الجمعة، 11 يونيو 2021

فلسطين في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

فلسطين في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للقضية الفلسطينية حضور قوي في وجدان كل عربي ومسلم، ولها في وجدان الشعراء والأدباء حضور آخر، حيث إنهم أقدر على التعبير عن مكنونات أنفسهم، وصياغة الوجدان الجمعي تعبيرا عن رؤية الأمة في قضاياها المصيرية. ولأن القضية الفلسطينية حية حاضرة متجددة بأحداثها المتوالية التي لم تنقطع يوما منذ ما يزيد على ستين عاما حين اغتصبت بمؤامرة دولية، فأعطى من يملك لمن لا يستحق، كما قيل.

     وحيدر الغدير بشاعريته المتألقة تجاوب مع هذه القضية، وعايش أحداثها، وسجل رؤيته، ومشاعره نحوها، وتناول عدة أمور مهمة في القضية، يعد المسجد الأقصى في الذروة منها، حتى إنه سمى أحد دواوينه: غدا نأتيك يا أقصى!

     ومن هنا أبدأ بما قاله عن الأقصى في ديوانه هذا ودواوينه الأخرى، ولنبدأ بالقصيدة التي حملت الديوان عنوانها (غدا نأتيك يا أقصى، ص 9)، حيث يعطي الأقصى عهدا بالتحرير، والخلاص من اليهود، وأن هذا الغد آت بإذن الله ومتحقق، فيقول:

لعهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا
وحلم في مآقينا
ينادينا فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى تنادينا
إلى الأقصى إلى الأقصى

     وهذا الغد الآتي مرتبط بالماضي يأخذ منه شرعيته، وأمله، ويرسم طريقه، فهو ينظر إلى معركة النصر القادمة مع اليهود من خلال معركة حطين، وغزوة خيبر، فيقول:

سنــــأتي في غـد نــــارا
وبركانـــــاً وإعصــــارا
لنصنــــــع مرة أخــرى
وقــد لاحت لنـا البشرى
بعـــــــون الله حِطيــــنـا
ونغضب غضبة كبـرى
ونصنـــع خَيبراً أخـرى
ونحمي الأرض والدينـا

     والشاعر يرسم هوية هؤلاء الآتين إلى الأقصى غدا، فهم يحملون كتاب الله في أيديهم، وموعد الغد هذا في كتاب الله الذي يحملونه، إنه وعد الآخرة الذي إذا وقع أرسل الله عبادا فجاسوا خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، إنه الوعد الذي لا مناص منه، يقول حيدر الغدير:

غداً نأتيك يا أقصى
كتاب الله في يدنا، ينادينا لموعدنا
وموعدنا صباح ظافر ضاحك
وموعدهم مساء خاسر حالك
وإن الصبح يا باغون يا عادون يا قتلة
سيأتيكم ويأتينا، ليرديكم ويبقينا، فنمضي نَعْمُرُ الدنيا، ونمضي نحرس الدينا
غدا نأتيك يا أقصى سراعاً ذادةً خُمْصا
كتائب حرة تمضي، لصون الحق والعرض، ترى التحرير كالفرض
ولا ترتد أو تحصى، ولا تعصى، تنادي أيها الأقصى
لقد جئناك سارينا، مساعيراً ميامينا، كتاب الله هادينا، وصوت الثأر حادينا
وفي اليمنى مواضينا، وفي اليسرى أمانينا
لنزرع في روابينا، وقد طهرت رياحينا
ونهدي أهلها أمناً، وزيتوناً، ونسرينا
ونسقي من بغى سماً، وزقوماً، وغسلينا
فقل: يا رب آمينا

     فهؤلاء الآتون بيدهم كتاب الله يبنون ولا يهدمون، ويزرعون ولا يحرقون، وينشرون الأمن والسلام بدلا من الخوف والرعب، يزرعون الزيتون والورود، وتصون الأرض والعرض.

     وفي ديوان (عادت لنا الخنساء قصيدة بعنوان: بل أنت يا أقصى لنا، ص 53)، يجعلها "برقية شعرية إلى المسجد الأقصى المبارك في ذكرى إحراقه" ويرى "في الأفق ملامح يوم قادم، فيه بشير ونذير، أما البشير فإنه يحمل للمسلمين أناشيد النصر، وأما النذير فإنه يحمل لليهود أصوات الناعين"، وهو يؤكد في هذه القصيدة أحقية المسلمين بالأقصى، كما أكد في قصيدته السابقة (غدا نأتيك يا أقصى) أنهم قادمون لتحرير من اليهود. ويكرر في هذه القصيدة عبارة (بل أنت يا أقصى لنا) في كل مقطع، كما كرر هناك (غدا نأتيك يا أقصى)، يقول الغدير:

بل أنت يــــا أقصى لنا ... والدهر يشــهد والسنــا
ومعـــــاهد ومســــاجد ... في القدس قد عزت بنا
وحضـــــارة ميـــمونة ... عمرت رحـابك أزمنـا
شـدنا صروح فخارها ... حسنــــاً ينافس أحسـنا
***

بل أنت يـــا أقصى لنا ... وتظل أنت الموطنـــا
للمسـلمين على المدى ... من قبــــلنا أو بعـــدنا
أمـا اليهـــــود فـــإنهم ... إفك تســــلل موهنــــا
وغداً يــــزول فإنــــه ... بالشر قـــــام وأمعنــا
***

بل أنت يـا أقصى لنا ... وتظل يـــا أقصى لنا
أما اليهــــــود فربما ... يجدون قربك مدفنــا

     فالشاعر يؤكد على أحقية المسلمين بالأقصى، أما اليهود فإنهم إفك تسللوا بغير حق، فلا بد أن يزولوا يوما، وعند ذاك قد يجدون موضعا يكون قبرا لهم أو لا يجدون.

     ويؤكد على هذه المعاني في قصيدته (يا حماة الأقصى، ص 59، من ديوان عادت لنا الخنساء)، حيث لا يمكن أن يعود الأقصى لنا، ولا يمكن أن نأتيه غدا من دون أن تقوم فئة مؤمنة مجاهدة تدافع عن الأقصى، امتثالا لأمر الله سبحانه، برد العدوان عن مساجده، والأقصى ثالث المساجد المقدسة في الإسلام، يقول الشاعر الغدير واصفا هؤلاء الحماة مناديا إياهم في بداية كل مقطع من القصيدة:


يا حماة الأقصى عليكم ســـلام
               أنتـــم السيــــف سلّه الإســـلام
وحفـــاظٌ من المروءات غـــالٍ
               ويقين فــوق المدى واعتصــام
أنتـــم الأشجعــون عقــلاً وقلباً
               ركبــــوا كل شدّة وأقـــــــاموا
       *****

يا حماة الأقصى عليكم ســـلام
               من ملايينَ لم تــزل تشـتـــــام
رادةً ذادةً فكـنـــــــتم منـــــاها
               ورجاها إذ تصــــــدق الأحلام
وطلعتم لها صقــــور اقتحـــام
               زان أحلامهــا فدىً واقتحــــام
       *****

يا حماة الأقصى وأنتـــم بروق
               صادقـــات تهمي وأنتم سهــام
فوَّقـتهـــا الأقدارُ فهي جنــــود
               ليس تخطي إذا رمت فالهــــام
أنتــــم النــور في علاه ويــوم
               سيّـــــد حيــن تذكر الأيــــــام
وليوث تحمي العرين غضاب
               ما عراهـــــا يوم الكريهـة ذام


    فهذه الأوصاف التي أضفاها الشاعر على حماة الأقصى من الإيمان والشجاعة والريادة والصدق وحملة النور هي صفات الفئة المؤمنة المجاهدة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ولذلك يطلب من سائر الأمة بلسانهم أن تعينهم في حربهم مع اليهود، فيقول:

أيهـا المســلمون لا تخذلونا
               نحن دين وإخــــــوة وذمام
انصرونا فنحن للقدس قمنا
               إنما ينصـــر الكرامَ الكرام
قد دعانــــا إليه أغلى منـادٍ
               فأجيـــبوا فإنــه الإســــلام

     وحيدر الغدير التفت في عدد من قصائده إلى الرموز اليهودية المجرمة التي تقود الحرب على الإسلام والمسلمين في فلسطين كلها، وفي القدس والأقصى بخاصة، فقول في قصيدة بعنوان (أعماك حقدك، ص 67، من ديوان عادت لنا الخنساء)، ومن هؤلاء رموز دينية مؤثرة في المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة، فوجه خطابه إلى "الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في فلسطين المحتلة لما عرف عنه من سفاهة وبذاءة، حيث سب العرب سباً قبيحاً ودعا إلى إبادتهم وقطع نسلهم"، حسب المقدمة التي وطأ بها للقصيدة، يقول الغدير:

أعماك حقـــدك أيها الحاخـــــام
               والحقـــد عند ذويه ليس ينـــــام
فهو الضنى فيــــهم وسم قاتــــل
               وسعـــار محموم الحشا وضِرام
يسطو بهم ويســــومهم ويشينهم
               فــــإذا بهم في أسره أيتـــــــــام
يتطاولون وهم أذل من الحصى
               وهم الدمى تلهــــو بها الأقــوام
ويفـــاخرون وهم عبيد ضـلاله
               ويســـــابقون وهم به أقــــــزام
ويكـــــابرون وهم بقـــايا أنفس
               محقــــورة لم يطوهن رجـــــام

     ويكرر في كل مقطع من القصيدة الشطر الأول: "أعماك حقدك أيها الحاخام "للدلالة على شدة تفاعله مع الموقف السيئ لهذا الحاخام، بما جعله يصب غضبه عله سياطا لاهبة موجعة.
     وفي قصيدة (ونحن الحق، ص 51، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقفة أخرى للشاعر حيدر الغدير مع الحاخام عوفاديا، فيوجه "برقية شعرية إلى حاخام جاهل" يقول في مقدمة القصيدة: " قال الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في المسلمين كلاماً سيئاً يمتلئ بالحقد والشر والكفر والجهل، معتمداً في ذلك على التلمود، فباح ببعض ما في صدره وما في تلموده من آثام"، ويختم قصيدته قائلا:

تأمل أيهــا الحاخــــــام دهـراً
               وتاريخــاً لكم بالإثــــم فـــاحا
لـتعــــلم أن دولتــكم ستمضي
               كحــــلم مرَّ لمحــــاً ثم راحــا
وما تبقى الزيوف وإن تمادت
               ويبقى الحق ما الإصباح لاحا
ونحن الحق يا حاخــــام نبقى
               لنــملأ هذه الدنيـــا صلاحـــا
وأمجـــــاداً مطهــرة حسـانـاً
               لبسن على وضاءتها السماحا
وأنتــــم في غد خبـــــر دميم
               يقيـــــم عليه أهلـــوكم نواحا

     وفي قصيدة بعنوان (احفر ضريحك، ص 73، من ديوان عادت لنا الخنساء)، يخاطب مجرم الحرب شارون في دولة إسرائيل المغتصبة، عندما تمادى في عدوانه على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وغيرهما، فرأى الشاعر في ذلك التمادي قرب نهاية الظالم، فاختار لقصيدته هذا العنوان اللافت للنظر، فيقول بعد أن يعدد جرائمه التي فاق بها مجرمي الحرب المشاهير في التاريخ من أمثال جنكيز خان في الشرق، ونيرون في الغرب، يخاطبه قائلا:

يا أيهــــا الغـــــرُّ الذي أزرت به
               أحـــــلامه الحمقى وهن منــــون
هلاّ أفقــــت ولن تفيـــــــق وإنما
               يصحو الفتى الميمون لا الملعون
إبليــس أورثــــك العناد بكبــــره
               فـــــإذا بك المغرور والمفتــــون
وغداً ستعنـــو للقصــــاص لأننا
               آتون كالأقــــــدار يا شــــــارون
فاحفر ضريحك كي يضمك جثة
               أوْ، لا، فإنـــــك في العرا مدفون
تـذرو بقــــاياك الريــــاح ذميمة
               وتعــــافها الحشرات حيث تكون

     وتوجه الشاعر الغدير إلى شارون بقصيدة أخرى بعنوان (الصبح موعدكم، ص 84، من ديوان عادت لنا الخنساء)، وخطاب العنوان بضمير جمع المخاطب المقصود به اليهود الإسرائيليون كلهم، وخصص فيها شارون بالخطاب لأنه هو الذي كان يقود الأعمال الحربية الإجرامية ضد غزة خاصة، يقول الشاعر مخاطبا الإسرائيليين:

الصبــح موعدكم فأين المهربُ؟
               والشرق نحن يحيطكم والمغربُ
أدمنتم الآثـــــــام وهي سخـــائم
               تعدو بكم وهي الضـلال الأكذب
في أسـرها أنتم وفي غـــمراتها
               أنـّى اتجهتــم حاضرون وغيّب
أعمت خطاكم فالجهــــالة دينكم
               تملي عليكم ما تشـــــاء وتكتـب
أنتـــم خلاصة سمّها وزيوفـــها
               وأذل من رأت القرون وأعجب

     ثم يتوجه بالخطاب إلى شارون بعد أن يصفه بأوصافه من النقيصة والغرور والفساد والمكر، فيقول:

فاستقبـــــلوا يوم الردى وتأهبوا
               شـــارون إن الظلم يقتل أهــــله
رعنـــــاء أغراها سراب خـلّب
               لمصيــــركم إذ تنطوون كفرية
تبقى لنا ولهـــا الجلال الأرحب
               والقدس مصيدة الطغاة ولحدهم
وجنــوده من كل صوب موكب
               والخـــــالد الإسلام في أعراسه

     فالشاعر في مطلع القصيدة أشار إلى الآية الكريمة التي أوعدت قوم لوط بالعذاب، فقال تعالى على لسان ملائكته مخاطبين لوطا عليه السلام، يبثون في نفسه الطمأنينة: [إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب]، وهكذا يعطينا الشاعر هذا المعنى الدلالي العميق بقرب نهاية الظالمين. وفي البيت ما قبل الآخر ذكر الشاعر القدس، وأنها مصيدة الطغاة ولحدهم، فكم غزاها من طغاة وظالمين، وآل أمرهم إلى الزوال!.

     وفي قصيدته (أيها المعتدون، ص 105، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى) يرسل الشاعر كلماته شواظا من نار على المعتدين، وعلى رأسهم شارون، وفي مقدمة نثرية يوجه قصيدته رسالة مفتوحة: "إلى شارون ومَنْ معه، ومن قبله، ومن بعده، من أعداء الدين والوطن، والأرض والعرض، والحرية والعدل، والشجر والبشر، والهواء والماء، في فلسطين المحتلة." ويقول في مطلع القصيدة:

أيها المعتدون كيف النجــــــاءُ
               نحن طلاّبكم ونحن القضــــاءُ
أنتـــم الظالمون والظلم يردي
               صــــانعيه فهم به أشقيـــــــاء
سنــــة الله منذ كانت وتبــــقى
               أنْ سيأتي مثل الصنيع الجزاء

     ويظهر الشاعر تماسك الأمة في وجه الاعتداء الصهيوني، والظلم اليهودي على فلسطين والقدس والأقصى وشعبها، ويعرب عن يقينه بزوال العدوان والظلم مهما تكبر وتجبر، فيقول:

أيها الراكضون في القدس تيهاً
               أنتــــم الواهمون والأغبيـــــاء
إنكم فلتـــــة وتمضي سريعــاً
               كالســـوافي، وفرية رعنـــــاء
وبقـــايا من الخرافــات حمقى
               زوّرتها السخــــائم الشوهـــاء
لن تظلوا في دارنـــا غير ليل
               وضحـــــاه ثم المـآل هبــــــاء

وهنا يستنجد الشاعر بالرموز التاريخية التي صنع الله سبحانه النصر على يدها فيذكر عددا من الأسماء، ويتبعها بأسماء معاصرة أيضا، فيقول:

أيهـــا المعتـــــدون نحن المنــايـا
               قـــاهرات ومـالهـــــا إبطــــــــاء
نحــن آتـــون عنــــوة واقتـــداراً
               وسيـــوفاً ظمــأى ونحن ظمـــاء
كلنــــا حمــــزة وزيــد وسعـــــد
               والمثــــنى ومصعـــب والبـــراء
والحسيـــــــنيّ يوم هـبَّ فأبــــلى
               والشهيــــد القســـــام وهو اللـواء
وعبيــــر وبســـمة وسعــــــــــاد
               وسنــــــاء وفـــــاطم ووفــــــــاء
والمصونات من ذؤابـــات قومي
               هن زهــــر المنى وهـــن العطاء
يتنـــــافسن في الثواب احتســـاباً
               مسرعات وحيـــن يدعو النــــداء
في الطريق الذي مشتـــه قـــديماً
               وهي تتـــــلو أســـماء والخنســاء
ومشته البتول «آيات»[1] جذلى
               وجُــــــــذاها الآيـــــــات والآلاء
سيـــــدٌ إثر سيـــــدٍ وفتـــــــــــاة
               إثــر أخرى ويصعب الإحصــاء

     وبذلك يرسم لوحة جميلة من صور وتاريخ هذه الأسماء العظيمة رحالا ونساء، وفتيانا وفتيات، بما يؤكد زوال دولة قتلة الأنبياء في فلسطين أرض الأنبياء.

     وفي قصيدة بعنوان (شَرَك، ص 105، من ديوان عادت لنا الخنساء) يتحدث حيدر الغدير عن البغي بصفة عامة، وعاقبته السيئة، وأن شرك لصاحبه يرديه ولو بعد، كما قدم بذلك للقصيدة. وهو في السياق يقدم المثال الواضح والصارخ لهذا البغي والباغي وعاقبته المنتظرة اليهود، فيقول عن المعاملة الحسنة من المسلمين لليهود، ثم بغيهم على المسلمين:

منا السخـــاء وكان الخوف قـــد هـرأه
               جـــــــاء اليهوديُّ يرجونـــــــــا فأمَّنه
سوط من الرعب مثل السيف قد وجأه
               أنـّى مشى في فجـــــاج الأرض أرّقه
والســـــوء يسكن أخراه ومبتـــــــدأه
               حيـــــاته نقــمة من بعـــــــــدها نقــم
ونحـن من حـــــاطه فيه ومن كـــلأه
               وَوَحْـدَنــــــا نحن من أهداه مأمنـــــه

     وهذا الذي يذكره الشاعر وصف لحالة اليهود في بلاد كثيرة عبر التاريخ وآخرها ما تعرضوا له في الأندلس من إبادة وتهجير مع من هجر من المسلمين إلى المغرب وإلى الدولة العثمانية، فأقاموا فيها في دعة وأمن وسلام، ولكن قابلوا المعروف بالإنكار، وكشفوا عن جلد الذئب بعد الظهور بثوب الحمل، يقول الشاعر:

حتى تفرعن والشيـــــــطان من درأه
               دار الزمان بنــــــا في غفـــــــلة وبه
كما يعيــــث بها الطاغوت والـهُـزَأة
               فسار في الأرض إعصاراً يعيث بها
والوهـــم قد طمّه والبغي قـــــد ردأه
               وجاءنـــــا مجرماً تغــــــلي سخائمه
نيــــرانه ورجــــوماً حُمِّلت وبـــــأه
               يُصْـــلي حمانـــا الذي آواه ملتجئـــاً
وسوف يصــــرعه جهراً وإن نسـأه
               إن الغـــدور له من بغيــه شــــــرك
تـذرو السوافي إلى كل الدنى نبـــأه
               غـــــداً سيقتـــــله في لمحــــة وغداً

     فهذه حالتنا مع اليهود، وإن غدا لناظره قريب.

     وحيدر الغدير مسكون بهم المسجد الأقصى وعودته إلى المسلمين، وعندما يتلاشى الأمل القريب في الواقع الذي نعيشه للأمة لا يصيبه اليأس، وينبعث الأمل لديه في الحلم ولو في سنة من النوم، وهكذا يعنون لقصيدته بـ (أمل، ص71، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها بهذه المقدمة الكاشفة عن لحظة التجربة الشعرية التي ولدت القصيدة، فيقول: "في سِنةٍ أصدق من النوم واليقظة، رأيت أمل المسلمين في عودة الأقصى عزيزاً محرراً قد تحقق، وبعض الآمال كبعض الرؤى تأتي مثل فلق الصبح".

     ويصف لنا أمل الفتح هذا أنه يطوي اليهود في فلسطين كما طواهم من قبل في خيبر وقريظة، وهو يستند إلى حديث البشارة بقتل اليهود على يد المسلمين حتى إن الحجر والشجر سينادي هذا يهودي مختبئ ورائي تعال فاقتله! وسيكون ذلك القائد مثل من سبقه من فاتحي القدس الفاروق أولا، ثم صلاح الدين ثانيا، فيقول:

أمل يضيء وبالبشـــــــائر يبــــرقُ
               جذلان يستبـــــق الخطوب فيسبــقُ
أملي الذي ملأ الجـــــوانح بهجــــة
               ومشى بما أرجو وأزهـــــــو يغدق
أني سمعــــت الثــــــأر يدعو أمتي
               فــــإذا صـداه وقد تهادى الفيـــــلق
يمضي به ويقـــــــــــوده ذو هــمة
               للنصــــر فيه أو الممات تشــــــوق
يطوي اليهود كما طوتهم خيـــــــبر
               وطوى قريظة يوم خــــانوا الخندق
حتى الحجارة سوف تصبــح عونه
               في زحفـــــه يوم اللقـــــــاء وتنطق
والموعـــد الأقصى وراية أحـــــمد
               ستجـــــوز آفــــاق السماء وتخفــق
والفـــــاتح المنصور بين جنــــوده
               بالنصــــر زاه بالوقـــــار مطــوق
عنـــــت الـيهـود لأمره وجبـــــينه
               لله عـــــان مستــــــكين مطـــــرق
وسعى له الفاروق يشــــكر صنعه
               وصـــلاح وهو بشــــاشة تتـــدفق
وتعــــانقوا فإذا الجميـــع قــــلادة
               قبل الصدور على القــــلوب تعلق
وعلا على الأقصى الأذان مظفراً
               فــــإذا العيــــون بدمعها تغرورق

     والشاعر يعيش هذا الأمل هاجسا لا يفارقه، لأنه عقيدة يؤمن بها، فهو جزء من كيانه في اليقظة والنوم، فيقول فيه أكثر من قصيدة، ويكرر ذكره في سياق قصائده الأخرى، ويرقب الفاتح الثالث للقدس، ويسميه (الثالث الميمون، ص97، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها قائلا: "إلى الثالث الميمون الذي سينقذ القدس من الاحتلال اليهودي، كما فعل من قبل الفاتحان العظيمان: عمر بن الخطاب الذي أنقذها من الاحتلال الروماني، وصلاح الدين الأيوبي الذي أنقذها من الاحتلال الصليبي. إليه وهو من ترقبه الأمة بإجلال واشتياق، وقد صار لها سري رؤاها، ونجي مناها، وحلمها الدائم" ويبحث عنه في كل مكان؛ في الأرض وفي السماء، ممتطيا أحلامه، وخواطره البيض، ومصطحبا طيوفا لا ترى من الأصحاب، فيقول مجيبا من يسأله:

وتســــــألني الأفــــــلاك عما أريــــــــده
               فأهتـــــف حتى أســـــمع الصم والبكـــما
وحتى تراني الشمس في النــــــاس حادياً
               أهـــز موات الحي والميــــــــــت قد رمَّا
أريــــد الفتى الآتي على صهـــوة الردى
               إلى القدس مثل السيف يستـــأصل الظلما
يحـــرر أقصـــــاها ويحمي ذمـــــــارها
               ويمحـــو عن التـــــاريخ والأمة الوصما
هو الثــــــالث الميمون والله صـــــــاغه
               فكان الفتى السبـــــــاق والهدي والحزما
أمانيه «محض الرشد في محض قدرة»
               ورايــــــاته الأمجاد لم تعرف الغشــــما
إليه ومنــــه اليـــوم وهج قصيــــــــدتي
               وحب إذا طــــــال انتظــــاري له أرمى

     وهكذا يجعل الشاعر قصائده إلى هذا الثالث الميمون الفاتح المنتظر للقدس، ومنه تتفجر تعابير سامية محلقة في الفضاءات العالية. ويناديه واصفا إياه سليل العلا، ويبثه ما يعيثه اليهود من فساد في القدس الطاهرة، طالبا أن يطهرها من فسادهم ورجسهم، فيقول:

سليل العلا في القدس تعبث عصبة
               على الغدر والعصيان قد نشأت قِدْما 
وفَيْنا لهم دوماً فخـــــانوا عهودنا
               وصاروا لنا حرباً وكنا لهم سلما
تداعوا إلى القدس التي نحن أهلها
               وفيهم سُعار كالجنون أو الحمى 
أتوها نفوساً كالِحـــاتٍ دميمةً
               وأفئدةً حرّى و أغربةً عُصْما
فيا ويحها تصلى بنيران بطشهم
               فأيامها شكوى وأرجاؤها كَلْمَى
تنادي علينا راعفــاتٍ جراحُها
               ألا من شجاع إن رمى سهمَه أصمى 
ونادت مع القدس الأسيرة صبية
               وطفل رضيع كابد الجوع واليتما
ونادت محاريب ونادت قوانت
               نريد خيولَ الثأرِ لا النثرَ والنظما

     ويلتفت الشاعر حوله، وينظر هنا وهناك، وتدور عيون الملهوفين، ويتراءى له قادم، فيقول الشاعر: كنه أيها الثالث الميمون منقذ القدس من اليهود:

ودارت عيون الناس تستشرف المنى 
               تسائل: أين الشهم؟ هل جــاء أم لمَّا
فكنه؛ تكن للقدس أروع مفتـــــد
               وكنه؛ تكن للقدس فارسها الشهما
وإن لنا في القدس يوماً مظـــفراً
               يكون لنا عيداً ويغدو لهم شؤما
ولا بد أن يأتي ففي الآي وعده
               وفي السنة الزهراء والنخوة العظمى 
وفيه ستعـــلو في فلسطين رايــــة
               عليها سنا التوحيد صافحت النجما 

     غير أن رفاقه ليسوا معه في الرؤية والرؤيا المباركة المتفائلة، ويستبعدون ما يتوقعه، واصفين ذلك بأنه خيال شاعر، يعيش في غير واقعه وعالمه، فيجيبهم:

يقول رفاقي: إنه حُـــلْمُ شـــاعرٍ
               فقلت: هبوه نحن من يجعل الحُلْما
حقائقَ مثلَ الشمس والناس والدنا 
               وقد شمخت هاماً وقد كرمت حِلْما 
ونحن سنبقى، واليهودُ خُرافـــةٌ
               ستمضي وتغدو مثلهم في الدنا ذما 
حقائق هذا اليوم أحلام أمسنـــــا
               وها هو حلم اليوم من غدنا أوما
يقول: غدُ الإسلام مجدٌ مظفرٌ
               سيأتي كما يأتي القضاء إذا حما

     وإذ يرد على رفاقه المثبطين فإنه يرى في حماة الأقصى، والمجاهدين في أكناف بيت المقدس إرهاصات قدوم ذلك الثالث الميمون، فيقول:

أحيي بـــــأولى القبــــلتين عصـــــــــابةً
               إذا هي قـــــالت كانت العــــمل الضخما
يبـــــاركها الله الذي بــــــــــارك الحمى
               وجلت مقـــــــادير الإله لهـــا حكـــــــما
تنادت لتحمي الأرضَ والعرضَ والهدى
               وتفدي ثرى الأقصى العزيــز وما ضمّا
على يدهـــــــا اليمنى كتـــــاب وسنــــة
               وفي يدها اليســـــرى تلاقي القنا الصما
كتـــــائب فيها ألْفُ عــــــمرٍو وخــــالدٍ
               وألــف همُـــــامٍ يأنف الذل والضيـــــما
وألف حَصَـــــانٍ تقتــــــدي بسميـــــــةٍ
               وقد عشقــــت حب الشهــــــادة أو أسما
وشيــب وشبـــــان وطفـــل وصبيـــــة
               وفيهم عنـــــاد الحر لا يعرف الســوما
على كفــــهم مقـــــلاع داود ظـــــافراً
               وداود منـــــا، نحن منـــــــه، ولا لوما

     وفي البيت الأخير يوغل الشاعر في التاريخ؛ تاريخ بين إسرائيل أنفسهم، فيجعل مقلاع أطفال الحجارة مقلاع داود عليه السلام الذي يجعله اليهود أحد أعمدة عز دولتهم في الماضي، فيقلب الشاعر عليهم الأمر ويقول: إن داود رسول حق في سلسلة مواكب الأنبياء والرسل، فهو منا ونحن منه، وهؤلاء الظالمون المعتدون ليس لهم منه شيء.

     ويأوي الشاعر إلى الراحة بعد ذلك الجدل بينه وبين رفاقه المشككين في أحلامه فتأخذ غفوة يرى فيها ما يراه من قبل، كأنه رأي العين فإذا هم؛ هم أنفسهم الثلاثة الميامين، فاتحي القدس السابقين والثالث المنتظر، فيقول مصورا رؤياه:

ومر بنا طيفٌ ملامحه الرضا
               وإن عليه من بشــــاشته بَسْما 
فقال: تأملْ ها هنـــــاك بشارة
               عليها الوعود الخضر ضاحكةً شَمَّا
تأملتها حيناً فكانت ثـــــــــلاثةً
               هم النصر لم يعرف خداعاً ولا إثما
هنا عمر الفاروق يسجد شـــاكراً
               هناك صلاح الدين بالمجد معتما
وثالثهم لم أبصر اليوم وجــــهه
               ولكنه بدر الســـــــماء إذا تمـــا
منِ الثـــالثُ الميمونُ؟ الله وحده
               سيأتي به نعمى ويأتي به رغما
أكان اسمه عمراً؟ أكان عبادةً؟
               أنا لا أسميه، فربي الذي سمى

     وهكذا نكاد نرى ما يراه الشاعر بأم أعيننا يقظة لا مناما، لقوة إحساسه بما يعتقد من قرب تحرير فلسطين والقدس والأقصى.

     وتتكرر هذه الرؤية والرؤيا لدى الشاعر في قصيدته (صباح مؤمن، ص88، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، فيقول: "رأيت فارساً من فرسان الفتح، على صهوة جواد أبيض فحملني هذه البشارة." فقد كان الشاعر في جو حزين لما يقع في القدس من عدوان اليهود، فتأتيه البشارة لتفرج همه وكربه، وتبعث الأمل بالنصر القريب، فيصور لنن الجو الذي كان فيه فيقول:

أطرقت في أسف حزيناً مَوهَنا
               والليل يمضي مثل حالي مُوهَنا
والنجم مثلي ناظري ومسامري
               أرنو له وأراه نحوي قــد رنا
والقدس أحزان تطول ثقيــلة
               تغشى الديار وأهلها والأعينا
فطيورها تشدو ولكن للشجا
               وأذانها يعلو ولكنْ محــــزنا
والمسلمون عدا عليهم وهنهم
               والوهن أفتك بالذليل من القنا

     ففي هذا الجو الكئيب الحزين الثقيل تأتيه البشارة:

ولمحت في الظلماء صهوة فارس
               يعدو فيسبق نفسـه حتى دنـــا
من أنت قلت: أخـالد أم طارق
               أم سعد أم عمرو أجبـني إننا
نهفو لمثــلك نحن حولك أمة
               طالت مواجعها وطال بها العنا
والقدس ترقب مثل سيفك ظافراً
               والناس والتاريخ يرقب والدنا
من أنت يا أغلى البشارات التي
               شمنا بها الوعد المظفر والمنى

     فيأتيه الجواب من ذلك الفارس:

فأجاب: كل المسلمين أنا همُ
               وأجاب: كلُّ الفاتحين همُ أنا
هم أرسلوني كي أزف بشارة
               لك بل لهم بل لي سناها بل لنا
النصر آت قد دنت أقــــداره
               فأجبت في لهف وطار بي الهنا
ماذا ومن ومتى وأين الملتقى
               فأجاب حيث المسلمون وهاهنا

     ويخاطب القدس في ختام قصيدته، معرفا بعنوانها: صباح مؤمن، فيقول:

يا قدس موعدنا صباح مؤمن
               يأتي به الأنجاد نضراً مؤمنا
صنعوه من نصر تزيّن بالتقى
               وتزيّنوا للقــــائه وتزيّنـــــا
هم مؤمنون ومحسنون فهل ترى
               نصراً لهم إلا نبيلاً محسـنا

     وهذه الرؤية المستبشرة لا تغادر الشاعر، ونجدها في سياق قصائد أخرى، يقول في قصيدته (غدا نأتيك يا أقصى، ص9):

سنلقى نصرنا طلقا، يعانق حسنه الحقا، ويقفو رعده البرقا
على أهداب مئذنة، وفي أوراق سوسنة، وفي إنشاد مؤمنة
وفي أحلام رابية، وفي ماء وساقية
وفي يافا، وفي عكا، وفي صفد، وفي الرملة
وفي النارنج والليمون والتفاح والفل، سقاها الطل في الليل
وفي زيد، وفي سعد، وفي حسنى، وفي لبنى
وفي الخيل التي تعدو، وفي الطير التي تشدو

      وبعد هذه الجولة في كل مكان استطاع أن يفكر به، ويستذكره يلتقي الفاتحين الثلاثة فيقول:

ونلقى الفاتح الأولْ، أبا حفص بهيبته
ونلقى الفاتح الثاني، صلاحاً في وضاءته
ونلقى الفاتح الثالثْ، فنعرفه بطلعته
وقامته التي شمخت، وسطوته، ورحمته
ونسجد كلنا شكراً، لواهب زحفنا النصرا

     ونقف في ختام تجوالنا مع الشاعر حيدر الغدير في حدائق رياضه الشعرية على أرض فلسطين، وفي ربوع القدس الشريف، وفي المسجد الأقصى المبارك؛ نقف مع أولئك النخبة الأطهر الذي اختارهم الله سبحانه تكرمة شهداء في سبيله فكتب لهم حياة دائمة إذ يظنهم الناس أمواتا، فيقول في قصيدة (الشهداء، ص74، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقد جعل إهداءها: "إلى الشهيدة السعيدة، الصغيرة الكبيرة، آيات الأخرس ومَنْ قبلها ومَنْ بعدها من أبطال فلسطين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، الذين يصنعون للأمة نصرها القادم بدمائهم الطاهرة".

أنتم الخــــالدون والأصفيــاء
               أنتــم البـــاذلون والأوفيــــاء
أنتم المفتدون أرضاً وعرضاً
               والذؤابـــات باركتها السـماء
إن أغلى ما في الحيــاة شهيد
               بردتــــاه هما السنـــا والسناء
والذي يصنـع الحيـــاة ويبني
               مجــدها باذخاً هم الشــــهداء

     والشاعر جعل قصيدته هذه للشهداء عامة، فلم يذكر فيها أسماء بعينها من فلسطين ولا غيرها، إلا أنه ربها بأرض الإسراء فقال وهو يصف جراح الشهيد:

الجراح التي عليه هتاف ... والهتاف الذي لديه دعاء
والدعاء الذي لديه براق ... والبـراق الذي له إسراء
وله من فم الزمان ثنــاء ... سطرته قصيدة عصماء

     وللشاعر وقفة مع الأم الفلسطينية التي تدفع بابنها إلى الجهاد والشهادة راضية، ثابتة الجنان، فهو يوجه إلى تحية إكبار وتقدير، ويجعل مثالا للأمهات المجاهدات اللاتي أعدن سيرة الخنساء، وخصوصا أن القصيدة في ديوان (عادت لنا الخنساء، ص79، بعنوان أودعتك الله)، يقول في إهداء القصيدة: "إلى الأم الفلسطينية البطلة التي جاء ابنها يستأذنها ويودعها قبل انطلاقه إلى عملية استشهادية، فشجعته ودعت له وربطت على قلبه، وهي في غاية السعادة والثبات، ذلك أنها على يقين أنه ذاهب ليموت فيحيا." فهو من هنا يشبهها بأسماء بنت أبي بكر الصديق، وبالخنساء رضي الله عنهما:

وأنت - واليوم صنوُ الأمس - خنساء
               بل أنت في عزة الإيمان أسمـــــاء

     ويصور موقف النساء الأخريات اللاتي لا يملكن شجاعتها ويقينها فيقول:

يركضن يسألن من هذي؟ وكيف أتت؟
               وكيف أهدت فتاها؟ أهي حمقاء؟
كلا ولـكـنـــــها أم تملّــــــــــكـها
               يقيـــــنها وهو أطيــــــاف ولألاء
فبـــــاعت الله أغلى ما حبـــاه لها
               وقـلبــها بالرضــــا مسك وأنــداء

     وهذا موقف صعب على الرجال، فضلا عن المرأة، فما بالك بالأم تدفع فلذة كبدها على الموت! يقول الشاعر في وصف موقف الوداع:

أتأذنين؟ وســــال الدمع مؤتلقـــاً
               والصمت بوح وإغماض وإغفاء
وللعيـــــون ابتــــهالات وأدعية
               وللســـرائـــر إخفــــاء وإفشـــاء
قالتْ وما نبستْ، أغضتْ وما سكتتْ
               وما عراهــن فيما قــلن إعيـــاء
والدمع يملي وللأشـــواق لهفتها
               وللســـؤال كمـــا للدمع إمــــلاء
أذنــتُ، كلا، نعم قــلـبي يحدثني
               أني سأفقـــده والخــــوف إزراء
إذن تلين قنــــاتي وهي شــامخة
               والإذن كالمنع ضــرّاء وســراء
من قــــــال أفقــده؟ إني سأربحه
               إني أذنــت ولا عَــــوْد وإبطــاء
إني أذنت، وقل لي، كيف أمنعه
               من عشقه وهو إعتاق وإرضاء؟
وَهْو الجدير بما يرجوه وَهْو فتى
               في هجـــعة النـــاس قوَّام وبَـكَّاء

     هذا الموقف المشحون بالعواطف الجياشة المتناقضة المتضاربة، تنتصر فيها الأم بعقيدتها وبإيمانها بسمو الشهادة، ومكانة الشهيد عند الله سبحانه، وترى في استشهاد ولدها ربحا لا خسارة، لذلك تأذن له راضية قائلة بلسان حالها:

يا موت خذه فتى يحمي عرينــته
               وموته عرســــه والسعــد مشّــاء
في عرسه سوف تلقوني مزغردة
               وفي يميــــني التي ربته حِنّـــــاء

     وتدعو الله سبحانه، مسمعة ولدها أنه وديعة عند الله، وعند الله لا تضيع الودائع:

أودعتـــك الله جل الله يا ولـــــدي
               والملتـــقى جنـــة زهراء غنــــاء

     وينطلق ولدها فتخر لله ساجدة شاكرة:

وخرّت الأم للرحمن ســــــاجدة
               تبكي وتضحك والحالان نعــماء
وروحها في سماوات عَلَوْنَ بـها
               وحولها الملأ الأعلى وقد جاؤوا
والطير تشدو لها والسعد توأمها
               والبشر من حولها روّاحُ غـــدّاء
قــالت: أيا رب إن ابني به ظمأ
               إلى الشهادة فهي الحلم والمـــاء
إن الشـــهادة حسناء تعشَّــــقها
               والعشــــق توق وأفراح ولأواء
يعتــــاده فهو مجنــون به كلف
               وللجنـــون ابتـهالات وإيحــــاء
ورِيُّــــه دمه ينــــــهـلُّ في مَـــرَحٍ
               على ثرى القدس والأعضاء أشلاء
هبــها له إنــــه أهــــل لهـا وبهـــا
               يساكن الطير جذلى وهي خضراء
وإن ينــــلها فإني فرحة سرحـــت
               وبســمتي كالدنى الفيحــاء فيحــاء
أمّا رضـــاك فأغلى ما نؤمـــــلـه
               وهو المنى البيض جادتهن سحّـاء

     وقد أبدع الشاعر في وصف حالة الأم التي ودعت ولدها، وما جال في خاطرها من أفكار ومعان، وما يؤمله الفتى الذي ذهب لمواجهة الموت النبيل راضيا مشتاقا.

     ويختم هذه القصيدة الرائعة بأبعادها المعنوية والنفسية، وحسن رصدها وتصويرها، مشيدا بفعلها الإيماني الذي يندر أمثاله في التاريخ، فيقول:

لله أنـــت وتبقيــــن المــدى مثــــلاً
               يروى وتتبعــــه هنــد وشيــــــماء
شجــــاعة أنت لا بل أنت أشجعنــا
               برئــت من وهننــا إذ غالنا الــــداء
والوهن موت الفتى من قبل موعده
               ومن قضـــوا في سبيل الله أحيـــاء

     وبهذا نستطيع القول: إن فلسطين عامة، والقدس والأقصى بخاصة هي في بؤرة اهتمام الشاعر حيدر الغدير، وقصائده فيها ليست قصائد مناسبات، وإنما هي تفاعل مع قضية مصيرية مقدسة لدى المسلمين، وينطلق في رؤيته للقضية التي تحولت إلى رؤى حالمة دائمة؛ ينطلق فيها من عقيدة راسخة بما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من حتمية الصراع بين المسلمين واليهود، وحتمية انتصار المسلمين، لذلك فهو لا يأبه للمثبطين، ويشد على يد المجاهدين، ويبارك مواقف المجاهدات.

     وقد تصدى في قصائده لبعض زعماء اليهود الدينيين مثل الحاخام عوفاديا يوسف، والسياسيين مثل شارون، واستقى كثيرا من الأمل بالنصر من مواقف أبطال المسلمين من الصحابة ومن بعدهم الذين عملوا على تحرير بيت المقدس، حتى موقف انتصار داود عليه السلام مع الملك طالوت جعله نصرا للمسلمين، وليس لليهود، وذلك انطلاقا من وحدة الدين الحق.

     وفي رأيي يبقى ما كتبه دون المتوقع من شاعر تمكنت القضية الفلسطينية من قلبه إلى هذا الحد، فبالتأمل في مجمل القصائد نجدها عامة، سيطرت عليها شمولية المعاني بما يمكن وصفه بالتكرار، ولم نجد قصائد في رموز القضية الفلسطينية لا مدحا وإشادة، ولا ندبا ورثاء، ولم يمر ذكرهم إلا أسماء عابرة من دون توقف وإضاءة.

     ألا يستحق عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وأحمد ياسين والرنتيسي وغيرهم قصائد مستقلة؟ وألا تستحق مدن مثل القدس، والخليل ونابلس وجنين وغزة ورفح وغيرها قصائد مستقلة؟

     إن فلسطين وما فيها ومن فيها وما مر عليها تستحق ملحمة شعرية متكاملة مستقلة على غرار ما كتبه الشاعر عدنان النحوي من ملاحم؛ ملحمة الأقصى، ملحمة القدس، وملحمة فلسطين، وملحمة جنين وغيرها. وإن الوقوف عند الصور الجزئية في أحيان كثيرة لها مدلول عميق بالإحساس بالشيء، مثل تصويره موقف الأم التي ودعت ولدها في قصيدة: أودعتك الله! في ديوانه عادت لنا الخنساء.

--------------------------
[1] هي إحدى الشهيدات الفلسطينيات.

الاثنين، 7 يونيو 2021

المدينة المنورة في أدب حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

المدينة المنورة في أدب حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للمدينة المنورة شأن كبير عند الشاعر حيدر الغدير، وهو مثل كل مسلم يكن لهذه المدينة الحب، ويشعر إليها بالشوق، ويمتاز عن غيره بقدرته على التعبير عن مشاعره المرهفة، وقد حدثنا بطرف من ذلك في مقاله الذي جعل عنوانه: (أربعون صلاة)[1]، فيقول: "أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق."

     ويعدد دواعي هذا الحب لدى المسلم فيقول: "هذه المدينة السخية السنية الودود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها." ويعدد بعد ذلك من هذه الأسباب: المسجد النبوي الشريف،والقبر الشريف الطاهر، والبقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين، وجبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وموقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة، وغيرها من الأماكن والذكريات ظلت تعمل عملها في قلب الشاعر ونفسه حتى جاء ذلك اليوم من موسم الحج عام 1418هـ - 1998م، الذي تأججت فيه نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أنه تذكر الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار، وبراءة من النفاق، ونجاة من العذاب[2]، فيقول:

     "وصلت إلى المدينة المنورة وقد غادرها الحجاج إلى مكة المكرمة، فكانت فرصة ثمينة أن أستمتع بحرمها الشريف دون أن أزاحم أحداً أو يزاحمني أحد، وهو ما أعانني على العبادة والتلاوة والدعاء والخلوة والمكث في الروضة الشريفة طويلاً، وزيارة القبر الشريف في هدوء ووقار يليقان بساكنه عليه أفضل الصلاة والسلام." ويحكي لنا الشاعر قصة إقامته هذه في المدينة المنورة فيقول:

     "يسّر الله تعالى لي غرفة طيبة في فندق قريب من الحرم الشريف فسررت بها كثيراً، ووضعت فيها متاعي القليل، وأخذت أرتب نفسي بحيث أفوز بالصلوات الأربعين دون انقطاع. رتبت أمور الطعام والشراب بحيث أحافظ على وضوئي فأذهب إلى الحرم الشريف وأنا هادئ مطمئن، فقللت مما أطعم، وقللت مما أشرب، وجعلت لذلك مواعيد منضبطة، ورتبت مواعيد النوم واليقظة بالاعتماد على إدارة الفندق في تنبيهي قبل الأذان بوقت كاف، وبالاعتماد على منبه كنت أضعه بجواري، وحرصت على ألا أبتعد عن الحرم لزيارة المشاهد أو قباء أو الأصدقاء إلا في الضحى أو بعد صلاة العشاء حيث في الوقت سعة، ثم إني توجهت إلى الله تعالى بقلب منكسر أن يعينني على الظفر بالصلوات الأربعين بعد أن أخذت بالأسباب".

     ولحرصه على عدم الانقطاع، وخشيته أن يقع ذلك منه سهواً أو نسياناً كان دائم القلق حتى إنه كان يتوهم أحياناً فوات الوقت، ويحدثنا عن ذلك قائلاً: "ولا أزال أذكر كيف كنت أستيقظ في الليل أحياناً عدة مرات متوهماً أن الوقت أزف، وأن إدارة الفندق نسيت أن توقظني، وأن المنبه قد خذلني. ولكن عون الله تعالى ظل يمدني بالقوة حتى ظفرت بالصلوات الأربعين".

     ويبلغ منه القلق ذروته في الصلاة الأخيرة التي وافقت صلاة العصر، فيقول: "ولعله من الطريف أن أذكر أنني خلال أدائي للصلاة الأخيرة، وكانت صلاة عصر ظل فيّ شعورا الفرحة والقلق معاً حتى إذا سلم الإمام وسلمت معه ذهب القلق واتسعت الفرحة فوجدتني أسجد لله تعالى سجدة شكر بكل كياني على وافر فضله وكريم هباته، ولقد كان لهذه السجدة من السرور والرضوان واليقين والسكينة ما جعلها حالة متفردة لا تكاد تنسى".

     وحيدر الغدير في حبه للمدينة النبوية يصل درجة من الاندماج بالطبيعة من حوله، فيشركها معه في مشاعره شأن الرومانسيين، ويصف لنا تلك اللحظات السامية من ساعة الوداع في لحظة مناجاة بينه وبين ربه فيقول: "حين عزمت على مغادرة المدينة المنورة في اليوم التالي للفوز بالصلوات الأربعين ذهبت إلى الحرم الشريف مودعاً، فصليت فيه ركعتين تحية له، ثم ذهبت إلى القبر الشريف فزرته وزرت قبر الصاحبين، ثم انتحيت مكاناً هادئاً في الحرم فدعوت الله تعالى أن يتقبل مني ما فعلت وأن ييسر لي العود، ثم العود بكرمه وفضله، ووقع في قلبي أنني قد ظفرت بالقبول."

     ويصور لنا إرهاصات هذا القبول من الطبيعة حوله، فيقول: "خرجت من الحرم الشريف سعيداً نشيطاً، فلفحت وجهي نسمات حارة ما لبث أن أعقبها تيار من الهواء يسوق الغيم بأمر ربه، وإذا بهذا الغيم يرسل مطراً خفيفاً يلطف الجو، ويغسل الطريق، ويبلل الملابس، وينعش النفس. ولقد زاد هذا المطر من سعادتي حيث وجدت فيه أمارة على الظفر بالقبول؛ فالمطر رحمة، والزمان شريف، والمكان شريف، والحال طيبة، عندها وجدت قلبي يهتف وهو عامر باليقين: إنها بشرى القبول، إنها بشرى القبول!!".

     وها هو ذا في ختام مقاله (أربعون صلاة) يعبر عن لحظات الوداع تلك فيقول:

     "فعليك السلام أيتها المنوَّرة المنوِّرة، وأعادني الله عز وجل إليك في أربعينات أخرى، وهيأ لي مثل ذلك في الحرم المكي الشريف وفي المسجد الأقصى بعد تحريره الذي لابد أن يأتي بإذن الله، وتقبل مني نيتي وعملي، وصحح مني سري وعلني، وأكرمني بحسن الخاتمة"[3].

     هل كان للمدينة المنورة أن تنال مكانتها في قلوب المسلمين بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ سؤال لا يحتاج جوابا لبداهته، فلولا هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وكونها عاصمة الإسلام الأولى لكانت مدينة كسائر مدن العالم الأخرى، من هنا فإن أي حديث عن المدينة يستدعي بالضرورة الحديث عن ساكنها وساكنيها من الرسول وصحبه الكرام رضي الله عنهم، وآثارهم وذكرياتهم، وأثر ذلك في نفس الشاعر حيدر الغدير الذي آلمه أن يتعرض الرسول الأعظم لأذى الكفار والمشركين المعاصرين كما تعرض لأذاهم من قبل، وإذا كان حسان وكعب وابن رواحة وغيرهم من شعراء المدينة آنذاك دافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انبرى شعراء المسلمين في مختلف البلاد الإسلامية يدافعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدفعون عنه أذى سفهاء الدانمارك[4] وغيرها، وشاعرنا حيدر الغدير من هؤلاء الشعراء الذين فدوا رسول الله بالنفيس والغالي، فلنستمع إليه يقول: من قصيدته أبا الزَّهراء[5]:

فداؤك قبل قافيتي الجَنانُ ... وقبل السيف روحي والبيانُ

     ويرى في الرسول النور الباقي مدى الدهر فيقول:

ستبقى النورَ ما بقي الزمانُ ... وما زان الرياضَ الأقحوانُ
وما طلعت على الآفاق شمسٌ ... وما صدح المؤذنُ والأذانُ

     أما شانئو الرسول فإنهم إلى زوال، ولن يبقى لهم ولظلامهم من أثر إذا طلع الصباح، فيقول:

وأما شــــانئوك فهم بغـــــــاثٌ ... وفريـــة أحمقٍ هانت وهـــانوا
ستــطويهم ضــلالتهم ليغــدوا ... نفايــــاتٍ يطــــاردهـا اللِّعـانُ
إذا طلع الصبــــاح فلن يراهم ... فهــــمْ وهمٌ تبـــــدد أو دخــانُ
وإن سأل الأنـــامُ الدهرَ عنهم ... أجاب شرذم كانوا فحانوا[6]

     ويخاطب الشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنيا إياه (أبا الزهراء) مضمنا قصيدته شطرا من بائية أحمد شوقي، ويرى نفسه أقل من يقوم بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي لفتة تأخذنا إلى أعماق الشاعر وإحساسه نحو عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتواضعه في ذات نفسه، وأن الوقوف في صف نصرته صلى الله عليه وسلم واجب بكل ما يمكن للمسلم القيام به، وهو يقتدي بذلك بسلفه الصالح من الأمة الإسلامية، فيقول:

(أبا الزهراء قد جاوزت قـدري)
               غداة دعتنيَ الحرب العَـــــــوانُ
لنصرك فانتضيتُ دمي وروحي
               وطرتُ أقول: لا عاش الجبـــانُ
وقبـــلي معشر كرُموا وجـــــلّوا
               هــم الخيــــل العِرابُ ولا حِرانُ
وأمتــــــك الولود وأفتــــــديهـــا
               يسيـــــــر بها إلى السبق الرهانُ
ومن كانت حميـــــتهم مَضــــاءً
               فزانتـــــهم وزانـــــــوها فكانـوا

     ويعود إلى نفسه مرة أخرى ليرى أن ما قدمه من كلمات في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي دون ما يأمله، وأنى تبلغ كلماته مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أصاب بها الأمُنْيَة فإن لآلئها هبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا جيشان قلبه وروحه بالمعاني السامية التي نبعت من معنى النبوة والرسالة المحمدية ما انتظمت تلك الكلمات الحسان في سلك القبول والاستحسان، يقول حيدر الغدير:

أبا الزهراء دونك كل قولٍ
               فلي عذري إذا عجز البيانُ
وإن حسُن القصيد فأنت مُهدٍ
               لآلئه وهن مُنىً حِسانُ
كتبتُ قصيدتي بدمي وروحي
               وكان القلب يملي لا اللسانُ
وكان مدادها غضبي وحبي
               ودمعي، والوفاء ليَ امتحانُ
وكنتُ بها معنَّىً مستهاماً
               شغوفاً وهي عني الترجمانُ
عساي أنا لها في الحشر ذخراً
               يكون ليَ الشفيعَ فلا أدانُ

     ويكشف الشاعر عن مادة قصيدته ومدادها التي صاغها منها فإذا هي: دمه وروحه وقلبه، وغضبه وحبه، ودمعه ووفاؤه، وشوقه وشغفه، وهو إذ يبذل وسعه فإنه ينظر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، يرجو بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم هو أحوج ما يكون فيه إلى عمل صالح ذخر له في صحيفة أعماله.

     ومثل أربعين صلاة التي سبق الحديث عنها يزور الشاعر المدينة فيقيم فيها أياما همه الأول فيها ألا تفوته صلاة في المسجد النبوي يقول عن هذه الزيارة في تقديم قصيدته التي بعنوان (بقيت مُنْيَة)[7]: "أكرمني الله تعالى بعشرة أيام في المدينة المنورة، لم تفتني فيها صلاة واحدة في حرمها الشريف. إنها نعمة لا تقدر بثمن." ويترجم مشاعره وأحاسيسه الإيمانية وحبه العميق فيقول:

سكنت طيبة فؤادي فأضحى
               حيث ولّى بحبها مُسْتهاما
فهي فيه أشواقه زاهياتٍ
               يرتدين العفاف والإسلاما
جئتها ألبس الخشوع المصفّى
               مثلما يلبس الفتى الإحراما

     هذا الاندماج الروحي بين الشاعر وطيبة يشاركه الطبيعة حوله، فها هو الغمام يسكب غيثه قرى للشاعر، ويا له من قرى! فيقول:
جئتها للقِرى فكان قراها
               ديمةً بلّت الثرى والأُواما
أغرقتني بجودها جعلتني
               فرحة جابت المدى والغماما
فهي تسقي أكوابها تتوالى
               يتنافسن روعة وانتظاما
وخوان النبيل يبقى نبيلاً
               وعطايا الكرام تبقى كراما

     وكما يندمج الشاعر والطبيعة من حوله تندمج المعاني، فيكاد يختلط الأمر علينا بين القرى الحسي المادي، والقرى الروحي، فما هي تلك الأكواب التي تتوالى؟ وما ذلك الخوان الذي مده له النبيل الكريم!؟ إنه الإحساس بالشبع الروحي، والري الوجداني العميق، يقول:

أتراني أنسى لها ما حبتني
               وهو سَيْبٌ أفضاله تتنامى
لا وربي فـــإن فيّ وفاءً
               أُشْرِبته الضلوع جاماً فجاما

     وهذا منه شكر النبيل الكريم الذي أكرمه، وحباه بسيب أفضاله. ويبدو أن هذه الأيام العشرة هي التي صلى فيها أربعين صلاة في المسجد النبوي، وكتب عنها مقالته: أربعون صلاة في كتابه: "صلاة في الحمراء: التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال.

     لكن الشاعر حيدر الغدير الذي زار المدينة مرة بعد أخرى، وأقام فيها مدة من الزمن بقي متعلقا بطيبة بأمُنْيَة أخيرة يرجو تحققها، ولعلها أمُنْيَة كثير من المؤمنين المحبين لطيبة لأجل من طابت به صلى الله عليه وسلم، إنه يتمنى أن تكون مقامه الدائم في رحلته الكبرى، أن يضم البقيع جسده، ملفعا بعفو الله سبحانه وتعالى، فيقول:

بقيت منية تجول بصدري
               أن يكون البقيع فيها مقاما
حينما أنطوي فيغدو ثراه
               شارةً للرضا ويغدو وساما
وأرى العفو سابغاً يتهادى
               والبشارات تسبق الإكراما

     أما إن فاتته هذه الأمُنْيَة الغالية الأخيرة، إذ لا تدري نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت! فإن عزاءه أن روحه ساكنه هناك في البقيع وإن غدا جسده رماما، فيقول:

وإذا فاتني البقيع فروحي
               في سناه وإن غدوت رِماما

     إن تلك الأمُنْيَة التي بقي الشاعر الغدير متعلقا بها، تجعلنا ننظر إليه رجلا قد شمر للرحيل فأسرج فرسه، وجمع شتاته، وهذا يبدو لنا في قصيدته الأخرى التي عنوانها: (جل المتاب)[8] فنجده يقدم لها بما يؤكد هذا الشعور لدى قارئ قصائده هذه، يقول: "أكرمتني المدينة المنورة وهي دار الهجرة، ومأرز الإيمان، وموئل الجود، ومثوى الرسول الأعظم e، فاستضافتني أياماً لا تنسى، اجتهدت فيها أن أفوز بتوبة نصوح، وعساي ظفرت!" ونقول معه: عساه ظفر، وعسانا ظفرنا بمثل ما ظفر به!

     ونجده في هذه القصيدة يعبر عن حبه للمدينة بطريقة جديدة، ففرحته فرحة طفل في العيد، وهو يتغنى بحبه لمدينة غناء يخرج بها عن المعتاد، فإذا كل ما حوله يتجاوب بغنائه وتغريده وإنشاده، فتزهر أغاريده مثل الربا، فيقول:

غنيت في حبها أحلى أناشيــــدي
               وأزهرت كالربـــا فيها أغاريدي
أتيــــتها خطوتي قلبي وباصرتي
               وفرحتي فرحة الأطفال في العيد

      وتشتد فرحته عندما يدخل الروضة الشريفة، فيرى جموع المتعبدين كل قد علم صلاته وتسبيحه، فتأخذه نشوة الشعور الإيماني، ويهتز وجداً وفرحاً فيعبر عن شدة فرحته بأسلوب التعجب من نفسه، فيقول واصفاً هذا المشهد الإيماني:


يا فرحتي حينما عاينت روضتها
               تختــال في بردة الإيمان والجود
النـــاس فيها من النعــماء كوكبة
               تدور ما بين تهليـــــل وتمجيـــد
وللتراتيــــــل أصـــــداء مطيبة
               كأنها بيـــــنهم مزمــــار داوود
وللأذان امتـــــــدادات منـــورة
               وديمة في الجبــــال الشم والبيد

     ويدخل الشاعر حيدر الغدير بين جموع المؤمنين المبتهلين إلى الله الغفور الرحيم في الروضة الشريفة، ويقبل على ربه راجياً أن يقبله ويتوب عليه، ويتملكه الإحساس بالقرب والقبول من الرضا النفسي، والسمو الروحي، والطمأنينة الإيمانية، فيصف لنا بعض ما استطاع وصفه منها فيقول:

جل المتـــــــاب وجل الله قــــــــابله
               وجل منه عطـــــاء غير محـــــدود
أبدلت بالخوف أمنــاً والأسى فرحاً
               والعسر يسراً إذ الرحمن مقصودي
جعــــلته غــــايتي أسعى لها كـلفـاً
               فعـــــدت منه برضوان وتســــديد
حتى الخطايــــا التي ناءت بكلكلها
               عليّ مثــــل أفـــــــاع فوق مزؤود
غدون بالعفـــــو إحســـاناً وتكرمة
               فهن أوسمة للفـــــوز في جيــــدي

     إنها لحظات إيمانية ترتسم في أقدس بقعة على الأرض في قلب المسجد النبوي في الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة.

     ولكن حيدر الغدير وقد انتهت مدة زيارته إلى المدينة يغادرها بجسمه ويترك فيها روحه ومشاعره وأحاسيسه ويعبر عن ذلك في مقدمة قصيدته: (حان الوداع)[9] فيقول: "أمضيت في طيبة أياماً كأنها الجنة، ثم ودعتها وأنا ظامئ." فكيف يودع الجنة من دخلها!؟ فيقول مصوراً لحظة الورود أولاً:

أتيــــتُ طيبةَ مثل الطائر الغـــــرِد
               أرجو البراءة من إثمي ومن كمدي
وأغســـل العمر مما شـــان رحلته
               من حمأة السوء أو من صولة اللدد
أومتْ إليّ فأغرتني فطرتُ لهـــــا
               على جنــاحين من توق ومن رشـد
عُلِّقتُها فغــــــدوتُ المرءَ ذا ظفـــر
               لمّـــــا رآها تمنّى فارتقى فَهُــــدِي

     هذا الشاعر الذي أتى طيبة طائراً غرداً، راجياً البراءة والطهارة والعفو من الله سبحانه، وجد فيه بغيته، أو جل بغيته، فتعلق بها تعلق الظافر بما أراد، وحق له ذلك! فقد أقام كما قال عشرة أيام حافلة بكل ما يستمتع به المؤمن العابد المتبتل من الطمأنينة بذكر الله من صلاة ودعاء وقراءة قرآن، وتفكر وتدبر، ثم حان الوداع، حان وقت الخروج من هذا الجنة الروحية، فكيف خرج حيدر الغدير، وماذا قال في لحظة الوداع!؟

حان الوداع فكنت المرءَ تسكنه
               بلابل الحزن من دانٍ ومبتـــعد
يلمنني قائـــــلاتٍ فِيمَ تتـــركها
               وطيبةُ المــاءُ سيّالاً وأنت صَد
وأنت كالطير كان المـاءُ بغيتَه
               حتى إذا جــاءه عجلانَ لم يَرد
أطلْ بطيبةَ مكثــــاً فهي حانية
               والعمر يلهث بين السعد والنكد
وقد تعــود، وقدْ لا، والدنا سفر
               سمعتهن ففتّ القولُ في عضدي

     فقد دخل في صراع مع نفسه، بين إقدام وإحجام، يوازن فيهما بين الربح والخسارة، فقد كان يبحث عن هذه السعادة فوجدها، فكيف يتركها؟ وخصوصاً أن ما مضى من العمر أكثر مما بقي، ثم إنه قد يعود مرة أخرى، وقد لا يستطيع، وخيم عليه الحزن العميق في لحظة الفراق، يغالب عينه أن تسكب أمام الصحب ما يكشف سره، فيستعصم بحبل الصبر، ولو بكى لم يلمه أحد، فيقول واصفاً حالته في تلك اللحظات:

أطرقت في خجــــلٍ مفضٍ إلى وجل
               وكدت أبكي، ولمْ، فالصبْر لي سندي
وللمـــــدامع أســــــــواط ورب فتىً
               جَــــــلْدٍ ويبكي وإن عــانى ولم يُرد
وربما ابتســـم المحــزون وهو شَجٍ
               وربما انهـــل دمع الفـــارس الحرد

     وعاش لحظات من التناقض بين الظاهر المبتسم، والباطن الذي يتأجج بنار الحزن ولوعة الفراق لأحب مكان، يسكن فيه أحب الناس طرًّا إليه، على أمل العودة، فيخاطب طيبة خطاب الراجي الآمل، ويأخذ منه الجواب أن من صدق النية تحققت له الأمُنْيَة، يقول:

يا طيــبة الخير هل لي العَوْدُ ثانيةً
               قالت - وصدّقتها - كن صادقاً تَعُد

     أما قصيدته (وساد)[10] فهي رجع صدى لقصيدته (بقيت مُنْيَة) التي عبر فيها أنه وقد حقق كل أو جل ما كان يأمله من زيارة المدينة المنورة، فإنه يتمنى أن يكون موته فيها، وهي أمُنْيَة مشروعة للمؤمن، وعنوان قصيدته (وساد) يشي بمجرد قراءته في هذا السياق: المدينة المنورة، وطيبة، وتوبة، والبقيع، أنه يرمي إلى تلك الأمُنْيَة التي بقيت..! يقول في مقدمة القصيدة: "زرت البقيع مرات لا أحصيها، لكن هذه القصيدة جاءت في الرياض، والبقيع بعيد مني مكاناً، قريب شعوراً."

     وبتصريح الشاعر أن القصيدة قيلت في الرياض بعد رجوعه من تلك الرحلة الموفقة المليئة بالهبات والعطايا الربانية الروحية في أعماقه، بهذا التصريح يؤكد ما قلته أنها رجع الصدى لقصيدة (بقيت مُنْيَة)، وما قاله في المقطع الأخير من قصيدته (حان الوداع) من تعلقه الشديد بطيبة، وعزمه على العودة، فلنستمع إليه وهو يحاور ثرى البقيع في عالمه الروحي الإيماني:

سألتُ ثــرى البقيع وقد أتينا
               حماه وهَـشَّ في صمتٍ إلينا
نسيــــرُ إليه خاشعـةً خطانا
               كأنــا للمســـــــاجد قد أوينا
وقد طابتْ مرابعـه اللواتي
               هي الأم التي تحنـــو علينا
نحـــدّثها فتفهمنـا ونصغي
               لهـــا فتبوح إيماء وعيـــنا
وما فاهت وما فهنـا بشيء
               ولكنــــا فهمنــــا وارتوينا

     إذا كان الشاعر الغدير وثرى البقيع قد فهم كل منهما ما قاله الآخر إيماءً وعيناً، من دون أن ينبس أحدهما بكلمة، فهل يا ترى فهمنا نحن من هذين الحكيمين ما أرادا، وهل استطعنا مشاركتهما في مشاعرهما؟ أغلب الظن أنْ نعم! لقد طلب الشاعر من ثرى البقيع موضعاً يكون وسادة لرأسه في مستقره الأخير في هذه الحياة! وأجاب ثرى البقيع أنه لا ما نع لديه في استقبال محب مثله، غير أن الأمر فيه ليس إليه، فما تدري نفس بأي أرض تموت!.

     ولنستمع إلى ما قاله الشاعر لنعرف أننا لم نبعد الفهم عنهما، يقول معبراً على لسان ثرى البقيع:

لقـد سكنتْ كرامُ الخــلق عندي
               ومَنْ مثـــل الصحابة قلْ وأينـا
تبـــارتْ في مودتهم رحـــابي
               وقـد أبصرنهـا شرفـاً ودَيْنــــا
ترابي المسك بل أعلى وأغلى
               يقـــول الساكنــون به اكتفينــا
فقبّـــــله وأسكنـــــه المــــآقي
               ودع ليلى الحصان ودع بثيـنا
ترابي فـــــاتحٌ عفٌ وتــــــالٍ
               ومَنْ أنجبــــن سعداً والحسينا
أنا الأرض الطهور فكن حفيًّا
               إذا ما جئـــتها وامش الهوينى
لقــــد أهدى المكـارم لي نبيٌ
               سحــائبَ ما ونين وما انتهينا

     فقال الشاعر مجيباً:

فقلت له وعمري في انقضاء
               وقد أبصرتُ بي وهنــاً وأينا
غداً آتيك هبْ لي فيــك ركناً
               فـــإن لنا وإن لم نرض حَيْنا

     أما ثرى البقيع:

فقال بلغتَ سؤلك يا صديقي
               تخيّـــرْ ما تشاء إذا التقيــــنا

     ويبلغ الشاعر في قصيدته هذه ذروة الحميمية مع تلك الأمُنْيَة التي يهرب منها كثير من الناس، ويقلقون من لحظات استقبالها وحلولها، بينما نرى في هذا الموقف الشاعر حيدر الغدير يحاور صديقاً عزيزاً محبوباً لديه، يتخاطب بالإشارة تارةً وبالعبارة أخرى، وينصرف وقد أخذ وعداً أن ينال موضعاً يتوسده في نومته الطويلة! فهل يا ترى إذا تجرأنا وطلبنا إليه أن يشفع لنا عند صديقه بأن يعطينا وعداً مثل الذي أعطاه إياه، هل يفعل!؟

     ونقف مع أنشودته عن طيبة بعنوان: (يا شذا طيبة)[11]، والتي قدم لها قائلاً: "إذا جئت طيبة حيّاك شذاها، وهو سكينة راضية، وأفراح من نور، وصفاء ممتد، ولا غرابة! ففيها سيد البشر، وكرام الصحابة، ومعالم التاريخ المجيد."

     ويتغنى فيها بطيبة ومعالمها ومآثرها، في ثماني مقاطع يتألف كل مقطع من خمسة أشطر، يقول في مطلعها:

يا شــــذا طيبة يا أغلى شــــــــذا ... حبــــذا ريّـــــــاك فينـــــا حبــذا
أنت للمســـــــلم نعــــــــــماه إذا ... جاء يرجو الرفد أو يشكو الأذى
والأمــاني موعـــــــد في ذا وذا

     ويذكر بعض الأماكن المشهورة في المدينة فيقول:

فيــــك سلع عز جـاراً والعقيقْ ... بين شطيــــه صـديق وصديقْ
يغنـمان الأنس والأنس رحيق ... وَهْو بالخــــلوة والطهر خليق
وهو للأسرار كالبحـر العميق

     ويختم أنشودته بالإشارة إلى ما سبق أن عبر عنه من أمُنْيَة فيقول:

يا شذا طيبة إن جئـت الحمى ... طالباً منه ومنــــك المغنـــما
أجزلا لي الرفـــد يأتيني كما ... يفعل الأجواد كي أحظى بما
عشت أرجوه مشوقاً مسـلما

     وفي رأيي أن لدى الشاعر سببين يدعوانه للإلحاح في بلوغ أمنيته أن يوسد في ثرى البقيع، الأول - كما قال هو- أن كل مسلم لديه هذا الحب للمدينة، وهذه الرغبة في أن يموت ويدفن في البقيع، وهذه عقيدة لدى المسلمين عامة وخاصة، وإن كانوا يعلمون أن هذا لن يتحقق لكل أحد، لكن هذا العلم لا يمنع الدعاء بذلك وطلبه.

     والثاني خاص إذ رأى الشاعر عدداً من أحبابه وأصدقائه وأحبابه يدفنون في البقيع من دون أن يسبق ذلك إرهاصات، أو إصرار وسعي منهم، ومن هؤلاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري الذي ولد في حلب، وعاش في بلاد متباعدة من جدة في السعودية، إلى كراتشي في باكستان، إلى الرباط وشاطئ الهرهورة في المغرب، إلى تنويمه في المستشفى بالرياض، ثم إذا به يدفن في البقيع حيث يتمنى شاعرنا موضعاً لوساده!! وهو قريب من الأميري، ولا أشك أن مثل هذا الحدث قد عمل عمله في نفسه فبات يلح على تحقق هذه الأمُنْيَة.

     وقد سجل وفاة الأميري ودفنه في البقيع في قصيدة الرثاء التي حملت عنوانا دالا لما نحن فيه من البحث عن عوامل تأجج هذه الرغبة لديه، وهو (نم في البقيع)[12]، ويقول فيها مخاطباً الشاعر عمر بهاء الدين الأميري

أأبا البراء وأنت رائد عصبـــة
               وحداء قــــــافلة تغذّ وتعنـــــق
سارت على حد السيوف كتائباً
               للحق ترنو والأصــــالة تعشق
نم في جوار الأكرمين يحفــهم
               ويحفك الرضوان والإستبـرق

     فقوله: (نم في جوار الأكرمين..) يبين لنا نظرة الشاعر إلى هذه البقعة المباركة، وهي ترشحه أن يغبط أستاذه وحبيبه في هذه النومة بجانب الأكرمين محفوفاً بالرضوان والإستبرق إن شاء الله.

     ويصرح باسم البقيع في آخر القصيدة قائلاً في معنى البيت السابق نفسه:

نم في البقيع جوار جدك هانئاً
               وإزاءك الأبــــرار فيه تحلقوا

     ولو نظرنا إلى تواريخ هذه القصائد لوجدنا دلالة أكبر لصحة هذا الرأي، فإن قصيدة (نم في البقيع) في رثاء عمر الأميري، قالها في عام 1412هـ/ 1992م، وبعدها حديثه عن أربعين صلاة في عام 1418هـ/ 1998م، وتأتي قصيدة (بقيت مُنْيَة) في 18/ 10/ 1423هـ، الموافق 22/ 12/ 2002م، وبعدها بشهر كتب قصيدته (جل المتاب) في 19/ 11/ 1423هـ، الموافق 22/ 1/ 2003م، وتأتي قصيدة (حان الوداع) في 6/ 5/ 1425هـ، الموافق 20/ 9/ 2004م، وبعدها بسبعة أشهر تقريباً كتب قصيدته (وساد) في 13/ 1/ 1426هـ، الموافق 23/ 2/ 2005م، ويكتب بعد خمسة أشهر تقريباً أنشودته (يا شذا طيبة) في 20/ 6/ 1426هـ، الموافق 26/ 7/ 2005م، وبعد ستة أشهر أخرى أيضا كتب قصيدته (أبا الزهراء) في الدفاع والمنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     ويتأكد لي من هذا التتبع الرأيُ الذي ذهبت إليه في تأثره بدفن الشاعر عمر بهاء الدين الأميري في ثرى البقيع في المدينة، فكان إذا زار المدينة تحرك لديه هذا الشعور الخاص المبني على اللهفة لدى كل مسلم في أن يكون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه والصالحين من ساكني (جنة البقيع) كما هو شائع في كثير من بلاد المسلمين، ونلاحظ تقارب الإحساس بهذا الشعور، وارتفاع وتيرة التعبير عنها نثراً وشعراً بشكل مطّرد لتأخذ في المرحلة الأخيرة قصيدة كل ستة أشهر، وأحيانا كل شهر! ولا شك أن عامل تقدم السن له تأثيره في هذا الاتجاه أيضاً.

     ويبقى لدي السؤال: لماذا لم يكتب حيدر الغدير قصائد في مدة إقامته بالمدينة المنورة؟ ولماذا غابت كثير من المعالم المهمة عن شعره رغم هذا الارتباط الروحي العميق، وهذه المعايشة النفسية إلى درجة التماهي!؟

     أحد وما فيه وما حوله وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أحد: "هذا جبل يحبنا ونحبه"[13]؛ ألا يستحق قصيدة؟

     قباء وذكرياته وزيارة الرسول إياه راكباً وماشياً[14] ألا يستحق قصيدة؟

     مسجد القبلتين ودلالته في ارتباط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام، وأثر ذلك في حياتنا المعاصرة؛ ألا يستحق قصيدة؟

     سلع المعلم الذي لا يغيب عن قصيدة من قصائد المديح القديمة وارتباطه بالخندق؛ ألا يستحق قصيدة؟

إن في المدينة المنورة ذكرياتٍ كثيرةً مثيرةً لمشاعر المسلم وأشواقه وحنينه، فما بالك بشاعر مرهف الإحساس، دقيق الرصد، لما يعتلج في فؤاده من الحب العميق للرسول صلى الله عليه وصحبه من المهاجرين والأنصار ولطيبة التي طابت بهم[15]!؟

------------------------------------

[1] كتاب صلاة في الحمراء، ص 62، حيدر الغدير، نشر مكتبة التوبة، ط1، الرياض، 1432هـ -2011م.
[2] قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار ونجاة من العذاب وبرئ من النفاق". رواه الإمام أحمد في مسنده.
[3] كتاب صلاة في الحمراء، مقال: أربعون صلاة، ص66.
[4] الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: هي رسوم قامت صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية بنشرها في 30 سبتمبر 2005 ، حيث نشرت 12 صورة كاريكاتيرية، وفي 10 يناير 2006 قامت الصحيفة النرويجية Magazinet، والصحيفة الألمانية دي فيلت، والصحيفة الفرنسية France Soir ، وصحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر تلك الصور الكاريكاتيرية. واستنكر العالم الإسلامي ذلك، ومنهم شاعرنا. انظر:. https://ar.wikipedia.org/wiki/
[5] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص159. حيدر الغدير، ط1، دار المؤيد، الرياض، 1427ه-2006م.
[6] هلكوا.
[7] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص 103.
[8] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص110.
[9] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص137.
[10] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص 145.
[11] ديوان غداً نأتيك يا أقصى، ص160، حيدر الغدير، ط1، مكتبة البستان، عمّان، 1427ه-2007م.
[12] ديوان غداً نأتيك يا أقصى، ص19.
[13] صحيح البخاري رقم الحديث (3855)، باب أحد يحبنا ونحبه، والحديث عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
[14] في صحيح البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما: ... كان يأتيه كل سبت، فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكبا وماشياً.
[15] نشرت في مجلة الأدب الإسلامي، ص (44)، العدد (80) خاص بالمدينة المنورة، المجلد (20)، مجلة فصلية، ذو الحجة 1434-صفر 1435ه، الموافق تشرين الأول-كانون الأول 2013م.

الأكثر مشاهدة