوف بالبيت، ثم يسعى بين الصفا والمروة، داعيا ومستغفرا ومسترحما يشارك أهله هناك في حضور الجنازة، ويقوم بما يتوجب عليه، بل لقد قام بما استطاع من الواجب، نسأل الله سبحانه القبول الحسن لما قدمه لأخيه الحبيب.

     ولحظات الاشتعال هذه كانت التجربة الشعرية التي أثمرت قصيدة الرثاء التي بين أيدينا بعنوان: (نَمْ هنيئاً ص86 من ديوان من يطفئ الشمس). وقد بدأ القصيدة بكشف حقيقة الموت، فهو صحوة، وليس نوما كما يُرى من ظاهر الأشياء، وهو الذي يوصلنا إلى الحقيقة المطلقة التي نغفل أو نتغافل عنها في حياتنا، يقول في ذلك:

رقدة الموت صحوةٌ لا منام
               تتلاشى في نورها الأوهام
تتجلى فيها الحقيقة شمساً
               مثل لغز قد زال عنه لثام
إنما الموت معبر لحياة
               في مداها يقفو الدوامَ دوامُ

     فالموت الذي نراه يستر الإنسان تحت التراب يكشف أعمال قلوبهم ما حسنوا فيه وما أساؤوا، ويكشف غطاء عن العيون لتكون رؤيتها أكثر حدة، يقول:

يكشف الموت عن قلوب البرايا
               ما أســـاؤوا فيه وفيه استقــاموا
وغطاءً عن العيــــون لتغـــــدو
               بصـــــراً فيه حدة واحتـــــــدام

     وهذه الحقائق التي تتكشف بالموت يجعل العاقل يأخذ حذره، ويحزم أمره، ويبادر فعله، حتى لا يفاجأ، ولا يؤخذ على حين غرة، ولات ساعة مندم، يقول:

فاستبقْ يومك القريب بعزم
               عمريّ المتاب فالموت جام

     وبعد هذه الوقفة الحكيمة مع الحياة والموت يعبر الشاعر الغدير عن مشاعره نحو أخيه الراحل، فهو فارس شهم مؤمن شجاع، حازم، يقول:

أيها الفارس الذي عاش شهماً
               أصغــــــراه الإسلام والإقدام
فيه طبع الحسام صلتاً صقيلاً
               هزه في الوغى المدمّى حسام

     ويودع الشاعر أخاه بلطف طالبا منه أن ينام ويستريح، فهو ضيف قادم من سفر، فارس راجع من أرض المعركة، من حقه أن يستريح، وقد هيئت للضيف كل أسباب الراحة عند مولاه الكريم الرحيم، يقول:

نم هنيئاً فأنت ضيف كريم
               عند مولاك والهبات جسام

     ويختم قصيدته بالسلام الذي يودع به الضيف، وهو مزيد حفاوة وتكريم، فيقول:

وعليك الســــــلام حياً وميتــــاً
               وعلى الأهل والصحاب السلام

     عليك السلام حيا فهو صيف نائم، وعليه السلام ميتا لأن هذه النومة تسمى ميتة لغة، ألا ترى إلى قوله تعالى: [اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الزمر: 42).

     وإذ فرغنا من القصيدة فإننا نستطيع القول: إن الشاعر حجب عنا الكثير مما كان يمكن أن يقوله عن الفارس الشهم المؤمن الذي قدم لنا بعض صفاته، فقد أخذ الحديثُ عن حكمة الحياة والموت الحيز الأكبر من القصيدة، وهو أمر ينبغي أن ينتبه له عندما يصنع قصيدته في مثل هذه الأغراض، أم أن الأمر كما يقول بعض الشعراء : إن القصيدة تكتبه، ولا يكتبها!.

***

رثاء الشاعر إحدى قريباته:

     قصيدة الرثاء تنبع من تجربة حزن صادقة، وتأثر برحيل شخص له أهميته عند الشاعر، ولكن ليس بالضرورة أن يقول الشاعر قصيدة كلما توفي قريب، أو صديق، أو أحد أصدقائه، فقد تعقم التجربة، ولا تنتج.

     ونحن هنا مع قصيدة حملت عنوان (جميلة، ص 151 من ديوان من يطفئ الشمس)، وقد أضاءها إضاءة خافتة لم نتبين الطريق واضحا من خلالها، فلم نعرف علاقة الشاعر بالمرثية رحمها الله، إلا أن المؤكد وجود صلة قربى، وجاء العنوان ليوحي بالعَلَمية والوَصْفية، يقول الغدير: "كانت رحمها الله تقية نقية، طاهرة صابرة، وكانت ((جميلة)) اسماً وشكلاً ومضموناً. توفيت في الرياض يوم الجمعة 17/5/ 1426هـ - 24/6/ 2005م. فبكاها كل من عرفها."

     وعبارته الأخيرة تشي أن المرحومة كانت مؤثرة في الوسط الاجتماعي الذي كانت فيه لدرجة أن كل من عرفها قد بكاها، وجملة (كل من عرفها أوسع دلالة من أقاربها الأدنين والأبعدين، فمن عرفوها قد يكونون جيرانا، وقد يكونون ممن قدمت لهم نوعا من المعروف.

     ويبدأ الشاعر قصيدته من سر المعرفة، وليس من سر القرابة والرحم، فيقول:

عرفتـــك كالبسمة العــــاطرة
               وأنقى من الطل في البـــاكرة
كأنك ذوب الخصـال الحسان
               تــــلألأن في باقة ســـــاحرة
وفي أصغريك غوالي النقـاء
               محــــاسن باطنــــــة ظاهرة
تمحَّضْت للخير أنـَّى مضيت
               وأسكنتـه القلب والبــــاصرة
كأنــــــك مريم في طهـــرها
               حُلاها فضــائلهـا البـــــاهرة

     فهو يجعل خصالها الحميدة وسيلتها إلى امتلاك نفوس الآخرين وقلوبهم، فقد اجتمعت خصال الخير في لسانها وقلبها وفعلها حتى كأنها مريم عليها السلام، أو أختها في الطهر والنقاء. ولا شك أن خصال الخير يحبب المرء والمرأة للناس، فهم أسرى الإحسان والمعروف، وقد صارت كذلك فعلا، يقول الشاعر:

محبــــبة للورى كالربيـــــع
               وكالروض والبسـمة الآسرة

     وإذ يستكمل الشاعر ذكر فضائلها الخاصة بالمرأة يضيف إليها ما ينقلنا إلى صفحة أخرى في حياتها، فهي حصان عفيفة ورزان وقور، وكانت مصابة صابرة على ما أصابها محتسبة ذلك عند الله سبحانه، فيقول الغدير:

وكنت الحَصان وكنت الرزان
               وكنت المرزأة الصـــــــــابرة
مللت الحيــــــاة ووعثــــاءها
               ويممت وجهـــــك للآخـــــرة
وقلت هنـــــاك يطيب المقيـل
               وقلت الدنى رحلـــــة عابـرة
وما أنـــا ممن يخاف الممات
               وأكوابه بيـننـــــــا دائـــــــرة

     وقد أعطتها صفة الصبر يقينا وثباتا، ووعيا بحكمة الحياة، فكانت وجهتها للآخرة الباقية، معرضة عن الدنيا الفانية.

يقيــــني به صفقــة ظافرة
               وحبي له ديمــــــة هـامرة
وقبري بأفضـــاله روضة
               بما شـاء من جوده عامرة

     إن يقينها بأن الموت حق جعلها تستعد استعداد الرضا، وهذا جعل قبها روضة من رياض الجنة، وهو ما يبشر بالخير الذي بعده من البشرى بالجنة والنعيم المقيم، ووصائفها من الحور العين، وخدمها من الولدان المخلدين، (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان: 20]، يقول الشاعر:

أأخت الفضيــــــلة والطيبـــات
               ســــلام على روحك الطـاهرة
كأني أراك مع الـبشريـــــــات
               يجئـــــن إليــــك منى زاهـــرة
وهن وصـــــائفـك الطيعــــات
               وأنت المليـــــكة والآمـــــــرة
وأغلى الرضا إذ تنادي الجنان
               عليـــك وأنت لهـــــا نــــاظرة

     وقد استشرفت نفسي إلى معرفة جزئية تفصيلية تخص هذه المرأة الصالحة تميزها عن غيرها، وبغير ذلك تعد هذه القصيدة ثوبا جاهزا تلبسها كل عروس!.

     ولعلنا لاحظنا خاتمات قصائد الرثاء التي تنتهي بنداء الوداع، وهو هنا: (أأخت الفضيلة والطيبات)، وفي رثائه لأخيه قال: (أيها الفارس الذي عاش شهما)، وفي رثائه لأمه قال: (أماه إن عز اللقاء وفاتني)، وهذا نداء ذكي لإنهاء القصيدة واللقاء، وفيه حسن تخلص، وخروج من الموضوع.

فلسطين في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

فلسطين في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للقضية الفلسطينية حضور قوي في وجدان كل عربي ومسلم، ولها في وجدان الشعراء والأدباء حضور آخر، حيث إنهم أقدر على التعبير عن مكنونات أنفسهم، وصياغة الوجدان الجمعي تعبيرا عن رؤية الأمة في قضاياها المصيرية. ولأن القضية الفلسطينية حية حاضرة متجددة بأحداثها المتوالية التي لم تنقطع يوما منذ ما يزيد على ستين عاما حين اغتصبت بمؤامرة دولية، فأعطى من يملك لمن لا يستحق، كما قيل.

     وحيدر الغدير بشاعريته المتألقة تجاوب مع هذه القضية، وعايش أحداثها، وسجل رؤيته، ومشاعره نحوها، وتناول عدة أمور مهمة في القضية، يعد المسجد الأقصى في الذروة منها، حتى إنه سمى أحد دواوينه: غدا نأتيك يا أقصى!

     ومن هنا أبدأ بما قاله عن الأقصى في ديوانه هذا ودواوينه الأخرى، ولنبدأ بالقصيدة التي حملت الديوان عنوانها (غدا نأتيك يا أقصى، ص 9)، حيث يعطي الأقصى عهدا بالتحرير، والخلاص من اليهود، وأن هذا الغد آت بإذن الله ومتحقق، فيقول:

لعهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا
وحلم في مآقينا
ينادينا فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى تنادينا
إلى الأقصى إلى الأقصى

     وهذا الغد الآتي مرتبط بالماضي يأخذ منه شرعيته، وأمله، ويرسم طريقه، فهو ينظر إلى معركة النصر القادمة مع اليهود من خلال معركة حطين، وغزوة خيبر، فيقول:

سنــــأتي في غـد نــــارا
وبركانـــــاً وإعصــــارا
لنصنــــــع مرة أخــرى
وقــد لاحت لنـا البشرى
بعـــــــون الله حِطيــــنـا
ونغضب غضبة كبـرى
ونصنـــع خَيبراً أخـرى
ونحمي الأرض والدينـا

     والشاعر يرسم هوية هؤلاء الآتين إلى الأقصى غدا، فهم يحملون كتاب الله في أيديهم، وموعد الغد هذا في كتاب الله الذي يحملونه، إنه وعد الآخرة الذي إذا وقع أرسل الله عبادا فجاسوا خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، إنه الوعد الذي لا مناص منه، يقول حيدر الغدير:

غداً نأتيك يا أقصى
كتاب الله في يدنا، ينادينا لموعدنا
وموعدنا صباح ظافر ضاحك
وموعدهم مساء خاسر حالك
وإن الصبح يا باغون يا عادون يا قتلة
سيأتيكم ويأتينا، ليرديكم ويبقينا، فنمضي نَعْمُرُ الدنيا، ونمضي نحرس الدينا
غدا نأتيك يا أقصى سراعاً ذادةً خُمْصا
كتائب حرة تمضي، لصون الحق والعرض، ترى التحرير كالفرض
ولا ترتد أو تحصى، ولا تعصى، تنادي أيها الأقصى
لقد جئناك سارينا، مساعيراً ميامينا، كتاب الله هادينا، وصوت الثأر حادينا
وفي اليمنى مواضينا، وفي اليسرى أمانينا
لنزرع في روابينا، وقد طهرت رياحينا
ونهدي أهلها أمناً، وزيتوناً، ونسرينا
ونسقي من بغى سماً، وزقوماً، وغسلينا
فقل: يا رب آمينا

     فهؤلاء الآتون بيدهم كتاب الله يبنون ولا يهدمون، ويزرعون ولا يحرقون، وينشرون الأمن والسلام بدلا من الخوف والرعب، يزرعون الزيتون والورود، وتصون الأرض والعرض.

     وفي ديوان (عادت لنا الخنساء قصيدة بعنوان: بل أنت يا أقصى لنا، ص 53)، يجعلها "برقية شعرية إلى المسجد الأقصى المبارك في ذكرى إحراقه" ويرى "في الأفق ملامح يوم قادم، فيه بشير ونذير، أما البشير فإنه يحمل للمسلمين أناشيد النصر، وأما النذير فإنه يحمل لليهود أصوات الناعين"، وهو يؤكد في هذه القصيدة أحقية المسلمين بالأقصى، كما أكد في قصيدته السابقة (غدا نأتيك يا أقصى) أنهم قادمون لتحرير من اليهود. ويكرر في هذه القصيدة عبارة (بل أنت يا أقصى لنا) في كل مقطع، كما كرر هناك (غدا نأتيك يا أقصى)، يقول الغدير:

بل أنت يــــا أقصى لنا ... والدهر يشــهد والسنــا
ومعـــــاهد ومســــاجد ... في القدس قد عزت بنا
وحضـــــارة ميـــمونة ... عمرت رحـابك أزمنـا
شـدنا صروح فخارها ... حسنــــاً ينافس أحسـنا
***

بل أنت يـــا أقصى لنا ... وتظل أنت الموطنـــا
للمسـلمين على المدى ... من قبــــلنا أو بعـــدنا
أمـا اليهـــــود فـــإنهم ... إفك تســــلل موهنــــا
وغداً يــــزول فإنــــه ... بالشر قـــــام وأمعنــا
***

بل أنت يـا أقصى لنا ... وتظل يـــا أقصى لنا
أما اليهــــــود فربما ... يجدون قربك مدفنــا

     فالشاعر يؤكد على أحقية المسلمين بالأقصى، أما اليهود فإنهم إفك تسللوا بغير حق، فلا بد أن يزولوا يوما، وعند ذاك قد يجدون موضعا يكون قبرا لهم أو لا يجدون.

     ويؤكد على هذه المعاني في قصيدته (يا حماة الأقصى، ص 59، من ديوان عادت لنا الخنساء)، حيث لا يمكن أن يعود الأقصى لنا، ولا يمكن أن نأتيه غدا من دون أن تقوم فئة مؤمنة مجاهدة تدافع عن الأقصى، امتثالا لأمر الله سبحانه، برد العدوان عن مساجده، والأقصى ثالث المساجد المقدسة في الإسلام، يقول الشاعر الغدير واصفا هؤلاء الحماة مناديا إياهم في بداية كل مقطع من القصيدة:


يا حماة الأقصى عليكم ســـلام
               أنتـــم السيــــف سلّه الإســـلام
وحفـــاظٌ من المروءات غـــالٍ
               ويقين فــوق المدى واعتصــام
أنتـــم الأشجعــون عقــلاً وقلباً
               ركبــــوا كل شدّة وأقـــــــاموا
       *****

يا حماة الأقصى عليكم ســـلام
               من ملايينَ لم تــزل تشـتـــــام
رادةً ذادةً فكـنـــــــتم منـــــاها
               ورجاها إذ تصــــــدق الأحلام
وطلعتم لها صقــــور اقتحـــام
               زان أحلامهــا فدىً واقتحــــام
       *****

يا حماة الأقصى وأنتـــم بروق
               صادقـــات تهمي وأنتم سهــام
فوَّقـتهـــا الأقدارُ فهي جنــــود
               ليس تخطي إذا رمت فالهــــام
أنتــــم النــور في علاه ويــوم
               سيّـــــد حيــن تذكر الأيــــــام
وليوث تحمي العرين غضاب
               ما عراهـــــا يوم الكريهـة ذام


    فهذه الأوصاف التي أضفاها الشاعر على حماة الأقصى من الإيمان والشجاعة والريادة والصدق وحملة النور هي صفات الفئة المؤمنة المجاهدة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ولذلك يطلب من سائر الأمة بلسانهم أن تعينهم في حربهم مع اليهود، فيقول:

أيهـا المســلمون لا تخذلونا
               نحن دين وإخــــــوة وذمام
انصرونا فنحن للقدس قمنا
               إنما ينصـــر الكرامَ الكرام
قد دعانــــا إليه أغلى منـادٍ
               فأجيـــبوا فإنــه الإســــلام

     وحيدر الغدير التفت في عدد من قصائده إلى الرموز اليهودية المجرمة التي تقود الحرب على الإسلام والمسلمين في فلسطين كلها، وفي القدس والأقصى بخاصة، فقول في قصيدة بعنوان (أعماك حقدك، ص 67، من ديوان عادت لنا الخنساء)، ومن هؤلاء رموز دينية مؤثرة في المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة، فوجه خطابه إلى "الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في فلسطين المحتلة لما عرف عنه من سفاهة وبذاءة، حيث سب العرب سباً قبيحاً ودعا إلى إبادتهم وقطع نسلهم"، حسب المقدمة التي وطأ بها للقصيدة، يقول الغدير:

أعماك حقـــدك أيها الحاخـــــام
               والحقـــد عند ذويه ليس ينـــــام
فهو الضنى فيــــهم وسم قاتــــل
               وسعـــار محموم الحشا وضِرام
يسطو بهم ويســــومهم ويشينهم
               فــــإذا بهم في أسره أيتـــــــــام
يتطاولون وهم أذل من الحصى
               وهم الدمى تلهــــو بها الأقــوام
ويفـــاخرون وهم عبيد ضـلاله
               ويســـــابقون وهم به أقــــــزام
ويكـــــابرون وهم بقـــايا أنفس
               محقــــورة لم يطوهن رجـــــام

     ويكرر في كل مقطع من القصيدة الشطر الأول: "أعماك حقدك أيها الحاخام "للدلالة على شدة تفاعله مع الموقف السيئ لهذا الحاخام، بما جعله يصب غضبه عله سياطا لاهبة موجعة.
     وفي قصيدة (ونحن الحق، ص 51، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقفة أخرى للشاعر حيدر الغدير مع الحاخام عوفاديا، فيوجه "برقية شعرية إلى حاخام جاهل" يقول في مقدمة القصيدة: " قال الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في المسلمين كلاماً سيئاً يمتلئ بالحقد والشر والكفر والجهل، معتمداً في ذلك على التلمود، فباح ببعض ما في صدره وما في تلموده من آثام"، ويختم قصيدته قائلا:

تأمل أيهــا الحاخــــــام دهـراً
               وتاريخــاً لكم بالإثــــم فـــاحا
لـتعــــلم أن دولتــكم ستمضي
               كحــــلم مرَّ لمحــــاً ثم راحــا
وما تبقى الزيوف وإن تمادت
               ويبقى الحق ما الإصباح لاحا
ونحن الحق يا حاخــــام نبقى
               لنــملأ هذه الدنيـــا صلاحـــا
وأمجـــــاداً مطهــرة حسـانـاً
               لبسن على وضاءتها السماحا
وأنتــــم في غد خبـــــر دميم
               يقيـــــم عليه أهلـــوكم نواحا

     وفي قصيدة بعنوان (احفر ضريحك، ص 73، من ديوان عادت لنا الخنساء)، يخاطب مجرم الحرب شارون في دولة إسرائيل المغتصبة، عندما تمادى في عدوانه على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وغيرهما، فرأى الشاعر في ذلك التمادي قرب نهاية الظالم، فاختار لقصيدته هذا العنوان اللافت للنظر، فيقول بعد أن يعدد جرائمه التي فاق بها مجرمي الحرب المشاهير في التاريخ من أمثال جنكيز خان في الشرق، ونيرون في الغرب، يخاطبه قائلا:

يا أيهــــا الغـــــرُّ الذي أزرت به
               أحـــــلامه الحمقى وهن منــــون
هلاّ أفقــــت ولن تفيـــــــق وإنما
               يصحو الفتى الميمون لا الملعون
إبليــس أورثــــك العناد بكبــــره
               فـــــإذا بك المغرور والمفتــــون
وغداً ستعنـــو للقصــــاص لأننا
               آتون كالأقــــــدار يا شــــــارون
فاحفر ضريحك كي يضمك جثة
               أوْ، لا، فإنـــــك في العرا مدفون
تـذرو بقــــاياك الريــــاح ذميمة
               وتعــــافها الحشرات حيث تكون

     وتوجه الشاعر الغدير إلى شارون بقصيدة أخرى بعنوان (الصبح موعدكم، ص 84، من ديوان عادت لنا الخنساء)، وخطاب العنوان بضمير جمع المخاطب المقصود به اليهود الإسرائيليون كلهم، وخصص فيها شارون بالخطاب لأنه هو الذي كان يقود الأعمال الحربية الإجرامية ضد غزة خاصة، يقول الشاعر مخاطبا الإسرائيليين:

الصبــح موعدكم فأين المهربُ؟
               والشرق نحن يحيطكم والمغربُ
أدمنتم الآثـــــــام وهي سخـــائم
               تعدو بكم وهي الضـلال الأكذب
في أسـرها أنتم وفي غـــمراتها
               أنـّى اتجهتــم حاضرون وغيّب
أعمت خطاكم فالجهــــالة دينكم
               تملي عليكم ما تشـــــاء وتكتـب
أنتـــم خلاصة سمّها وزيوفـــها
               وأذل من رأت القرون وأعجب

     ثم يتوجه بالخطاب إلى شارون بعد أن يصفه بأوصافه من النقيصة والغرور والفساد والمكر، فيقول:

فاستقبـــــلوا يوم الردى وتأهبوا
               شـــارون إن الظلم يقتل أهــــله
رعنـــــاء أغراها سراب خـلّب
               لمصيــــركم إذ تنطوون كفرية
تبقى لنا ولهـــا الجلال الأرحب
               والقدس مصيدة الطغاة ولحدهم
وجنــوده من كل صوب موكب
               والخـــــالد الإسلام في أعراسه

     فالشاعر في مطلع القصيدة أشار إلى الآية الكريمة التي أوعدت قوم لوط بالعذاب، فقال تعالى على لسان ملائكته مخاطبين لوطا عليه السلام، يبثون في نفسه الطمأنينة: [إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب]، وهكذا يعطينا الشاعر هذا المعنى الدلالي العميق بقرب نهاية الظالمين. وفي البيت ما قبل الآخر ذكر الشاعر القدس، وأنها مصيدة الطغاة ولحدهم، فكم غزاها من طغاة وظالمين، وآل أمرهم إلى الزوال!.

     وفي قصيدته (أيها المعتدون، ص 105، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى) يرسل الشاعر كلماته شواظا من نار على المعتدين، وعلى رأسهم شارون، وفي مقدمة نثرية يوجه قصيدته رسالة مفتوحة: "إلى شارون ومَنْ معه، ومن قبله، ومن بعده، من أعداء الدين والوطن، والأرض والعرض، والحرية والعدل، والشجر والبشر، والهواء والماء، في فلسطين المحتلة." ويقول في مطلع القصيدة:

أيها المعتدون كيف النجــــــاءُ
               نحن طلاّبكم ونحن القضــــاءُ
أنتـــم الظالمون والظلم يردي
               صــــانعيه فهم به أشقيـــــــاء
سنــــة الله منذ كانت وتبــــقى
               أنْ سيأتي مثل الصنيع الجزاء

     ويظهر الشاعر تماسك الأمة في وجه الاعتداء الصهيوني، والظلم اليهودي على فلسطين والقدس والأقصى وشعبها، ويعرب عن يقينه بزوال العدوان والظلم مهما تكبر وتجبر، فيقول:

أيها الراكضون في القدس تيهاً
               أنتــــم الواهمون والأغبيـــــاء
إنكم فلتـــــة وتمضي سريعــاً
               كالســـوافي، وفرية رعنـــــاء
وبقـــايا من الخرافــات حمقى
               زوّرتها السخــــائم الشوهـــاء
لن تظلوا في دارنـــا غير ليل
               وضحـــــاه ثم المـآل هبــــــاء

وهنا يستنجد الشاعر بالرموز التاريخية التي صنع الله سبحانه النصر على يدها فيذكر عددا من الأسماء، ويتبعها بأسماء معاصرة أيضا، فيقول:

أيهـــا المعتـــــدون نحن المنــايـا
               قـــاهرات ومـالهـــــا إبطــــــــاء
نحــن آتـــون عنــــوة واقتـــداراً
               وسيـــوفاً ظمــأى ونحن ظمـــاء
كلنــــا حمــــزة وزيــد وسعـــــد
               والمثــــنى ومصعـــب والبـــراء
والحسيـــــــنيّ يوم هـبَّ فأبــــلى
               والشهيــــد القســـــام وهو اللـواء
وعبيــــر وبســـمة وسعــــــــــاد
               وسنــــــاء وفـــــاطم ووفــــــــاء
والمصونات من ذؤابـــات قومي
               هن زهــــر المنى وهـــن العطاء
يتنـــــافسن في الثواب احتســـاباً
               مسرعات وحيـــن يدعو النــــداء
في الطريق الذي مشتـــه قـــديماً
               وهي تتـــــلو أســـماء والخنســاء
ومشته البتول «آيات»[1] جذلى
               وجُــــــــذاها الآيـــــــات والآلاء
سيـــــدٌ إثر سيـــــدٍ وفتـــــــــــاة
               إثــر أخرى ويصعب الإحصــاء

     وبذلك يرسم لوحة جميلة من صور وتاريخ هذه الأسماء العظيمة رحالا ونساء، وفتيانا وفتيات، بما يؤكد زوال دولة قتلة الأنبياء في فلسطين أرض الأنبياء.

     وفي قصيدة بعنوان (شَرَك، ص 105، من ديوان عادت لنا الخنساء) يتحدث حيدر الغدير عن البغي بصفة عامة، وعاقبته السيئة، وأن شرك لصاحبه يرديه ولو بعد، كما قدم بذلك للقصيدة. وهو في السياق يقدم المثال الواضح والصارخ لهذا البغي والباغي وعاقبته المنتظرة اليهود، فيقول عن المعاملة الحسنة من المسلمين لليهود، ثم بغيهم على المسلمين:

منا السخـــاء وكان الخوف قـــد هـرأه
               جـــــــاء اليهوديُّ يرجونـــــــــا فأمَّنه
سوط من الرعب مثل السيف قد وجأه
               أنـّى مشى في فجـــــاج الأرض أرّقه
والســـــوء يسكن أخراه ومبتـــــــدأه
               حيـــــاته نقــمة من بعـــــــــدها نقــم
ونحـن من حـــــاطه فيه ومن كـــلأه
               وَوَحْـدَنــــــا نحن من أهداه مأمنـــــه

     وهذا الذي يذكره الشاعر وصف لحالة اليهود في بلاد كثيرة عبر التاريخ وآخرها ما تعرضوا له في الأندلس من إبادة وتهجير مع من هجر من المسلمين إلى المغرب وإلى الدولة العثمانية، فأقاموا فيها في دعة وأمن وسلام، ولكن قابلوا المعروف بالإنكار، وكشفوا عن جلد الذئب بعد الظهور بثوب الحمل، يقول الشاعر:

حتى تفرعن والشيـــــــطان من درأه
               دار الزمان بنــــــا في غفـــــــلة وبه
كما يعيــــث بها الطاغوت والـهُـزَأة
               فسار في الأرض إعصاراً يعيث بها
والوهـــم قد طمّه والبغي قـــــد ردأه
               وجاءنـــــا مجرماً تغــــــلي سخائمه
نيــــرانه ورجــــوماً حُمِّلت وبـــــأه
               يُصْـــلي حمانـــا الذي آواه ملتجئـــاً
وسوف يصــــرعه جهراً وإن نسـأه
               إن الغـــدور له من بغيــه شــــــرك
تـذرو السوافي إلى كل الدنى نبـــأه
               غـــــداً سيقتـــــله في لمحــــة وغداً

     فهذه حالتنا مع اليهود، وإن غدا لناظره قريب.

     وحيدر الغدير مسكون بهم المسجد الأقصى وعودته إلى المسلمين، وعندما يتلاشى الأمل القريب في الواقع الذي نعيشه للأمة لا يصيبه اليأس، وينبعث الأمل لديه في الحلم ولو في سنة من النوم، وهكذا يعنون لقصيدته بـ (أمل، ص71، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها بهذه المقدمة الكاشفة عن لحظة التجربة الشعرية التي ولدت القصيدة، فيقول: "في سِنةٍ أصدق من النوم واليقظة، رأيت أمل المسلمين في عودة الأقصى عزيزاً محرراً قد تحقق، وبعض الآمال كبعض الرؤى تأتي مثل فلق الصبح".

     ويصف لنا أمل الفتح هذا أنه يطوي اليهود في فلسطين كما طواهم من قبل في خيبر وقريظة، وهو يستند إلى حديث البشارة بقتل اليهود على يد المسلمين حتى إن الحجر والشجر سينادي هذا يهودي مختبئ ورائي تعال فاقتله! وسيكون ذلك القائد مثل من سبقه من فاتحي القدس الفاروق أولا، ثم صلاح الدين ثانيا، فيقول:

أمل يضيء وبالبشـــــــائر يبــــرقُ
               جذلان يستبـــــق الخطوب فيسبــقُ
أملي الذي ملأ الجـــــوانح بهجــــة
               ومشى بما أرجو وأزهـــــــو يغدق
أني سمعــــت الثــــــأر يدعو أمتي
               فــــإذا صـداه وقد تهادى الفيـــــلق
يمضي به ويقـــــــــــوده ذو هــمة
               للنصــــر فيه أو الممات تشــــــوق
يطوي اليهود كما طوتهم خيـــــــبر
               وطوى قريظة يوم خــــانوا الخندق
حتى الحجارة سوف تصبــح عونه
               في زحفـــــه يوم اللقـــــــاء وتنطق
والموعـــد الأقصى وراية أحـــــمد
               ستجـــــوز آفــــاق السماء وتخفــق
والفـــــاتح المنصور بين جنــــوده
               بالنصــــر زاه بالوقـــــار مطــوق
عنـــــت الـيهـود لأمره وجبـــــينه
               لله عـــــان مستــــــكين مطـــــرق
وسعى له الفاروق يشــــكر صنعه
               وصـــلاح وهو بشــــاشة تتـــدفق
وتعــــانقوا فإذا الجميـــع قــــلادة
               قبل الصدور على القــــلوب تعلق
وعلا على الأقصى الأذان مظفراً
               فــــإذا العيــــون بدمعها تغرورق

     والشاعر يعيش هذا الأمل هاجسا لا يفارقه، لأنه عقيدة يؤمن بها، فهو جزء من كيانه في اليقظة والنوم، فيقول فيه أكثر من قصيدة، ويكرر ذكره في سياق قصائده الأخرى، ويرقب الفاتح الثالث للقدس، ويسميه (الثالث الميمون، ص97، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها قائلا: "إلى الثالث الميمون الذي سينقذ القدس من الاحتلال اليهودي، كما فعل من قبل الفاتحان العظيمان: عمر بن الخطاب الذي أنقذها من الاحتلال الروماني، وصلاح الدين الأيوبي الذي أنقذها من الاحتلال الصليبي. إليه وهو من ترقبه الأمة بإجلال واشتياق، وقد صار لها سري رؤاها، ونجي مناها، وحلمها الدائم" ويبحث عنه في كل مكان؛ في الأرض وفي السماء، ممتطيا أحلامه، وخواطره البيض، ومصطحبا طيوفا لا ترى من الأصحاب، فيقول مجيبا من يسأله:

وتســــــألني الأفــــــلاك عما أريــــــــده
               فأهتـــــف حتى أســـــمع الصم والبكـــما
وحتى تراني الشمس في النــــــاس حادياً
               أهـــز موات الحي والميــــــــــت قد رمَّا
أريــــد الفتى الآتي على صهـــوة الردى
               إلى القدس مثل السيف يستـــأصل الظلما
يحـــرر أقصـــــاها ويحمي ذمـــــــارها
               ويمحـــو عن التـــــاريخ والأمة الوصما
هو الثــــــالث الميمون والله صـــــــاغه
               فكان الفتى السبـــــــاق والهدي والحزما
أمانيه «محض الرشد في محض قدرة»
               ورايــــــاته الأمجاد لم تعرف الغشــــما
إليه ومنــــه اليـــوم وهج قصيــــــــدتي
               وحب إذا طــــــال انتظــــاري له أرمى

     وهكذا يجعل الشاعر قصائده إلى هذا الثالث الميمون الفاتح المنتظر للقدس، ومنه تتفجر تعابير سامية محلقة في الفضاءات العالية. ويناديه واصفا إياه سليل العلا، ويبثه ما يعيثه اليهود من فساد في القدس الطاهرة، طالبا أن يطهرها من فسادهم ورجسهم، فيقول:

سليل العلا في القدس تعبث عصبة
               على الغدر والعصيان قد نشأت قِدْما 
وفَيْنا لهم دوماً فخـــــانوا عهودنا
               وصاروا لنا حرباً وكنا لهم سلما
تداعوا إلى القدس التي نحن أهلها
               وفيهم سُعار كالجنون أو الحمى 
أتوها نفوساً كالِحـــاتٍ دميمةً
               وأفئدةً حرّى و أغربةً عُصْما
فيا ويحها تصلى بنيران بطشهم
               فأيامها شكوى وأرجاؤها كَلْمَى
تنادي علينا راعفــاتٍ جراحُها
               ألا من شجاع إن رمى سهمَه أصمى 
ونادت مع القدس الأسيرة صبية
               وطفل رضيع كابد الجوع واليتما
ونادت محاريب ونادت قوانت
               نريد خيولَ الثأرِ لا النثرَ والنظما

     ويلتفت الشاعر حوله، وينظر هنا وهناك، وتدور عيون الملهوفين، ويتراءى له قادم، فيقول الشاعر: كنه أيها الثالث الميمون منقذ القدس من اليهود:

ودارت عيون الناس تستشرف المنى 
               تسائل: أين الشهم؟ هل جــاء أم لمَّا
فكنه؛ تكن للقدس أروع مفتـــــد
               وكنه؛ تكن للقدس فارسها الشهما
وإن لنا في القدس يوماً مظـــفراً
               يكون لنا عيداً ويغدو لهم شؤما
ولا بد أن يأتي ففي الآي وعده
               وفي السنة الزهراء والنخوة العظمى 
وفيه ستعـــلو في فلسطين رايــــة
               عليها سنا التوحيد صافحت النجما 

     غير أن رفاقه ليسوا معه في الرؤية والرؤيا المباركة المتفائلة، ويستبعدون ما يتوقعه، واصفين ذلك بأنه خيال شاعر، يعيش في غير واقعه وعالمه، فيجيبهم:

يقول رفاقي: إنه حُـــلْمُ شـــاعرٍ
               فقلت: هبوه نحن من يجعل الحُلْما
حقائقَ مثلَ الشمس والناس والدنا 
               وقد شمخت هاماً وقد كرمت حِلْما 
ونحن سنبقى، واليهودُ خُرافـــةٌ
               ستمضي وتغدو مثلهم في الدنا ذما 
حقائق هذا اليوم أحلام أمسنـــــا
               وها هو حلم اليوم من غدنا أوما
يقول: غدُ الإسلام مجدٌ مظفرٌ
               سيأتي كما يأتي القضاء إذا حما

     وإذ يرد على رفاقه المثبطين فإنه يرى في حماة الأقصى، والمجاهدين في أكناف بيت المقدس إرهاصات قدوم ذلك الثالث الميمون، فيقول:

أحيي بـــــأولى القبــــلتين عصـــــــــابةً
               إذا هي قـــــالت كانت العــــمل الضخما
يبـــــاركها الله الذي بــــــــــارك الحمى
               وجلت مقـــــــادير الإله لهـــا حكـــــــما
تنادت لتحمي الأرضَ والعرضَ والهدى
               وتفدي ثرى الأقصى العزيــز وما ضمّا
على يدهـــــــا اليمنى كتـــــاب وسنــــة
               وفي يدها اليســـــرى تلاقي القنا الصما
كتـــــائب فيها ألْفُ عــــــمرٍو وخــــالدٍ
               وألــف همُـــــامٍ يأنف الذل والضيـــــما
وألف حَصَـــــانٍ تقتــــــدي بسميـــــــةٍ
               وقد عشقــــت حب الشهــــــادة أو أسما
وشيــب وشبـــــان وطفـــل وصبيـــــة
               وفيهم عنـــــاد الحر لا يعرف الســوما
على كفــــهم مقـــــلاع داود ظـــــافراً
               وداود منـــــا، نحن منـــــــه، ولا لوما

     وفي البيت الأخير يوغل الشاعر في التاريخ؛ تاريخ بين إسرائيل أنفسهم، فيجعل مقلاع أطفال الحجارة مقلاع داود عليه السلام الذي يجعله اليهود أحد أعمدة عز دولتهم في الماضي، فيقلب الشاعر عليهم الأمر ويقول: إن داود رسول حق في سلسلة مواكب الأنبياء والرسل، فهو منا ونحن منه، وهؤلاء الظالمون المعتدون ليس لهم منه شيء.

     ويأوي الشاعر إلى الراحة بعد ذلك الجدل بينه وبين رفاقه المشككين في أحلامه فتأخذ غفوة يرى فيها ما يراه من قبل، كأنه رأي العين فإذا هم؛ هم أنفسهم الثلاثة الميامين، فاتحي القدس السابقين والثالث المنتظر، فيقول مصورا رؤياه:

ومر بنا طيفٌ ملامحه الرضا
               وإن عليه من بشــــاشته بَسْما 
فقال: تأملْ ها هنـــــاك بشارة
               عليها الوعود الخضر ضاحكةً شَمَّا
تأملتها حيناً فكانت ثـــــــــلاثةً
               هم النصر لم يعرف خداعاً ولا إثما
هنا عمر الفاروق يسجد شـــاكراً
               هناك صلاح الدين بالمجد معتما
وثالثهم لم أبصر اليوم وجــــهه
               ولكنه بدر الســـــــماء إذا تمـــا
منِ الثـــالثُ الميمونُ؟ الله وحده
               سيأتي به نعمى ويأتي به رغما
أكان اسمه عمراً؟ أكان عبادةً؟
               أنا لا أسميه، فربي الذي سمى

     وهكذا نكاد نرى ما يراه الشاعر بأم أعيننا يقظة لا مناما، لقوة إحساسه بما يعتقد من قرب تحرير فلسطين والقدس والأقصى.

     وتتكرر هذه الرؤية والرؤيا لدى الشاعر في قصيدته (صباح مؤمن، ص88، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، فيقول: "رأيت فارساً من فرسان الفتح، على صهوة جواد أبيض فحملني هذه البشارة." فقد كان الشاعر في جو حزين لما يقع في القدس من عدوان اليهود، فتأتيه البشارة لتفرج همه وكربه، وتبعث الأمل بالنصر القريب، فيصور لنن الجو الذي كان فيه فيقول:

أطرقت في أسف حزيناً مَوهَنا
               والليل يمضي مثل حالي مُوهَنا
والنجم مثلي ناظري ومسامري
               أرنو له وأراه نحوي قــد رنا
والقدس أحزان تطول ثقيــلة
               تغشى الديار وأهلها والأعينا
فطيورها تشدو ولكن للشجا
               وأذانها يعلو ولكنْ محــــزنا
والمسلمون عدا عليهم وهنهم
               والوهن أفتك بالذليل من القنا

     ففي هذا الجو الكئيب الحزين الثقيل تأتيه البشارة:

ولمحت في الظلماء صهوة فارس
               يعدو فيسبق نفسـه حتى دنـــا
من أنت قلت: أخـالد أم طارق
               أم سعد أم عمرو أجبـني إننا
نهفو لمثــلك نحن حولك أمة
               طالت مواجعها وطال بها العنا
والقدس ترقب مثل سيفك ظافراً
               والناس والتاريخ يرقب والدنا
من أنت يا أغلى البشارات التي
               شمنا بها الوعد المظفر والمنى

     فيأتيه الجواب من ذلك الفارس:

فأجاب: كل المسلمين أنا همُ
               وأجاب: كلُّ الفاتحين همُ أنا
هم أرسلوني كي أزف بشارة
               لك بل لهم بل لي سناها بل لنا
النصر آت قد دنت أقــــداره
               فأجبت في لهف وطار بي الهنا
ماذا ومن ومتى وأين الملتقى
               فأجاب حيث المسلمون وهاهنا

     ويخاطب القدس في ختام قصيدته، معرفا بعنوانها: صباح مؤمن، فيقول:

يا قدس موعدنا صباح مؤمن
               يأتي به الأنجاد نضراً مؤمنا
صنعوه من نصر تزيّن بالتقى
               وتزيّنوا للقــــائه وتزيّنـــــا
هم مؤمنون ومحسنون فهل ترى
               نصراً لهم إلا نبيلاً محسـنا

     وهذه الرؤية المستبشرة لا تغادر الشاعر، ونجدها في سياق قصائد أخرى، يقول في قصيدته (غدا نأتيك يا أقصى، ص9):

سنلقى نصرنا طلقا، يعانق حسنه الحقا، ويقفو رعده البرقا
على أهداب مئذنة، وفي أوراق سوسنة، وفي إنشاد مؤمنة
وفي أحلام رابية، وفي ماء وساقية
وفي يافا، وفي عكا، وفي صفد، وفي الرملة
وفي النارنج والليمون والتفاح والفل، سقاها الطل في الليل
وفي زيد، وفي سعد، وفي حسنى، وفي لبنى
وفي الخيل التي تعدو، وفي الطير التي تشدو

      وبعد هذه الجولة في كل مكان استطاع أن يفكر به، ويستذكره يلتقي الفاتحين الثلاثة فيقول:

ونلقى الفاتح الأولْ، أبا حفص بهيبته
ونلقى الفاتح الثاني، صلاحاً في وضاءته
ونلقى الفاتح الثالثْ، فنعرفه بطلعته
وقامته التي شمخت، وسطوته، ورحمته
ونسجد كلنا شكراً، لواهب زحفنا النصرا

     ونقف في ختام تجوالنا مع الشاعر حيدر الغدير في حدائق رياضه الشعرية على أرض فلسطين، وفي ربوع القدس الشريف، وفي المسجد الأقصى المبارك؛ نقف مع أولئك النخبة الأطهر الذي اختارهم الله سبحانه تكرمة شهداء في سبيله فكتب لهم حياة دائمة إذ يظنهم الناس أمواتا، فيقول في قصيدة (الشهداء، ص74، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقد جعل إهداءها: "إلى الشهيدة السعيدة، الصغيرة الكبيرة، آيات الأخرس ومَنْ قبلها ومَنْ بعدها من أبطال فلسطين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، الذين يصنعون للأمة نصرها القادم بدمائهم الطاهرة".

أنتم الخــــالدون والأصفيــاء
               أنتــم البـــاذلون والأوفيــــاء
أنتم المفتدون أرضاً وعرضاً
               والذؤابـــات باركتها السـماء
إن أغلى ما في الحيــاة شهيد
               بردتــــاه هما السنـــا والسناء
والذي يصنـع الحيـــاة ويبني
               مجــدها باذخاً هم الشــــهداء

     والشاعر جعل قصيدته هذه للشهداء عامة، فلم يذكر فيها أسماء بعينها من فلسطين ولا غيرها، إلا أنه ربها بأرض الإسراء فقال وهو يصف جراح الشهيد:

الجراح التي عليه هتاف ... والهتاف الذي لديه دعاء
والدعاء الذي لديه براق ... والبـراق الذي له إسراء
وله من فم الزمان ثنــاء ... سطرته قصيدة عصماء

     وللشاعر وقفة مع الأم الفلسطينية التي تدفع بابنها إلى الجهاد والشهادة راضية، ثابتة الجنان، فهو يوجه إلى تحية إكبار وتقدير، ويجعل مثالا للأمهات المجاهدات اللاتي أعدن سيرة الخنساء، وخصوصا أن القصيدة في ديوان (عادت لنا الخنساء، ص79، بعنوان أودعتك الله)، يقول في إهداء القصيدة: "إلى الأم الفلسطينية البطلة التي جاء ابنها يستأذنها ويودعها قبل انطلاقه إلى عملية استشهادية، فشجعته ودعت له وربطت على قلبه، وهي في غاية السعادة والثبات، ذلك أنها على يقين أنه ذاهب ليموت فيحيا." فهو من هنا يشبهها بأسماء بنت أبي بكر الصديق، وبالخنساء رضي الله عنهما:

وأنت - واليوم صنوُ الأمس - خنساء
               بل أنت في عزة الإيمان أسمـــــاء

     ويصور موقف النساء الأخريات اللاتي لا يملكن شجاعتها ويقينها فيقول:

يركضن يسألن من هذي؟ وكيف أتت؟
               وكيف أهدت فتاها؟ أهي حمقاء؟
كلا ولـكـنـــــها أم تملّــــــــــكـها
               يقيـــــنها وهو أطيــــــاف ولألاء
فبـــــاعت الله أغلى ما حبـــاه لها
               وقـلبــها بالرضــــا مسك وأنــداء

     وهذا موقف صعب على الرجال، فضلا عن المرأة، فما بالك بالأم تدفع فلذة كبدها على الموت! يقول الشاعر في وصف موقف الوداع:

أتأذنين؟ وســــال الدمع مؤتلقـــاً
               والصمت بوح وإغماض وإغفاء
وللعيـــــون ابتــــهالات وأدعية
               وللســـرائـــر إخفــــاء وإفشـــاء
قالتْ وما نبستْ، أغضتْ وما سكتتْ
               وما عراهــن فيما قــلن إعيـــاء
والدمع يملي وللأشـــواق لهفتها
               وللســـؤال كمـــا للدمع إمــــلاء
أذنــتُ، كلا، نعم قــلـبي يحدثني
               أني سأفقـــده والخــــوف إزراء
إذن تلين قنــــاتي وهي شــامخة
               والإذن كالمنع ضــرّاء وســراء
من قــــــال أفقــده؟ إني سأربحه
               إني أذنــت ولا عَــــوْد وإبطــاء
إني أذنت، وقل لي، كيف أمنعه
               من عشقه وهو إعتاق وإرضاء؟
وَهْو الجدير بما يرجوه وَهْو فتى
               في هجـــعة النـــاس قوَّام وبَـكَّاء

     هذا الموقف المشحون بالعواطف الجياشة المتناقضة المتضاربة، تنتصر فيها الأم بعقيدتها وبإيمانها بسمو الشهادة، ومكانة الشهيد عند الله سبحانه، وترى في استشهاد ولدها ربحا لا خسارة، لذلك تأذن له راضية قائلة بلسان حالها:

يا موت خذه فتى يحمي عرينــته
               وموته عرســــه والسعــد مشّــاء
في عرسه سوف تلقوني مزغردة
               وفي يميــــني التي ربته حِنّـــــاء

     وتدعو الله سبحانه، مسمعة ولدها أنه وديعة عند الله، وعند الله لا تضيع الودائع:

أودعتـــك الله جل الله يا ولـــــدي
               والملتـــقى جنـــة زهراء غنــــاء

     وينطلق ولدها فتخر لله ساجدة شاكرة:

وخرّت الأم للرحمن ســــــاجدة
               تبكي وتضحك والحالان نعــماء
وروحها في سماوات عَلَوْنَ بـها
               وحولها الملأ الأعلى وقد جاؤوا
والطير تشدو لها والسعد توأمها
               والبشر من حولها روّاحُ غـــدّاء
قــالت: أيا رب إن ابني به ظمأ
               إلى الشهادة فهي الحلم والمـــاء
إن الشـــهادة حسناء تعشَّــــقها
               والعشــــق توق وأفراح ولأواء
يعتــــاده فهو مجنــون به كلف
               وللجنـــون ابتـهالات وإيحــــاء
ورِيُّــــه دمه ينــــــهـلُّ في مَـــرَحٍ
               على ثرى القدس والأعضاء أشلاء
هبــها له إنــــه أهــــل لهـا وبهـــا
               يساكن الطير جذلى وهي خضراء
وإن ينــــلها فإني فرحة سرحـــت
               وبســمتي كالدنى الفيحــاء فيحــاء
أمّا رضـــاك فأغلى ما نؤمـــــلـه
               وهو المنى البيض جادتهن سحّـاء

     وقد أبدع الشاعر في وصف حالة الأم التي ودعت ولدها، وما جال في خاطرها من أفكار ومعان، وما يؤمله الفتى الذي ذهب لمواجهة الموت النبيل راضيا مشتاقا.

     ويختم هذه القصيدة الرائعة بأبعادها المعنوية والنفسية، وحسن رصدها وتصويرها، مشيدا بفعلها الإيماني الذي يندر أمثاله في التاريخ، فيقول:

لله أنـــت وتبقيــــن المــدى مثــــلاً
               يروى وتتبعــــه هنــد وشيــــــماء
شجــــاعة أنت لا بل أنت أشجعنــا
               برئــت من وهننــا إذ غالنا الــــداء
والوهن موت الفتى من قبل موعده
               ومن قضـــوا في سبيل الله أحيـــاء

     وبهذا نستطيع القول: إن فلسطين عامة، والقدس والأقصى بخاصة هي في بؤرة اهتمام الشاعر حيدر الغدير، وقصائده فيها ليست قصائد مناسبات، وإنما هي تفاعل مع قضية مصيرية مقدسة لدى المسلمين، وينطلق في رؤيته للقضية التي تحولت إلى رؤى حالمة دائمة؛ ينطلق فيها من عقيدة راسخة بما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من حتمية الصراع بين المسلمين واليهود، وحتمية انتصار المسلمين، لذلك فهو لا يأبه للمثبطين، ويشد على يد المجاهدين، ويبارك مواقف المجاهدات.

     وقد تصدى في قصائده لبعض زعماء اليهود الدينيين مثل الحاخام عوفاديا يوسف، والسياسيين مثل شارون، واستقى كثيرا من الأمل بالنصر من مواقف أبطال المسلمين من الصحابة ومن بعدهم الذين عملوا على تحرير بيت المقدس، حتى موقف انتصار داود عليه السلام مع الملك طالوت جعله نصرا للمسلمين، وليس لليهود، وذلك انطلاقا من وحدة الدين الحق.

     وفي رأيي يبقى ما كتبه دون المتوقع من شاعر تمكنت القضية الفلسطينية من قلبه إلى هذا الحد، فبالتأمل في مجمل القصائد نجدها عامة، سيطرت عليها شمولية المعاني بما يمكن وصفه بالتكرار، ولم نجد قصائد في رموز القضية الفلسطينية لا مدحا وإشادة، ولا ندبا ورثاء، ولم يمر ذكرهم إلا أسماء عابرة من دون توقف وإضاءة.

     ألا يستحق عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وأحمد ياسين والرنتيسي وغيرهم قصائد مستقلة؟ وألا تستحق مدن مثل القدس، والخليل ونابلس وجنين وغزة ورفح وغيرها قصائد مستقلة؟

     إن فلسطين وما فيها ومن فيها وما مر عليها تستحق ملحمة شعرية متكاملة مستقلة على غرار ما كتبه الشاعر عدنان النحوي من ملاحم؛ ملحمة الأقصى، ملحمة القدس، وملحمة فلسطين، وملحمة جنين وغيرها. وإن الوقوف عند الصور الجزئية في أحيان كثيرة لها مدلول عميق بالإحساس بالشيء، مثل تصويره موقف الأم التي ودعت ولدها في قصيدة: أودعتك الله! في ديوانه عادت لنا الخنساء.

--------------------------
[1] هي إحدى الشهيدات الفلسطينيات.

الأكثر مشاهدة