‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب نفحات ومشاعر من المناسك والمشاعر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب نفحات ومشاعر من المناسك والمشاعر. إظهار كافة الرسائل

السبت، 9 سبتمبر 2023

أيها الحجاج (7)

أيها الحجاج (7)

     يا أيها الحجيج الذين أكرمَهم الله تعالى بالحج هذا العام، وطفقوا إلى بلادهم يعودون!..

     تقبل الله منكم حجكم، واستجاب دعاءكم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وأعادكم سالمين غانمين، وحماكم من السوء وعصمكم من الآثام.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام في كل مكان من المحيط إلى المحيط، من سواحل المغرب إلى مشارف الصين!.. يا إخوة الإسلام من سُمرٍ وبِيض، سودٍ وصُفر، مسافرين ومقيمين، مهاجرين ومغتربين!..

     أنتم اليوم بشائرُ فجرٍ سيطلع، وإقبالٌ بعدَ إدبار، وامتدادٌ بعد انحسار، ونورٌ بعد ظلمة، وخيرٌ بعد شر، ونصرٌ بعد هزيمة، وأنتم اليوم بوادرُ وثبةٍ كريمةٍ مشرّفة، وطوالعُ زحفٍ إسلامي ميمون، ينقذ الأمة المسلمة مما تعاني وتكابد، ويقود خطاها للظفر والعلو والغلبة، ويجعل الإسلام فيها الحكم، والقرآن فيها الدستور.

     يا إخوة الإسلام!.. أنتم اليوم تقاومون التحديات، وتغالبون الصعاب، وتفكرون وتدبرون، تخططون وتناقشون، وإن فيكم طلائع من طلائع الخير، هم على حظٍّ من الوعيِ كبير، وقَدْرٍ من الفهمِ طيِّب، وإحساسٍ جدي بالمسؤولية. وإن الإخلاصَ ماثلٌ فيما يعملون، والصدقَ فيهم حقيقيٌّ وجاد، والنيةَ طيبةٌ زكية، هكذا تراهم، وهكذا تلمس شخصياتهم المؤمنة التي ينعقد عليها أمل كبير.

     يا إخوة الإسلام!.. إن شمسكم الخيِّرة تكاد تشرق على الأكوان، وإن ربيعكم الخصيب الممراح أوشك أن يطل على هذه المعمورة، ها هي ذي البشائر يقترب موكبها البهيج، وها هو ذا النور تدب رويداً رويداً خيوطه الذهبية الحبيبة، وها هو ذا الشجر يورق بعد عُرْي، والأغصان تزهر بعد مَوات، والزهرات الحسان ينحسر الصقيع عنهن، وظل الغفلة يرحل، وغيهب الجهالة يتقشَّع، وليل الأحزان يتصرم، ذلك أن في المسلمين اليوم بداية صحوة إيمانية كريمة.

     ما أحلاها من بشرى وضيئة!.. ما أجملها من رواية حبيبة أثيرة، تصافح الأذن!..

     إن في المسلمين لَصحوة.. ها هم يُحْيون البدايات الحقيقة الصعبة التي لا بد أن يواجهها الرواد، وها هم يضعون أرجلهم على أوائل الطريق، ويا للروعة والبشر!.. يا لسعادة المسلمين!..

     إنَّ دماء الشهداء لم تضعْ، وإن تضحيات الأبطال لم تذهب هدراً، وإن ثبات الرجال الكرام الأوفياء الذين ابتلوا بسبب إصرارهم على الحق، ونأيهم عن الباطل، وإبائهم أن يتحولوا إلى مهرجين في مواكب الطغاة لم يذهب أدراج الرياح، وإن أصوات الدعاة الصادقين لم تتبدّد ولم تمت، بل ضربت عميقاً عميقاً في وجدان الأمة، وها هي ذي براعمها وقد نبتت، وإنها سوف تنمو بإذن الله وتزدهر، ويشتد ساقها، وتقوى وتعلو، ترعاها عناية السماء، وتسهر عليها عيون المؤمنين، وتباركها دعوات الصالحين، وتحميها سواعد الأوفياء لدينهم العظيم.

     وإن اليوم الذي سوف تؤتي أكلها فيه قادم بإذن الله، قادم لا ريب في قدومه، فالبداية الصحيحة قد اهتدى إليها المسلمون، وها هي طلائعهم تلتزمها بوعيٍ وذكاء، وحماسةٍ وإصرار، وصدقٍ وإخلاص، وعزائمَ كالصخرِ راسيةٍ شمّاء.

     يا إخوة الإسلام!.. كثيرة هي الهجمات التي اقتحمت ديار المسلمين، وكثيرة هي النكبات التي ألمّت بهم، وكثيرة هي الرزايا التي فتكت بهم، غزواً عسكرياً، واستعماراً اقتصادياً، واحتلالاً موبوءاً، وحرباً فكرية، بل وإبادة وتصفية جسدية، بهدف القضاء التام عليهم، ومحو اسمهم من سفر الوجود، محواً مادياً ومعنوياً على السواء، لكن ذلك كله، على الرغم من عتوّه وفتكه، وبطشه وإيذائه، وحقده الدفين، ومبالغته في العداوة وصنوف الدمار، آبَ بالخيبة والخذلان، وعاد بالخسارة والاندحار، وبطل كيده وسحره ومكره، وظل هذا الدين العظيم راسياً ثابتاً، وبقي القرآن الكريم خالداً محفوظاً، ونجت أمتنا وعاشت لغتنا، بل وانطلقت بعض موجاتنا الإسلامية في أشد الظروف صعوبة، لتكتسب مواقع جديدة للراية القرآنية لم تكن قد كسبتها من قبل.

     يا أيها الحجيج العائدون!.. كونوا من الساعين لمجد الإسلام، المكافحين لتعلو رايته، وكونوا مع المجاهدين من أجل هذا الدين لا مع القاعدين، وأبرئوا ساحتكم أمام الله عز وجل من التقصير، اجعلوا ولاءكم للإسلام وحده، وطالبوا بتطبيقه، واجعلوا إمامكم القرآن، وطالبوا به دستوراً لحياتكم في كل ميادينها، واستفرغوا جهودكم من أجل استئناف حياة إسلامية خالصة، حتى تعلو كلمة الله وحدها في كل ديار المسلمين، وترفرف راية الإيمان خفاقة عالية، ويذهب بدون عودة ليل الجاهلية الكريه المشؤوم.
*****

أيها الحجاج (6)

أيها الحجاج (6)

     أيها الإخوة الحجيج الذين أكرمَهم الله تعالى بالحج هذا العام، وطفقوا إلى بلادهم يرجعون!.. هنيئاً لكم ما سارعتم إليه من طاعة، وما احتملتم من أجلها من جهدٍ ومشقة، وباركَ الله لكم في حجكم، وأعادكم إلى بلادكم سالمين غانمين مأجورين، وهيّأ لكم السبيلَ لتعيشوا بعد حجكم المبارك، على الهدي والاستقامة، وكلِّ ما يرضي الله جل شأنه، وأبعدكم عن كل ما يسبب غضبه وسخطه وجعلكم من سعداء الدنيا والآخرة، هذه كلماتُ تحيةٍ وتذكير، ووداعٍ ووفاء، أملاهم الحب والأخوّة والشعور بالمسؤولية الإسلامية المشتركة.

     يا إخوة الإسلام!.. إنكم -بحكم إسلامكم الذي تنتمون إليه، وبهذا الحج المبارك الذي جدد هذا الانتماء والولاء- مطالبون بإحداث تغيير عميق في حياتكم كأفراد، وفي حياة أمتكم كجماعة، ذلك؛ لأنكم مسلمون رضوا بالله تعالى رباً، وبمحمد ﷺ نبياً وسولاً، وبالإسلام ديناً، ليس لكم أن تمنحوا ولاءكم إلا لإسلامكم فحسب، فعضوا عليه بالنواجذ، واحرصوا عليه أشد الحرص، واحذروا كل مبدأ دخيل، أو فكرة معادية، أو مذهب زائغ، واحذروا كل الدعوات التي تحاول أن تفصلكم عن دينكم مهما تظاهرت بالخير، وأخفت حقيقتها المدمرة، وزعمت أنها تريد الإصلاح، وأكّدت أنها لا تريد بالدين سوءاً، فلا تمنحوا ولاءكم إلا لمن تبع دينكم، وارتضاه حقاً وصدقاً، وقولاً وعملاً، وأعلنوها صريحةً قويةً مجلجلة، نحن المسلمين، لا نقبل إلّا شرع الله، وحكم الإسلام، عبادتنا لله وحد، وقدوتنا رسول الهدى محمد ﷺ وحده، والقرآن الكريم إمامنا ودستورنا.

     وإنكم عندما تفعلون ذلك تنقذون أنفسكم في دينكم ودنياكم، وتنقذون أمتكم بعد ذلك، وهذا هو أعظم التغيير المرجو، والتطوير المطلوب، الذي سيمتد نطاق نوره وخيره وبركاته حتى يشمل الدنيا كلها بإذن الله. وحين تفعلون ذلك، وأنتم القادرون على إقامة مجتمع الحق والعدل، والبر والمرحمة، والنور والمساواة، والفضائل والمكرمات، وإن بوسعكم إقامته، كما أقامه أسلافكم من قبل، نموذجاً أعلى للبشرية كيف ينبغي أن تكون، وتطبيقاً عملياً لما يعود الإيمان به على الناس من خيرات عظيمة، حين يخلص الناس له المحبة والوفاء والولاء.

     وأنتم المطالبون بإقامة هذا المجتمع، إعذاراً إلى الله عز وجل، وأداءً للأمانة، ووفاءً بحق هذا الدين العظيم، ورحمةً بالناس الذين آذتهم القوانين الجائرة، والمبادئ المستوردة، والأفكار الظالمة، وفتكت بهم الجاهلية بشتى أشكالها وانتماءاتها، وإنكم لَمطالبون بإقامة هذا المجتمع أيضاً، إبراءً لذمتكم، وإنقاذاً لأنفسكم من تبعة التقصير، وإسعاداً لأنفسكم كأفراد، ولأمتكم كجماعة، وللإنسانية كلها، وإنكم وحدكم المهيؤون لذلك بحكم انتمائكم للإسلام الخالد، وإيمانكم بالقرآن العظيم، وانتسابكم لأمة محمد ﷺ، ما بقيتم على حسن ولائكم لإسلامكم، وحسن وعيكم لحقائق هذا الولاء وصادق عزمكم على الوفاء بمستلزماته ونتائجه.

     يا إخوة الإسلام!.. أنتم اليوم مدعوون لإنقاذ الإنسان المعاصر من مآسيه التي يكابدها، وأحزانه التي يعاني منها، وهمومه التي تفتك به، ومتاعبه التي تؤسيه، والقلق الذي يمزقه، والحيرة التي تسحقه والتيه الذي يخبط فيه، لقد شقي طويلاً طويلاً، أشقته الجاهليات الجديدة التي تنأى عن الهدى، وتصدُّ عن الحق، وتبتعد عن منهج الله عز وجل، وتتعبد للمادة وزيادة الإنتاج وغير ذلك من الأصنام المعنوية الجديدة.

     هذه الجاهليات الجديدة أشقته، ومزّقت حياته، ودمّرت إنسانيته، وانتزعت منه خصائصه النفسية التي يصبح بدونها حيواناً أعجم، أحرقت أعصابه، وآدت منكبيه، ولعله لم يشقَ إنسان قط خلال التاريخ كله، كما شقي الإنسان المعاصر، مما يجعل الحاجة إلى إنقاذه أمسَّ وأعظم، وإن ذلك بوسعكم -يا إخوة الإسلام- وإنكم عليه لقادرون، وإنه ليس بمقدور سواكم أن يؤدي هذا الدور المرتقب الكبير، فهو عليكم مقصور، وفي إمكانكم وحدكم محصور، ما بقيتم على حسن ولائكم لإسلامكم، وحسن وعيكم لحقائق هذا الولاء وصادق عزمكم على الوفاء بمستلزماته ونتائجه.

إنَّ هذا العصــــــرَ ليلٌ فأَنِرْ     أيها المســــلمُ ليلَ الحائرين
وسفيـنُ الحقِّ في لُجِّ الهوى     لا يرى غيرَكَ ربّانَ السفين

     هكذا هتف إقبال -رحمه الله- شاعر الإسلام الكبير، وهو من أكثر الناس معرفةً بطبيعة العصر، والمتاعب التي تواجه الحضارة، وهو من أكثر الناس وعياً بحقيقة المسلم ودوره ومهمته، وقيادته وريادته، فكان هتافه هذا، هتاف الخبير الذكي المدرك أن الإنقاذ بيد المسلم، وبيد المسلم وحده.
*****

أيها الحجاج (5)

أيها الحجاج (5)

     أيها الإخوة الحجيج الذين أكرمهم الله تعالى بالحج، وطفقوا إلى بلدانهم يؤوبون!..

     هذه كلمات لكم فاسمعوها، بارك الله فيكم، وتقبل طاعاتكم، وسدد خطاكم، أنتم أيها الإخوة المؤمنون أيّاً كانت أرضكم وبلادكم، ولغتكم ولونكم، وجنسكم وقبيلكم، مجتمعُ النشاطِ الفاضل في هذا العالم، وموئلُ الهدايةِ والخصب، والجودِ الثري، والخيرِ والعطاء والتضحيةِ والإيثار، في الأمة المسلمة الخالدة التي تتحفزُ اليوم للوثوب والقيام، وتستعدُّ للانتفاضِ واليقظة.

     أنتم دليلُ الحياة الصاعدة فيها، والعزيمةِ المتدفقة في أعماقها، والمؤشّرِ الذي قلما يخطئ على سلامة وجهتها، ونقاءِ وجدانها، وأصالةِ معدنها، وقوةِ بنيانها، وشموخِ أهدافها ونصاعة غاياتها، ونظافةِ وسائلها لبلوغ ما تريد، وشرفِ أساليبها للحصول على ما تؤمّل ما بقيتم على ولائكم لإسلامكم، وحسنِ وعيكم لحقائقه، وصادقِ عزمكم للوفاء بمسؤولياتِ الانتماء إليه.

     أنتم إشراقةُ الصباحِ الوضيئة، وبسمةُ الزهر الطيبة، وإطلالةُ القمرِ الساجية، وزهرةُ الحدائقِ اليانعة، والأريجُ الحلوُ العاطر، والبستانُ المخضوضرُ الناضر، والألقُ السَنيُّ الطاهر، والكلمةُ الصادقةُ الحنون، والجوهرُ النفيسُ المكنون، والغيثُ السكوبُ الهتون، والسنا البهيجُ الودود، والهديُ الكريمُ المحمود، ما بقيتم على ولائكم للإسلام، وحسنِ وعيكم لحقائقه، وصادقِ عزمكم للوفاء بمسؤولياتِ الانتماء إليه.

     أنتم الربيعُ يأتي بعدَ الشتاءِ العاصف القاسي، والخصبُ يوافي بعد الجديب الممحل من الأيام، والدفءُ يطل بعد الصقيع، والنهارُ يطلع بعد الليل، والشمسُ تسطع بعد الزمهرير، والنماءُ يتدفق بعد الجفاف، والخضرةُ تَفِدُ بعد اليبوسة، والسحابُ يسقي الأرض العطشى، والمزنُ يسقي الحقول التي صوَّحَت، والفراتُ يتدفق في البساتين التي جفّت، ما بقيتم على ولائكم لإسلامكم، وحسنِ وعيكم لحقائقه، وصادقِ عزمكم للوفاء بمسؤولياتِ الانتماء إليه.

     أنتم شموسُ الهدايةِ والإصلاح، ومصابيحُ الإرشادِ والإيمان، ومشاعل النور والخير، وكواكبُ الحق يسطعُ ويتلألأ، وأقمارُ الصدقِ والشرف والفضيلة، والمنارةُ التي تَهْدي الحائرين، والواحةُ التي تحنو على المتعَبين، والشاطئُ الأمين يستقبلُ التائهين، الخابطين في لججِ الأهواء والشهوات، التابعين لكل ناعقٍ ومزوّرٍ ودعيّ.

     أنتم اللواء الكريم الشريف الذي يمنح عطاياه الخيّرة، وبركاته السابغة لكل مّنْ يأوي إلى مظلته، ويَفِيءُ إلى رحابه، ويلوذُ بأكنافه، ما بقيتم على ولائكم لإسلامكم، وحسن وعيكم لحقائقه وصادق عزمكم للوفاء بمسؤولياتِ الانتماء إليه.

     أنتم الأملُ الجيّاشُ الدافق، والعهدُ الوثيق الصادق، والرجاءُ الحار الحبيب، والأمنيةُ الغالية الأثيرة، وبارقةُ النورِ حيث تدلَهِمُّ الظلمات، وومضة الهداية حيث تفشو الضلالات، وإشراقةُ العزةِ حيث تَكْثُرُ الكُلوم والجِراحات، وأنتم انتفاضةُ القوةِ حيث يشتد بطش الأعداء، والحصنُ القويُّ حين يَعْظُمُ بغيُهم وغدرُهم، وبسمةُ العزاءِ حين يكونُ المصابُ موجِعاً محزناً، شديدَ الضراوةِ والعنفِ والإيذاء، أنتم كذلك ما بقيتم على ولائكم لإسلامكم، وحسنِ وعيكم لحقائقه، وصادقِ عزمكم للوفاء بمسؤولياتِ الانتماء إليه.

     أنتم اليدُ الحانية تشدُّ على أذرعِ المنكوبين والمستضعفين، والكلمةُ المواسية لمن أوجعهم البغي والعدوان، والفجرُ الوردي البهيج لمن ثقُلتْ عليهم ليالي الجاهلية، وتطلّعوا إلى يومِ الخلاص والنجاة من شرورِها المستفحلة، وآثارِها التي تفتكُ بالإنسان حيثُ بسطت نفوذَها الضالَّ المبطل.

     أنتم كلمةُ الصدقِ تُقال في كل مكان، ودعوةُ النور يُهْتَفُ بها كلَّ آن، وقولةُ الحق يُصْدَعُ بها أمامَ الجبابرةِ والطغاة، وسَدَنَةِ الضلالِ والفساد الذين يعاندون الهدى ويحاربونه، بُعْداً عن دينِ الله، ونأياً عن منهجه القويم، وبطشاً بالإيمان وأهله، وعلوّاً في الأرضِ بغير الحق، وحكماً بغيرِ ما أنزل الله.

     أنتم كذلك -أيها الإخوة الحجيج- ما بقيتم على ولائِكم لإسلامكم، وحسنِ وعيكم لحقائقه، وصادقِ عزمكم للوفاء بمسؤولياتِ الانتماء إليه.

     أيها الإخوة الحجيج!.. باركَ الله عليكم ورعاكم، وقَبِلَ سعيكم وجزاكم خيرَ الجزاء، وجعلَ حجَّكم مبروراً، وذنبكم مغفوراً، وسعيكم مشكوراً.

     إنه لم يكنْ عصرٌ من العصور أحوجَ إلى الهدايةِ من عصرنا هذا، الذي عبثت به الضلالات عَبَثاً شديداً، وأوردته مواردَ التهلكةِ والدمار، ولن يستطيعَ هدايتَه أحدٌ سوى أمةِ الإسلام، فكونوا في هذه الأمة طلائعَ زحفِها الميمونِ في مسيرةِ الهدايةِ والنورِ والإرشاد، وروّادَ طريقِها الصعب من أجل هذا الأملِ الكبير.
*****

أيها الحاج (4)

أيها الحاج (4)

     أيها الأخ الحاج الذي أكرمه الله تعالى بالحج وسهّله عليه!.. تذكَّر وأنت الآن تستعد للأوبةِ إلى بلدك بعد إذ أدّيتَ هذه الطاعة العظيمة، أن مسؤوليتك التي يحتّمها عليك انتماؤك للإسلام، ويجددُ عهدك بها هذا الحج الذي منه فرغت، كبيرةٌ حقاً، بالغة الخطورة، فأنت مدعو بهذه المسؤولية الشريفة، إلى إثبات صدق ولائك للإسلام، وجديّةِ انتمائك إليه، وحسنِ وعيك للأبعاد الكبيرة للحج المبرور الذي نرجو أن تكونَ قد رُزِقْتَهُ في طاعتك هذه.

     إنك -من حيث أنت مسلم- كنزٌ من الفضائل والمكرمات، والاستعداداتِ الكبيرة، والمطامحِ الضخمة، والآمالِ العراض، لذلك ما فقد العقلاءُ أصحابُ البصيرةِ النافذةِ ثقتهم بك قط، مهما بدا على سطحك الخارجي أنك قد سُؤْتَ وضعفتَ وأخلدتَ إلى التراب، وطابَ لك العيشُ الكليل الكئيب، وحياةُ الدونِ والهوانِ والعجز، ذلك أنهم على يقينٍ كبيرٍ كبير أن دفقةً واحدةً فقط من عطايا الإيمان كفيلةٌ أن تطهّرَك من الشوائب والرانِ، والإخلادِ والقعود، والكسلِ والذلة، وترفعَك إلى آفاق المسؤولية المشرّفة الكبيرة، مسؤوليةِ الهدايةِ والقوامة، والوصايةِ والإرشاد، والإبلاغِ المستمر الذي لا يتوقف بحال.

     والمسلم -من حيث هو مسلمٌ- يَدِينُ بهذا الهديِ الرباني، راضياً بالله تعالى ربّاً، وبمحمدٍ ﷺ نبياً ورسولاً، وبالإسلامِ ديناً، واعياً حقيقةَ هذا الرضى وأبعادَه وتكاليفَه، مستعداً للوفاءِ بلوازمه ونتائجه، هو خيرُ ما في الحياة، وأجملُ ما في الحياة، وأصدقُ ما في الحياة، هو في ضمير الأكوان حبٌّ ورجاء، وفي قلوب الناس أملٌ وسناء، وفي أفئدةِ الحيارى والتائهين منارةٌ للهدايةِ والإنقاذ، ومرفأٌ أمينٌ صادق، وحادٍ لا يكذب، وهادٍ لا يضل، وقائدٌ لا يخون، وواحةٌ مخضلَّةٌ خضراء، ناضرةٌ عاطرة، يستظلُّ بها مَنْ أضناهم السهاد في ليلِ الجاهلية، وفتك بهم السُرى الموصول في هجيرِ الصحراء، صحراء الشكِّ والريبة، والفسادِ والانحراف، والتيهِ الذي يَنتهي إلى تيه، والضياعِ الذي يُفضي إلى ضياع، والقلقِ والظنون، صحراءِ الشرودِ عن مهج الله عز وجل، والخَبْطِ الأحمق الأرعن وراءَ مناهجِ الطاغوت التي لا تنبت إلا الشوكَ والقتاد، والشجى والأحزان، والصابَ والعلقم، والحنظلَ المُرَّ الكريه، وشقاءَ الإنسانِ في دينه ودنياه على السواء.

     والمسلم -من حيث هو مسلم- يعي حقيقةَ إسلامهِ، وينهضُ بصدقٍ للوفاء بلوازم هذا الوعي، هو من قبلُ ومن بعد، وفي قديمٍ وحديثٍ ومستقبل، وفي كل العصورِ والأمكنةِ والظروف، بقيةُ الخيرِ في العالم ما كانَ عالم، وهو في عصرِنا اليوم، العاتي المتمرد، الجافي الخؤون، الذي فشت فيه المادة حتى عُبِدَت من دون الله تعالى في كثيرٍ من البلدان، وانتشر فيه دمارُ الإنسان حتى صار جزءاً لازماً من عطاياه النكِدة الوخيمة، هو في هذا العصر موئلُ النور، وبارقةُ الأمل، وبُشرى الإنقاذ.

     حذارِ حذارِ أن تنسى أيها المسلم دورك!.. وحذارِ أن تُجاريَ عصرك، ما حَسُنَ منه وما ساء!.. بل احتفظ بشخصيتك، واشمخ بإيمانك، واستعلِ بقرآنك، وارتفع وافخر بدورك وريادتك، وقيادتك الآخرين، وسِرْ في دربك المباركة هادياً للخير، داعياً للفضيلة، مبشّراً بالنور، محذّراً من الضلال.

     كم وقف الغزاةُ على بابك!.. وكم اقتحم العادون دارك!.. وكم فتكَ بك الأفّاكون والطغاة!.. وكم اجتاحت بلادك جيوش الظالمين!.. لكنك لم تلبث أن قهرتَهم، وطهَّرت أرضك من رجسِهم، وسَمَوْتَ وعلَوْت، وطَهُرْتَ وزكَوْت، فإذا بالغزاة والطغاة والعادين والأفّاكين والظلمة خبرٌ من الأخبار، وروايةٌ في كتب التاريخ، وإلّا فأين الصليبيونَ والتتار!؟ وأين جيوشُ ما سُمِّي بالاستعمار!؟ ولم يكن فيه إلا الخراب والدمار.

     لقد كنتَ -أيها المسلم- تنتصرُ في هذه المواقع كلِّها، لأنك كنتَ تعودُ إلى معينِ قوتِكَ الذي لا ينضب، ومصدرِ طاقتك التي لا تتوقف، وهو دِينكَ وقرآنك، فاستمسكْ به، واحرصْ عليه، واهتدِ بنوره، وتشبّث بعروتِه، واعملْ بمقتضى توجيهه؛ يكنْ لك الفوزُ من جديد، والظفرُ من جديد، والغلبةُ والظهور، والنصرُ المؤزّر الكبير.

     تذكّرْ ذلك أيها المسلم الذي أكرمه الله تعالى بالحج، تذكّرْ ذلك وأنت تؤوبُ إلى وطنك، وكنْ على المستوى الذي يوجبُه عليك إسلامُك، والذي يجددُ الحج تذكيرَك به.

     إنَّ أمتك المسلمة اليوم تواجهُ تحدياتٍ مسعورةً منهومة، تحيط بها من كل مكان، وإن البشريةَ اليوم تتردّى في مستنقعِ الضياع والجهالات والتفاهات، وإن الحضارةَ اليوم أفلستْ وانحطّت وباتت في الاحتضار، والأمل ينعقدُ عليك وحدك أيها المسلم، فأنت المهتدي الوحيد والآخرون ضائعون، فَعُدْ إلى إسلامك، وَابْنِ عليه مجتمعَك ودولتَك، تنقذْ نفسك وتنقذْ أمتك، ثم انطلق بعد ذلك لإنقاذِ البشريةِ التائهة والحضارةِ البائسة من المصيرِ الرهيب.
*****

أيها الحاج (3)

أيها الحاج (3)

     أيها الأخ المسلم الذي أكرمه الله تعالى بالحج، حيث تكون، ومن أي مكان قدمت، وأياً كان عملك وبلدك!.. تذكَّرْ -وأنت الآن تستعدُّ لمغادرة الأرض المقدسة مصحوباً بالسلامة والعافية والقبول- أنّ أمتك وبلادك تواجه تحدياتٍ كبيرة، وتحيط بها مصاعب شتى، وتتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها، وتذكرْ أن ذلك يضاعف من مسؤوليتك، ويزيدُ من حجم التكاليف التي عليك. تذكرْ ذلك جيداً، وحاولِ النهوضَ بمسؤولياتك هذه، وتكاليفك هذه دون أن يقعدَ بك خوفٌ من كثرةِ الأعداء، وضخامةِ التحديات، وفُشُوِّ الجِراحات.

     تذكرْ ذلك.. وتذكرْ أن لك قدرة عجيبةً على النهوض -بإذن الله- من بين الركام المحدق بك، والمصائب التي تواجهك، والشرور التي تنوشُكَ من كل جانب، وقدرتُك هذه قدرةٌ ذاتيةٌ مكنونة، مستقرة في أعماقك، وهي بعض هدايا الإسلام لك وعطايا الإيمان لك، وهي السرُّ الحقيقي الكبير الذي يعلل نهوضك بعد كبوة، وانتفاضك بعد كل هزيمة، وجهادك بعد كل كارثة.

     لذلك لم يفقد أهل البصيرة والذكاء إيمانهم بمقدرتك حتى في أشدِّ الأوقات التي احْلَوْلَكَ فيها الظلام، وكثرت فيها الجراحات، وظن أهلُ السوء أن أمرك قد انتهى وباد، ذلك أنهم عرفوك بما وعوا من تاريخك، وما أحاطوا به من طبيعة بنائك المدهش، وتركيبك العملاق، وما حفظوه من جهادك المؤمن الدؤوب عَبْرَ أجيالٍ وأجيال، وخلالَ دهورٍ وأحقاب، وإنك في هذا لبرهانٌ لا يُرَدُّ على أصالتك واستعلائك، وعلى أصالة الدين الذي تنتسب إليه، واستعلاء الإيمان الذي تشمخ به.

     أيها المسلم حيث أنت!.. تذكّرْ ذلك كلَّه، وكن على مستوى ذكراك هذه؛ يكُنْ لك الفوز المبين، والانتصار الباهر، في دينك ودنياك، ويكُنْ لأمتك المجدُ والشرف والنصر والغلبة. وتذكر أنك أعجوبةُ الدنيا بما صنعتَ من أمجادٍ وبطولات، ووثبةُ الظفر بما اقتحمتَ من منيع الحصون والبلدان، وأغرودةُ الأكوان بما بنيتَ للبشرية من عدلٍ وحقٍّ ومساواةٍ ورحمة، وأنشودةُ الطهر الفاضل، والفضيلة الطاهرة، والخيرِ المستعلي، والنفعِ الأبيّ، بما كان منك يومَ أن كانت لك السيادةُ من مواقفَ نبيلةٍ متوضئةٍ طهور، أملاها عليك انتماؤك للإسلام، وأمَّتِه الكريمة الماجدة المعطاء، خيرِ أمة أخرِجت للناس، منذ كانت أرض، وكانت أمم، وكان ناس.

     لقد كانت لك مواقف، ارتفعتَ فيها إلى الأفقِ الذي يليق بالمؤمن أن يكونَ عليه، فنأيْتَ عن الشحِّ والأثرة، والظلمِ والجبن، والبغيِ والعدوان، وكل ما يسوء وينحط، ويسفُّ ويهون، واستشرفتَ آفاق الجودِ والعطاء، والبرِّ والرحمة، والعدالةِ والمساواة، والشجاعةِ والصدق، وكلِّ ما يطيب ويحلو، وما يطهر ويسمو، وما يشرف ويزكو، وما يعبق ويعلو، مما هو بك لائق، وأنتَ به جدير.

     ليس معنى هذا أنك لم تَكْبُ قط، ولم تَسْقُطْ قط!.. لكنك كنتَ تنهض دائماً، لتثبتَ أصالتك وشرفَ انتمائك للإسلام، وجدّيةَ اتباعك للقرآن الكريم، في أيام الشدة كما أثبتَّها أيام العزِّ والظفر.

     ومرةً كانت كبوتُك كبيرة، وكان سقوطك مفزعاً؛ حتى لقد دبَّ اليأس في القلوب، والحزن في النفوس، واستبدَّ بالناس قلقٌ وشك، وريبةٌ وتوجس، وحيرةٌ وشجن، وألمٌ مُمِضٌّ مستبدٌ مقيم، وتوارى كثير من الشرفاء هنا وهناك حتى لا يسمعوا قالة السوءِ التي أخذ يذيعها عنك حاسدوك ومبغضوك، وكارهوك وشانئوك، وأعداؤك اللئام الذين يفرحون إن وقَعْت، ويُساؤون إن وثَبْت، لكنَّك خيَّبتَ ظنونَ السوء، وكذَّبتَ أقاويل الحاسدين حين قمتَ مفاجئاً عن وثبةٍ مظفَّرة، مبادراً عن انتفاضة كريمة، وأَفَقْتَ عن نبأةٍ وضيئةٍ زهراء بعدَ إذ غرقتَ في الصمت، فتجاوزتَ الكبوةَ التي كانت، ونجوتَ من السقطةِ التي حلَّت، ونهضتَ من بين الحطام والركام، والدمار والخراب، والمأساة الفاغرة أشداقَها، لتصوغَ فجراً جديداً لك، خصيباً مزدهراً، ثرياً معطاء، نبيلاً كالعهد بك، سامياً كخلائقك، طاهراً كصفاتك وفضائلك، مشرقاً ثَرّاً، وضّاءً متألقاً، تبدأُ به عهداً جديداً من مسيرتك الخيِّرة المباركة، في هدايةِ الناس، وقيادةِ الضائعين، وإخراجِ الحائرين من التيه، وتبنّي الدعوة للإيمان، وإرشاد الناس جميعاً لهدي الإسلام العظيم.

     فتلك مهمتك الأصلية الكبرى التي انتُدِبْتَ لها بحكمِ أنك مسلم، يهتدي بالقرآن الكريم، ويستضيء بنوره الرباني المتألق، وينتسبُ إلى أمة محمدٍ ﷺ.

     أيها المسلم الذي أكرمه الله تعالى بالحج!.. تذكّر هذا كلَّه، وحاول أن ترتفعَ إلى هذه الآفاقِ الشمّاء، وأقدِمْ ولا تُحجِمْ، وليكُنْ منقلبُكَ إلى أهلك وذويك وأنت مستشعرٌ هذه المعاني الكبار، عازمٌ على الوفاءِ بمسؤولياتها الجسام.

*****

يا أيها الحجيج (2)

يا أيها الحجيج (2)

     يا أيها الحجيج، يا إخوة الإسلام.. بارك الله فيكم، وقَبِل مسعاكم!..

     إن كثيرين يزعمون أن العلم وحده سبيل النهوض، وأنه لا حاجة للأخلاق قط، لكننا شاهدنا التجربة المرة، تقرر عكس ذلك بالضبط، وذلك حين رأينا بعيوننا كيف صار العلم ومنجزاته عند كثير من دول الأرض سبباً للدمار حين انفصل عن كل توجيه خلقي، وتهذيب روحي، فإذا بنا نجد في بعض بلدان العالم التي أحرزت تقدماً علمياً ممتازاً، عصابات للفتك والإجرام تتكون أحياناً من أعلى الطبقات الاجتماعية، التي نالت أكبر حظ من المعرفة، وإذا بهذه العصابات الإجرامية فيها العالمُ المخترع، والمهندسُ الذكي، والقانونيُّ الضليع، والأديبُ المشهور، والصيدليُّ النابه، وفيها كذلك أحياناً رجلُ الأمن الذي مهمته الأولى محاربة الإجرام.

     ذلك أكَّد بشكل حاسم أن الحضارة بلا خُلُق دمارٌ مؤكد، ورعب حقيقي، وأسقط دعوى القائلين بأن العلم وحده سبيل النهوض، وأبرز حاجة العصر للخُلُق المكين، والعفة والأمانة، والصدق والاستقامة، والتعاون والإيثار، والمودة والحنان.

     وهذه الحاجة هي بعض هدايا إسلامكم العظيم للبشرية، فهل تقدمون هذه الهدايا إلى عصرنا اليوم الذي تشتد حاجته إليها يوماً بعد يوم، وتزداد بازدياد متاعبه ومشكلاته؟ إنها مسؤوليتكم تقع عليكم بحكم انتمائكم لهذا الدين الكريم، فهل أنتم لها واعون؟ وهل أنتم بها ملتزمون؟

     يا إخوة الإسلام من الحجيج وغير الحجيج!..

     أنتم مدعوون للإنقاذ، إنقاذ أنفسكم أولاً، وإنقاذ أمتكم بعد ذلك، وإنقاذ الحضارة التي باتت في الاحتضار. أنتم المدعوون لهذا الإنقاذ، وأنتم وحدكم القادرون عليه لأنكم تملكون وسائله وأدواته؛ وهي أن تطبقوا الإسلام في دياركم، وتحملوه إلى الآخرين، فذلكم هو الحل الوحيد.

     وإن لكم فيه سابقة ممتازة، فالإسلام حقق التجربة الفذة الرائعة في التاريخ حين تعايشت في ظلّه الطهور؛ المللُ والنحل، والأجناسُ والأقوام، واللغاتُ والألوان، والأزياءُ والأمزجة، دون أي صراع طبقي، أو حقد اجتماعي. فليست هناك عداوة وأحقاد، ولا مستغِلّون ولا مستغَلّون، بل ينعم الجميع بنعمة الأمن والعافية، والمساواة والعدالة.

     ذلك أن الإسلام العظيم منح الجميع عطاياه المباركة؛ هذه التي نعم بها حتى غير المسلمين، وسعدت بها الأقلياتُ التي ظلت تعيش في المجتمع الإسلامي، مع إصرارها على البقاء على أديانها الخاصة. إن ذلك أمر عظيم جداً حققه أسلافكم من قبل، وإن بوسعكم اليوم أن تحققوه يا إخوة الإسلام، فهل أنتم فاعلون!؟

     يا إخوة الإسلام!..

     لقد سقط إلى الأبد ذلك التوزيع الآثم الذي صنعته حضارة الرومان قديماً حين وزعت الناس إلى سادة وعبيد، رومان وبرابرة، سقط هذا التوزيع إلى الأبد لأن حب المساواة جزء من فطرة الناس، سقط ذلك كله، وسقط كذلك ما كان يزعمه الغرب من أنه وحده أستاذ العالم في كل شيء بدعوى أن الرجل الأبيض وحده الذكي، وحده المتفوق، بينما الآخرون أغبياء ومتخلفون، لذلك أباح لنفسه أن يتصرف بالآخرين كما يريد، ويعدو عليهم كما يشاء، ويسلب خيراتهم كما يحلو له، ويقتل منهم مَنْ يود كما يطيب لخاطره، سقط هذا الزعم، وسقطت دعاوى الرجل الأبيض لأنها وهمٌ ليس له سندٌ من الحقيقة.

     وكما سقط التوزيع الروماني القديم للناس، وكما سقطت مزاعم الرجل الأبيض في الغرب؛ سقطت أيضاً مزاعم الملاحدة، أولئك الذين جعلوا نشاط البشر كله، خلال أحقاب التاريخ كلها، هو البحث عن الطعام فقط، وسد جوعة الجسد فقط، وجعلوا الصراع بين الناس في الأرض كل الأرض، خلال أحقاب الزمن كله، صراعاً بين بطون خاوية جائعة، تحقد وتتمرد على بطون ممتلئة.

     سقطت مزاعم هؤلاء جميعاً سقوطاً ذريعاً -يا إخوة الإسلام- لأنها تخالف بَدائه العقل، وشواهد التجربة، ولأنها حين أقامت مجتمعات لها تزعم أنها مجتمعات السعادة البشرية، كان فيها ظلم كبير، وحقد مدمر، وإذلال لا مثيل له، فليس ثمة عدالة، وليس ثمة كرامة، وليس ثمة حتى شَبَع، فكان مجتمعها الذي بنته أكبر دليل على ما زعمت وزوّرت وخدعت.

     يا أيها الحجيج، يا إخوة الإسلام!..

     إن بوسعكم وحدكم وقد سقطت هذه المزاعم جميعاً رومانية وغربية، وإلحادية وشيوعية، أن تقدموا البديل العظيم وهو الإسلام الذي لا يمايز بين الأفراد، ولا بين الجماعات إلا من خلال معيار واحد هو التقوى فقط، وبذلك يحقق الإسلام تكافؤ الفرص حين لا يضع حواجز مسبقة ظالمة، فهل أنتم فاعلون!؟
*****

أيها الحاج (1)

أيها الحاج (1)

     أيها الحاج القادم إلى بيت الله الحرام، المرتحل من خلف السهوب والجبال والأنهار، القادم من وراء الصحراء الشاسعة، والأصقاع النائية، والبلدان البعيدة. أَعْطِ نفسك أويقات من الأمل الهادئ، والتفكير الدقيق، والنظر الصادق، تغوص فيها على ما تقوم به من شعائر ومناسك.

     وفي البداية لا بد لك من صدق النية، وإخلاص القلب، وصحة العمل والتوجه المنيب إلى الله عز وجل، عسى أن تُكتب في أولئك الذين يحفّهم الرضوان، وتشملهم الرحمة، وتباركهم بشريات القبول والإجابة. ولا يَغِبْ عنك ما الذي يدّخره الله تعالى من أجر عظيم لك ولإخوانك الحجاج ما صلحت النية، وصحّ العمل، واستقام المنهج.

     إنك حين تخرج إلى بيت الله الحرام، سيكون لك بكل خطوة حسنة تكتب، وسيئة تمحى، وأما ركعتاك بعد الطواف فهما كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام، وأما سعيك بين الصفا والمروة فهو كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله عز وجل يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، يقول: عبادي جاؤوني شُعْثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبهم عدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له.

     وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور لك عند ربك، وأما حِلاقُك رأسَك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويُمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافكَ بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل فقد غُفِر لك ما مضى.

     وقلْ مثل ذلك عن صلاتك وتلبيتك، وشربك من زمزم، وتقبيلك الحجر الأسود، ووقوفك بالملتزم، وذكرك وتلاوتك وتسبيحك واستغفارك، وصدقتك وعطائك، والجهد الذي تبذل، والمشقة التي تحتمل، والدعاء الذي ترفع وتضرع، والنجوى التي تدعو بها وتخبت وتنيب.

     أيها الحاج!.. لا يغبْ عنك ذلك، ولا يغب عنك بعد إذ تكتمل حجتك، أنك تبدأ في حياتك صفحة جديدة، فحذار أن تشوبها المعاصي والآثام، فالأجل طارقٌ بابَ كل إنسان، ولا يدري أحدنا متى سيطرق بابه. وَلْتَعُدْ أيها الحاج إلى بلدك وأنت أكثر صفاءً وصدقاً واستجابة للطاعات، وقرباً من الخير، ونأياً عن الشر.

     لا يغبْ عنك أن المسلم الذي يحيا في مناخ الحج الطاهر العاطر، ويُصْقل فيه صقلاً عظيماً، ويقوّم فيه تقويماً كريماً، في ظلال الأوامر والنواهي، وفي أفياء الشعائر العظيمة المباركة، ينبغي أن يصبح أقدر على أخذ مكانه في الصف المسلم، يخدم أمته، ويحمي ذماره، ويجاهد بصدق ومضاء، وينشر كلمة الله في الأرض ويعليها، ويحارب كلمة الباطل ويتصدى لها، ويسقي شجرة الإيمان، ويجتث شجرة الشيطان، ليكون بذلك جندي صدق من جنود الرسالة الخالدة، أولئك الجند الأطهار الأبرار الذين يشكّلون خير الأمم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]؛ أولئك الجند الذي سيظلون متمسّكين بالإسلام، عاضّين عليه بالنواجذ، عاملين لإعلاء كلمته، يمنحون جميع ولائهم له وحده، مهما فسد الزمان، وتبدّلت الدنيا، وغيّر الناس، مصدِّقين بموقفهم هذا قول الرسول الكريم ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَنْ حادهم ولا مَنْ خالفهم حتى يأتي الله بأمره وهم ظاهرون).

     ولتكنْ على يقين راسخ لا حد له، أن الإسلام سينتصر بإذن الله في يوم لا ريب فيه، سينتصر في يومٍ قادم، يصنعه الله عز وجل بأيدي المؤمنين المجاهدين، فسارع وكنْ منهم، وبادر إلى الإيمان والجهاد، فموكب المؤمنين المجاهدين أكرمُ المواكب وأطهرها، وأحبُّها إلى الله عز وجل، فأكرمْ نفسك، وأعْلِ منزلتها بالانتساب إليه.

     وإن دينك العظيم منتصرٌ ذات يوم الله أعلم بموعده، منتصر نصراً عظيماً، سوف يمكّن الله به للحق، ويبدل به الخوف أمناً، والضعف قوة، والتفرقة وحدة، والجبن بطولة، فانتسب إلى موكب الإيمان والجهاد، وابذل جهدك كله، في سبيل انتصار الإسلام وغلبته، وإعلاء رايته ومجده.

     ولا يغبْ عنك أيها الحاج الكريم، أن الله عز وجل، أكرم من أن يرد حجّاج بيته إذا دعوه، وأن يُعرض عنهم إذا أقبلوا عليه، فهو الجواد العظيم الذي لا ساحل لجوده وكرمه، ولا نفاد لخزائنه جل شأنه. لا يغبْ عنك ذلك، ولا يغبْ عنك أن تكون الأكف الضارعة صورة صادقة أمينة، لقلوب أيقنت بالإجابة، ونفوس أخذت بالأسباب، وجانبت التواكل، واستغرقت كل طاقاتها وإمكاناتها في خدمة دينها العظيم والولاء له وحده، وامتلكتها الحرقة الصادقة، وتجافت عن المضاجع، وهزأت بالراحة، واستعلت على طلب العافية أياً كانت، وإيثار السلامة ولو على حساب الحق، وثبتت على الدرب، وأصرّت على مواصلة السُّرى مهما تكن الصعاب، وعزمت على الاستمرار في خدمة دين الله والولاء التام له وحده، حتى يكون له الظهور أو تنفرد منها السوالف، وأعلنت ذلك دون مواربة ولا دوران، ولا محاورة ولا مناورة، وارتفعت على نوازع الطمع والجشع، والمال والمنصب، والمغنم والجاه، وحب الإخلاد والقعود، واستعصت أن تقع صريعة الخوف والهلع، والرعب والجزع، والتحديات الكبيرة، والعقبات المرة الكؤود، وقررت أن تحيا للإسلام، ديناً ودولة، ومنهاج حياة وطريق سعادة كريمة في الدنيا والآخرة، بذلك تؤمن، ومن أجله تعمل، وعليه تموت.
*****

أكتبُ إليك بعد الحج

أكتبُ إليك بعد الحج

     أكتبُ إليك -يا أخي المسلم- حيث أنت هذه الكلماتِ الودودة بعد إذ أكرمني الله عز وجل بأداء فريضة الحج، أكتب إليك، وفي القلب شوقٌ، وفي القلب حنين. وأكتب إليك، والمشاعر والانطباعات، والأفكار والخواطر، والعبر والدروس كثيرةٌ كثيرة، تتزاحم علي وتشرئبُّ، فيحار المرء بأيِّها يبدأ. ومهما يكن، وبأي شيء بدأ الحديث فلا بد قبل كل شيء من حمد الله عز وجل، حمداً كثيراً كثيراً أن يَسَّرَ لنا بجودِه وعونِه أداء الحج هذا العام، وإنَّها لَنِعمةٌ كبرى تستحقُّ أعظمَ الحمد والثناء.

     لقد كانت رحلةً ربانيةً روحانيةً قدسية، أسعدنا اللهُ تعالى فيها بأشرفِ الأعمال، وأقدس المواقف، وأطهرِ الأماكن والبقاع، وأروعِ الأدعية والأذكار، فطابت نفوسنا، وسعدت أرواحنا، وهبّت علينا نسائم الصفاء والهناءة، والسكينة والبِشر، والطمأنينة والرضوان.

     لقد كنا في هذه الرحلة العُلْوية، وكأننا في معراجٍ من نور، طافت فيه أرواحُنا كما طافت أجسادُنا بمشاهد الذكريات الإيمانية العظيمة، من عهدِ إبراهيم الخليل، وإسماعيل الذبيح الأمين عليهما الصلاة والسلام، إلى عهدِ رسالة الإسلام ينهض بها محمد ﷺ، ولَكَمْ لَذَّ لنا النظرُ إلى الكعبة الغرّاء تطوف بها أمواجٌ من البشر، من مشارق الأرض ومغاربها، وَحَّدَ بينها الإسلام العظيم، وجمعتها التلبيةُ الخالدة: "لبيك اللهم لبيك"!.. أمواجٌ ترى فيها الأسود والأبيض، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والعربي وغير العربي، إخوةً متحابين في الله عز وجل، أسقطَ الإسلامُ الخالد كلَّ الفوارق الزائفة التي تفرِّقُ بينهم.

     وما أجملَها صورةً لا تكاد تُمحى!.. إنها صورةُ بعضِ الشباب الأوربيين ممن هداهم الله تعالى للإسلام، فجاؤونا إخوةً كراماً أعزاء، أعضاءَ أحبّةً في أسرة المسلم العالمية. لقد كانوا يُكبِّرون ويُلبّون، وهم بملابس الإحرام، تفيض وجوههم بالجلال والجمال، والحب والحنين، والخشوع والإنابة، وهم في سلامٍ روحي ونفسي عميق، افتقده ذووهم منذ زمنٍ بعيد، حيث طحنتهم المادية العاتية في بلادٍ لا مكانَ فيها لغير المادة.

     لقد شاهدتُ مَعْرِضَ الأجناسِ والألوان، واللغاتِ والأشكال، والأزياءِ والبلدان، يجمعها كلَّها هذا الحرمُ القدسي الكريم، في هذه البقعة الطاهرة المباركة، وهي تهتف من الأعماق: الله أكبر!.. وتردد من الأعماق: لبيك اللهم لبيك!.. وقلوبُها ضارعة إلى خالقها، ووجوهُها مشدودة إلى كعبتها، ترى في طوافِها حولَها طاعةً لخالقِها جل شأنه، وترى فيها مثابةً تهفو إليها القلوب المؤمنة، وعنواناً لمجدِ الأمة المسلمةِ وقوتها، واتحادها وتعاونها:

قدسيّةُ الكعبةِ في جَمْعِها أُمَّتَــــنا مِنْ كلِّ أقطـــــــارِها
وأنها محــــورُ أمجادِها وأنها مصـــــدرُ أنــــــوارِها
وكعبةُ المؤمن في قـلبِهِ يطوفُ أنّى كانَ في دارِها[1]

     ولو طفق المرء يتحدث عن عرفات لهاله الأمر، وسالت به أوديةُ الحديث فما يدري ما الذي يدع!؟ وما الذي يأخذ!؟ عرفات صعيدٌ عجيب من الجمال والجلال والإيمان، ترى العالمَ كلَّه فوق جبلِه، وترى فيه الحَشْرَ الأصغر قبلَ يومِ الحشر الأكبر، جبلٌ عظيمٌ ذرّاتُه البَشَر، وبَشَرٌ عظيم في صورة جبل، جموعٌ متلاحمةٌ مزدحمة من الرجال والنساء، والشيب والشبان يجأرون لربّهم بالدعوات بمختلف اللغات، وقد توحّدت منهم الغاية والهدف، وقد صدقت منهم النوايا والسرائر، وقد انصهر بعضُهم في بعض فكأنهم فردٌ واحد، وذاب الفردُ الواحد في نفسِه فتجلّى قلباً منيباً مفوِّضاً داعياً باكياً مستغفراً، وصارَ دعوةً صادقةً حرّى تشقُّ أجوازَ الفضاء وهي تردد: الله أكبر!.. وتخلعُ عنها الأرضَ وجواذبَ الأرضِ وهي تهتف: لبيك اللهم لبيك!..

     ولعلك في عرفات استشعرتَ كما استشعرَ الواقفون هناك، عظمةَ هذا الموقفِ الرهيب فسكبتَ الدموع كما سكبوها، وعزمتَ على التوبةِ النصوح كما عزموا، وعاهدتَ ربَّكَ أنْ تقطعَ ما بقيَ من رحلةِ العمر كما عاهده الآخرون، مستقيماً على نهجِه، ملتزماً بأمره، حريصاً على مرضاته، بعيداً عن معاصيه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مجاهداً في سبيل الله تعالى بصدقٍ وإصرار، من أجل استئنافِ حياةٍ إسلامية، خالصةٍ صادقة، تقيمُ المجتمعَ المسلم، وتُنْشِئُ دولةَ الإسلام، وتحكمُ بالقرآنِ وحده، وتحاربُ ليلَ الجاهليةِ والباطلِ والمذاهبِ الأرضيةِ المستوردة.

     ولعلك قد استقرَّ في قلبِكَ العزمُ الجيّاش، والأملُ الوقّاد، واليقينُ العميقُ القوي، أنَّ المستقبلَ للإسلام، فهو طريقُ المسلمين، الوحيدُ للخلاصِ والسعادةِ في دينهم ودنياهم، بل هو طريقُ الإنسانيةِ كلِّها، وطريقُ الحضارةِ للنجاةِ من الصعابِ التي تعاني، والمشاقِّ التي تكابد، والتحديات التي تواجهه، فإنَّ عصراً من العصور لم يشهد من القلقِ والمتاعب والحيرةِ والضياع والصراعِ والمآسي ما شهدَه عصرُنا، مما يجعل حاجتَه للإسلام أكبر، ومما يجعلُ مسؤوليةَ المسلمين أعظمَ في أن ينقذوا بالإسلام أنفسَهم، وينقذوا به البشريةَ جمعاء، والحضارةَ التي باتتْ في الاحتضار.

*****
--------------------------
[1] شعر عمر بهاء الدين الأميري.

أصوات الملبّين

أصوات الملبّين

     ترى أي أثر عميق تركه في الإنسان أصوات الملبّين أيام الحج؟ أي إحساس جميل شفاف، بالوجد والشوق، والرهبة والخشوع، والخوف والرجاء، والحزن والإشفاق، والأمل العارم المتدفق، يمكن للمرء أن يستشعره، وأن يجوب أفياءه وأمداءه، وهو واحد من بين تلك الجموع المزدحمة، جاءت تطلب المغفرة والرضوان وهي تردد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؟

     لعل هذه التلبية هي أعظم أنشودة حية دفاقة تأسر قلوب المؤمنين، ولعلها أجمل أغرودة عذبة حبيبة تمتلك عليهم جميع نفوسهم وكل مشاعرهم:

لبيك نجوى البـــــائسينَ جوانحاً تتحرَّقُ
لبيك رَجْوى المذنبين ببابِ عفوك حلّقوا
لبيك أفئــدةٌ ترفُّ وفي رحابك تخفـــــقُ
لبيك أشـــــواقَ الظِّـماءِ مواكباً تتـــدفقُ
لبيك إيمـــاناً شـــذاهُ مثــــانياً تتـــــــألقُ
لبيك أنفاسُ الحجيج بسرِّ نَفْحِكَ تعبــــقُ
لبيك توحيداً لذاتِكَ بالهدى يتـرقــــــرقُ
لبيك عهدَ عقيدةٍ هي للنضـــــالِ الموثقُ

     وهي تلبية حارة حارة، ممزوجة بأرواح أصحابها الذين تحملوا الصعاب، وقطعوا المفاوز، وغادروا الديار، وتركوا الأهل والولد والمال، يحدوهم رجاءٌ سخيّ، وأملٌ واثق، ويقينٌ مكين أنهم سوف يعودون من رحلتهم وقد ظفروا بالفوز والمثوبة، والعفو والرضوان:

لبيك يا مَنْ لا شريــــكَ له يُـرامُ ويُقْصَـــدُ
لبيك أَشْرِقْ بالرضاءِ عسى يطيبُ الموردُ
لبيك هذا يومُ نَفْحِــــكَ أَنْعُـــــماً تتجــــــددُ
لبيك ضاقَتْ بالعبادِ السُبْـــلُ حينَ تبـــددوا
لبيك مزَّقَهمْ هـــوانٌ عاصفٌ متمــــــــرِّدُ
وَفَدوا بِذُلِّ الحائرين جراحُهُمْ لا تُضْــــمَدُ
هَبْهُمْ لعفوِكَ ليس غيرُك واهباً يُسْـــــتَرْفَدُ

     إنهم عطاش ولكنْ لسقيا الرحمة، إنهم ظماء ولكنْ لغيث المغفرة، لقد قدموا من كل مكان ليكونوا ضيوفاً على الرحمن في هذه الأيام المباركات:

يا ربِّ شُعْثاً أتهموا، يا ربِّ غُبْراً أنجــــدوا
وبطاحُ مكةَ في الصباحِ وفي المساءِ تغـرِّدُ
زانَ المشـــارفَ في حماكَ تبتّلٌ وتعــــــبُّدُ
وتماوجت عرفاتُ شعشعها الجلالُ المُفْرَدُ
وسمَتْ إليك بها المشــــاعرُ عَزْفُهن توجُّدُ
هنّ الضراعةُ والضــــــراعةُ أعينٌ تتسهّدُ
هنّ الحنينُ لظىً يجيـــشُ وباللظى يتصعّدُ

     وأيّاً كانت الذكريات، فذكريات الإنسان عن الحج أجملها وأروعها وأبقاها، كيف لا والتلبية تتكرر كل عام فتتغلغل ريّاها العذبة، وأقباسها الطاهرة، وأغاريدها الحبيبة، وأنسامها العاطرة، في عقله وقلبه وأعصابه، فإذا به أكثر صدقاً وخشوعاً، وإذا بإيمانه يزداد ويرسخ.

     فإنْ كان بين الحجيج فما أسعده!. وما أكرم ما فاز به!.. وإن كان بعيداً عنهم حمله الشوق على جناح الذكرى والخيال، فإذا بروحه هناك في تلك المواطن الغاليات، تلبي وتلبي، وتطلب الهداية والمغفرة، ونصراً عزيزاً تعلو به راية الإسلام ويندحر البغاة والطغاة:

لبيك أعظمُ مشهدٍ في الكونِ هذا المشهدُ
الذكرياتُ الغالياتُ ومجــــدُها المتفــرِّدُ
أَعْلى منائرَ هَدْيِها فجــــرُ النبوّة أحمــدُ
يا ربّ عَوْداً للهدايـــــــةِ زادُها لا يَنْفَـدُ
يا ربّ روحاً عالياً في الحقِّ لا يتــرددُ
يا ربّ نصراً أنتَ فيه على البغاةِ مؤيِّدُ
*****

لبيك اللهم لبيك (5)

لبيك اللهم لبيك (5)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     ذلكم هو الهتاف العلوي الجليل الذي يملأ أجواء أم القرى في كل عام، وتتجاوب به أرجاء مكة المكرمة كلما اقترب الحج، وأخذت قوافل المؤمنين القادمين من كل صوب تصل إلى الأرض الآمنة المقدسة.

     وهو هتاف يفيض نغمة حلوة علوية، وأشواقاً متدفقة نبيلة، تتجلّى فيه روح الحب والإيمان والحنان، يعلن به المحب هيامه، ويصرّح فيها عمّا يكنّه من شوق متّقد، وعاطفة حيّة.. ويجهر بذلك كله منذ أن يلبس ملابس الإحرام، لكنه حين يصل البيت الحرام، يفيض ما فيه ويتدفق، ويزداد فيضاناً وتدفقاً، فلا يرويه إلا أن يشعر بأنه موصول الأسباب بالسماء، وثيق العروة بالإيمان، مترفع على الصغائر والسفاسف، متجرد من المطامع والأهواء، يدوّي لسانه وقلبه: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     إنه يبث لهذه الكلمات العلوية شوقاً أكنّه من زمان، وحباً انطوى عليه منذ دهر، وحنيناً سكن أعماقه من قديم، وها هو يرى نفسه قد تحقق أمل من أكرم آمالها، وغاية من أنبل غاياتها، فلا غرابة أن تراه يدعو دعاء الهائمين، ويثني على ربه ثناء المؤمنين الموحدين، ولا يتمالك نفسه من شدة الفرح الذي غمر قلبه مما أكرمه الله به، فقد تنهل دموعه، ويستبد به البكاء، وقد يسبح في لذة روحية سامية، وقد تهدأ منه الجوارح قلباً وروحاً وجسداً، فتراه صامتاً متفكراً خاشعاً، أو تراه وقد علت وجهه ابتسامة هادئة هانئة شاكرة.

     لقد قرّت عينه بزيارة البلد الذي طالما تمنّاه، فحلّ بمكة المكرمة مهد الإسلام الأول ومهبط الآيات الأولى من الوحي، وحلّ بالمدينة المنورة، التي شرفت باستضافة سيد الخلق محمد ﷺ حياً وميتاً، وكرمت بأنها كانت أول دولة تقام على وجه الأرض بدوافع الفكر والعقيدة والاختيار الراشد، حيث كانت مبادئ الإسلام تجد الطريق العملي للتطبيق الواقعي في دنيا الناس، لتصوغ للبشرية أكرم مجتمع، وتبني لها أشرف حضارة، وتطلع للناس فجراً سعيداً هو أكرم عهودها، وأشرف أيامها، وأجمل ما حفلت به في تاريخها الطويل على الإطلاق.

*****

لبيك اللهم لبيك (4)

لبيك اللهم لبيك (4)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"،

     هذا النداء الرباني البهيج، هو هتاف التلبية المدوية، ترفعها حناجر هذه الأعداد الهائلة من البشر، في رحلة الحج النورانية، منذ كان حجٌّ، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. هذه التلبية الربانية ترددها في أيامنا هذه الأفواه الطاهرات المباركات، لوفود الحجيج القادمة إلى بيت الله الحرام من كل مكان، من أدغال أفريقيا وصحاريها، وأعماق آسيا وفيافيها، وجبال أوربا وثلوجها، من الصحاري والجبال، والسهول والشواطئ، والأمكنة القريبة والنائية، ومن جميع شعوب الدنيا على اختلاف بلدانها وألوانها وأجناسها ولغاتها، من كل مكان، خرج المسلمون في رحلة مباركة كريمة ينشدون بيت الله الحرام، مؤملين الفوز والمغفرة والقبول.

     {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. رحلة مرت عليها قرونٌ وقرون، وكرّت عليها الأحقاب والأجيال والدهور، تبدّلت دول وحكومات، وخلافات وسلاطين، وانقرضت حضارات وقامت حضارات، وماتت إمبراطوريات وولدت أخرى، والرحلة المباركة هيَ هي، حيةٌ في ضمائر المسلمين، جيّاشةٌ في أخلادهم، أثيرةٌ عليهم غالية، هم بها حفيّون وعليها حريصون، لا تزال تدفعهم للمضيّ فيها على الرغم من الحر والبرد، والجوع والعطش، والبعد والغربة، والمشقة والمتاعب، والنفقة والبذل، وآلام السفر ومتاعب الطريق، بل مخاطره أحياناً التي قد تودي بالمرء إلى الهلاك كما كان الناس يعهدون إلى ما قبل نصف قرن من الزمان أو أقل، لكنَّ ذلك كله لم يصرف المسلمين عن أحب وأهم رحلة لديهم، وكيف ينصرفون عنها، والشوق مُلِح، والسعادة كبيرة، والقلب مشوق، والمتعة عالية سماوية، والأمل بمغفرة الله عز وجل وعفوه ورضوانه وجنته كبيرٌ كبير، وإنها لأهدافٌ ومعانٍ يهون من أجلها كل شيء!؟.

     إن الرحلة إلى بيت الله عز وجل هي رحلة التاريخ كله، وهي رحلة الدنيا كلها، رحلة بطول الزمان، وعرض المكان، وتنوع البلدان، واختلاف البشر. رحلة تظل تهفو إليها قلوب المسلمين فيسارعون للمشاركة فيها، ما كان كونٌ وما كانت حياة. رحلة ستظل قائمة ما قامت الأرض لجميع أبناء الأرض؛ ممن ارتضى.. اللهَ تعالى ربّاً، والقرآن الكريم دستوراً وإماماً، وهادياً وحكماً، ومنهجَ حياة، ومحمداً ﷺ نبياً ورسولاً، والإسلامَ ديناً، واقتنع بذلك، ووعى لوازم قناعته هذه، واستقام عليها وتبنّاها.

     إنها رحلة الاغتسال والطهر، والحب والصفاء، والمودة والوفاء، والإيمان والهداية، والتوبة النصوح، والأوبة إلى درب الاستقامة، والنأي عن مزالق الشيطان. رحلة يغتسل الإنسان فيها من ذنوبه وآثامه وخطاياه، ويفتح صفحة جديدة في حياته أن يكون بالإسلام وللإسلام، على ذلك يحيا، وعليه يموت، ومن أجل إعلاء رايته يعمل ويجاهد.

     رحلة يخرج فيها الإنسان إذ يُحرم متجرداً من ثيابه إلا ما يستره، ويندمج في الناس جميعاً في موكب رباني عظيم هو من شعائر هذا الدين وخصوصياته، حيث لا شبيه له قط في أمة من الأمم، أو ديانة من الديانات.

     وفي هذا الموكب تُلْغى جميع الطبقات والدرجات، والشارات والانقسامات، والألوان والبلدات، والأعراق واللغات، وتظهر الأمة المسلمة في الصورة الحقيقية التي يريد دينُها العظيم منها أن تكون عليها، ويشعر المسلمون في هذا الموكب الرائع العجيب أن الملائكة تحفّهم وتنظر إليهم، وأن رحمة الله تعالى منهم قريبةٌ قريبة، وأن عينه تحرسهم وترعاهم وتكلؤهم، وتجبر عجزهم، وتستر نقصهم، وتعين محتاجهم، وتسدد خطاهم، وتتجاوز عن سيئاتهم، وتعفو عن آثامهم وأخطائهم، وتُنْزِل عليهم شآبيب الرحمة والمغفرة والاستجابة والقبول، فتؤمّنهم مما يخافون، وتمنحهم ما يرجون.

     وتنتقل أرواح الناس في هذا الموكب، لتتذكر مع شعيرة الحج الخالدة العظيمة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وتتذكر رسول الهدى محمداً ﷺ وصحبه الكرام أبا بكر وعمر، وعثمان وعلياً، وخالداً والجراح، وآخرين كثيرين، فتمتلئ عزماً وتصميماً أن تواصل المسيرة على دربهم المبارك وهديهم الكريم.

     وتتذكر فيما تتذكر، هاجر زوجة نبي الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهي تعدو بين الصفا والمروة في لهفة حرّى حزينة، باحثة عن قطرة ماء، تبل بها صدى رضيعها الذي أشفى على الهلاك، ويكون في تذكار الناس لها، ما يوقد فيهم لهفةً جديدةً حزينة، يخافون معها ذنوبهم وخطاياهم أن تقودهم إلى الهلاك، وأملاً صادقاً عارماً أن يتداركهم الله برحمته ومغفرته كما تداركت أم إسماعيل من قبل.

     ويمضي الركب هنا وهناك، ويمضي كذلك ليزور المدينة المنورة والمسجد النبوي الشريف، ويلتقي في رحابه بسيد الخلق، سيد البشر، أستاذ العالمين، ومعلم الناس، قائدنا وإمامنا وهادينا، حبيبنا وسيدنا ونبينا، محمد ﷺ، فتكمل الفرحة، وتطيب السرائر، وتشرق الوجوه، وتصفو القلوب، وتسمو الأرواح، ويتقد العزم في المسلم أن يعود من رحلته وقد عاهد ربه عز وجل أن يسير على نهج هذا النبي الكريم ﷺ وطريقه في قابل الأيام، وأن يجاهد لإعلاء الإسلام الذي بُعث به رحمةً للعالمين حتى يرى دولته قائمة، ومجتمعه ماثلاً، ورايته ظافرة.
*****

لبيك اللهم لبيك (3)

لبيك اللهم لبيك (3)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"،

     ما أجملها من نداء علوي جميل، وهتاف رباني خالص؛ تتدفق على الألسنة، وتهتف بها الحناجر، وتدوّي بها الألوف!..

     إنها إشارة إلى عهد يقطعه الحاج على نفسه، أن يلتزم أمر الله تعالى فيما يفعل، ويحكم بشرعه، ويطبق منهجه، ويجتنب جميع صفوف الضلال.

     "لبيك اللهم لبيك"، هتاف رباني جليل، تتجاوب به الدنيا، وتهفو إليه الكائنات. إنه شعار كريم جاءت النصوص بالإكثار منه، والحث عليه، والدعوة إليه، ذلك أن هذه التلبية العظيمة التي تنطق بالاستجابة الخالصة المحضة، والإنابة الممحَّصة النقية، ترفع ألفاظها الحبيبة حناجر الملبين المخلصين؛ هي من أعظم دواعي التأثير في النفس، من حيث تنبيهها إلى لوازم الإيمان ومقتضى الشهادتين، ومدها بزاد جديد وعطاء ثرّ من حرارة الإيمان، وعزيمة التخلص من الشوائب والأدران، بالهمّة المصرة على مغالبة الشهوات والأهواء، والنزوات والرغبات، وتجاوز المعوِّقات التي تحول بين المرء المؤمن، وبين أن يكون حيث يريد الله تعالى له، عملاً وعقيدة، وسلوكاً ومنهج حياة، وأخذاً بكل الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى اليقظة والمنعة، والثقة والحصانة، والقوة والأصالة، على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الدولة كذلك.

     لا يغبْ عنك أيها المسلم ذلك، ولا يغب عنك أنه حين تكون التلبية على مثل هذا المستوى من الوعي والصدق والالتزام، وحيث تكون الأكفُّ الضارعة المرتفعة، صورة حقيقية لقلوب وعقول على المستوى المطلوب من الوعي والصدق والالتزام أيضاً، فاعلمْ إذن أن شيئاً ضخماً قد حدث في حياة المسلمين، وأن نُقْلَةً كبيرة للخير قد حققوها في حياتهم، وأن فجر الإسلام قد اقترب موعده بذلك، وموعده قد أزف، وبداية ظهوره قد أخذت تتوالى بشائرها الحبيبة الغالية.

     لا يغبْ عنك ذلك أيها الحاج الكريم، أيها القادم الوافد إلى بيت الله الحرام.. تعلن التوبة، وتجدد العهد والميثاق. واحرصْ أن تكون واحداً من العاملين لمجد الإسلام، الساعين لإعلاء كلمته، وقيام دولته، يكن لك الخير المبارك العميم في دينك ودنياك وأُخْراك.

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"..

     كأنَّ الحاج إذ يقولها، يتجمع كيانه كله، شعوره ولا شعوره، عقله وقلبه، حسّه وعاطفته، مداركه ومطامحه، ليكونَ له من ذلك وبسبب ذلك؛ مِثْلُ هذا التوجّه الضارع: لبيك يا رب، سوف نسرع إلى تلبية ندائك، ونُهْرَعُ إلى التزام أوامرك، ونصيخ السمع لكل ما تطلبه منا، فنسارع إلى إنفاذه، سوف نجدد التوبة والعهد والميثاق، والإنابة الصادقة، والإخبات الخاشع، سنجدد في أنفسنا ذكريات المجد والغلبة لفوز الإسلام وظهوره، تلك الذكريات الأثيرة الغالية، التي شاءت إرادتك يا رباه أن تنطلق بادئ ذي بدء من عند بيتك الحرام، ثم تمضي تجوب البلدان، تحمل الخير والنور للناس جميعاً، الناس كل الناس، في الأرض كل الأرض.

     وسنزور المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، طيبة الطيبة الحبيبة، ذلك المسجد الذي شهد ولادة المجتمع المسلم الأول بقيادة الرسول الكريم ﷺ، لنتذكر الدرس الكبير في قيامه، ونستشعر خطورة التكليف، وجدية المسؤولية، وعظمة الأمانة، ونجدد العزم أن نسير على المنهج الذي سار عليه الرسول الكريم ﷺ، ونقتدي بما كان عليه أصحابه الأطهار الأبرار، ونعقد العزم على حمل اللواء المسلم الذي عُقِدَتْ رايته أولَ ما عُقِدَتْ في رحاب الحرم الطهور في المدينة المنورة، إبان الأيام الغالية الأولى لقيام دولة الإسلام، وسنظل نحن -معشر المسلمين- نفعل ذلك حتى ننقل الراية إلى الجيل الذي بعدنا ليواصل مسيرة الإسلام المؤمنة المباركة. وسنحاول أن نتأسى بذلك الجيل الرباني القرآني الفريد الذي صاغه رسول الله ﷺ، وهذّبه وربّاه، ونمشي كما مشى، ونفعل كالذي فعل، عسى أن ندرك شيئاً من الأفق السامي الذي حلّق فيه، والمطامح الكبار التي استطاع أن يحققها في واقع الناس.

     إنه النداء الرباني السماوي الجليل "لبيك اللهم لبيك"؛ هو الذي جاء بهذه الأعداد الهائلة إلى ظلال أول بيت وضع للناس، لتلبي كلها، لتطوف كلها، لتسعى كلها، وتقف بعرفة كلها، لتتحرك في السهل والجبل، والبر والبحر والجو، لَهِجَةً بالتلبية، ناطقةً بالدعاء، خاشعةً لله، ذليلةً بين يديه، ضارعةً منيبةً إليه.

     إنه النداء الإيماني العظيم "لبيك اللهم لبيك"؛ الذي جاء بهذه الأعداد الهائلة المؤمنة جميعاً إلى مهد الإسلام الأول ومأرزه ومنطلقه، هو النداء نفسه يحدوها اليوم، لأن تصيخ السمع إلى كلمة الإسلام من جديد، فتتذكر واقع المسلمين في كل صقع من وطنها الكبير، وتضع كل طاقاتها في خدمة العقيدة التي اجتمعت عليها الأمة، والمنهج الذي على هديها سادت حضارتها في العالمين. وهو النداء نفسه الذي يدعوها لأن تعقد العزم على أن تكون وفيّةً لعهد الإسلام، صادقة مع بني الإسلام، مستجيبة لدعوة القرآن.

     وهو النداء نفسه الذي يدعو حشود الحجيج الهائلة هذه، أن تخلع عن نفسها كل ألوان الجاهليات المعاصرة، والمبادئ الدخيلة، والأفكار المستوردة، وأن يكون جميع ولائها للإسلام وحده، تدعو إليه، وتجاهد من أجله، وتسعى لإقامة دولته، وبناء مجتمعه، ورفع رايته خفاقةً عالية في ربوع العالمين.

*****

لبيك اللهم لبيك (2)

لبيك اللهم لبيك (2)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     إن لك أن تقرر بأن المسلم حين يُهل بهذه التلبية الربانية الكريمة، بحرقة وشوق، وصدق وحنان، إنما ينبغي له أن يصير إنساناً جديداً، صح منه العزم على بدء حياة جديدة، كلها نأي عن الشيطان، وطاعة للرحمن، ذلك أنه حين يلبي.. يخاطب خالقه السميع البصير، القوي العزيز، الرؤوف الرحيم، دون أن يكون ثمة حجاب أو واسطة..

     يخاطبه معترفاً بالتقصير، مقراً بالذنب، طامعاً بالتوبة والغفران، وغسل الخطايا ومحو الآثام..

     يخاطبه بذلك وبغير ذلك، فيهيج الشوق فيه، وتتضرّم العواطف الخيّرة المباركة في أعماقه، فيرق القلب، ويصفو الوجدان، ويفيض الحنان، ويشعر بأنسام الرحمة وإشراقة القبول، يتلقّاها بكينونته كلها، ويستقبلها بوجوده جميعاً فيغدو أهلاً لتلقي هذه البشائر في حركاته وسكناته، ونومه ويقظته، وطوافه وسعيه، وتعبه وراحته.

     كيف لا..!؟ وهو يعيش في هذا الجو الروحاني المبارك الذي امتد وتعاظم حتى تغلغل في أعمق أعماقه، وسرى منه مسرى النفس، وجرى فيه مجرى الدم في العروق، وتدفق في قلبه وعقله، ونفسه وروحه، وملك عليه كيانه كله، ومنافذ الحس والرؤية، وطرائق التلقّي والفهم، وأساليب التعامل والإدراك، ووسائط المعايشة بكل جوانبها، وأنماط السلوك بكل شعابه، فإذا به شلّالٌ من نور، وأَلَقٌ من هداية، وبسمة من غفران، ورضى من قبول، وينبوع من خير، ومعين من صدق وحنان، وطهر ونظافة، وسمو وارتفاع، حتى لكأنه بشرى مجسّدة من بشريات الرحمة، تكاد تقول: هنيئاً لكم أيها الحجاج!.. وطوبى لكم وحسن مآب!.. لقد تقبّل الله عز وجل منكم مسعاكم فلن تنقلبوا من ضيافته خائبين.

     ولا يخطئ المسلم أن يلمح في فريضة الحج بما تضمّنه من أركان وشروط، وواجبات ومندوبات عنواناً وعلامةً ودليلاً، على أمانة الأمة الإسلامية لما ورثت من ملة أبيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، من التوحيد النقي الخالص، الذي لا تعكِّر صفاءه شائبة قط، ومن تعظيم الله عز وجل، تعظيماً يليق به في بيته الحرام، الذي جعله مثابةً للناس وأمناً، وموسماً للجود الإلهي الكبير، حيث تتدفق رحمته الواسعة الكبيرة، على ضيوفه الشعث الغبر، القادمين من بلاد بعيدة، الباذلين المال بطيب نفس، المحتملين المشاق برضى وارتياح، فيستجيب وهو الغفور الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، يقبل دعاءهم، ويغفر خطاياهم، ويعطيهم عطاء القدرة التي لا حد لها، والجود الذي لا ساحل لكرمه ومنحه وسخائه.

     لا يخطئ المرء أن يلمح ذلك، ولا يخطئ كذلك أن يرى في كل شعيرة من شعائر الحج، وفي كل نسك من مناسكه، هدية من هدايا البر والجود، ورحمة سابغة غنيّة، وروضة من رياض القبول والغفران، يرتع فيها المؤمن هانئاً سعيداً، فثمة عطاء الكريم المنّان، وأكرمْ به من عطاء!.. وثمة إحسان ذي الجلال والإكرام، وما أعذبه!.. وما أغزره!.. وما أطيب عبيره الطيب، ونَشْره الذكي، ومسكه الفواح، ونوره الوهاج!..

     إنه الحج، فرصة ربانية غنية، نورانية ثرية، يبث فيها المؤمن أشواقَه الحارة، وتطلعاتِ قلبِه الملهوف، وحبَّه الصادق، ودعاءه الخاشع، ورجاءه الضارع، ودموعه الأبيّة الحرّى، التي لا تسيل إلا بين يدي خالقه عز وجل، يسكبها شوقاً إلى كل ما يرضي مولاه، وخوفاً من كل ما يسخطه ويغضبه.

     إنه مثابة الروح التي طال بها الحنين، والنفس التي ألحّ عليها الظمأ، والقلب الذي استبدّت به الأشواق، إنه المثابة التي يتلقى المؤمن في كل ساعة من ساعاتها عطاءً إلهياً مباركاً، وزاداً روحياً من السمو والتقوى، يشعر بها كل الذين تفتّحت قلوبهم للنفحات الكريمة، والتجليات الحبيبة، وزالت عن أبصارهم الغشاوة، وعن بصائرهم ران الغفلة، فإذا بهم وقد تسربلوا ثوب العبودية الخالصة لله عز وجل، وائتزروا بعزة الذلة إليه، وقوة الافتقار والتضرع له، وتجردوا من كل قوة سوى قوته، وبرئوا من كل حول سوى حوله، تماماً كما تجردوا من المخيط وتوشّحوا ملابس الإحرام، وهُرِعوا يطوفون ويسعون، ويبكون ويستغفرون.

     وما يكاد المؤمن في حجّه يفرغ من تلقّي واحدة من تلك النفحات الربانية الكريمة، حتى يسعد بثانية تليها؛ وهكذا دواليك.

     وحين تقول: عطاء الكريم الجواد فلا غرابة ولا عجب، وعندما تقول: إحسان ذي الجلال والإكرام فحدِّثْ ولا حرج، وحين تقرر بأنه الجود الرباني اللانهائي الذي لا يحده شيء قط فبالغْ ما استطعت فيما تتصور من هذا الجود، فكل الذي تتصور أقل من القليل في كرم الله عز وجل، وإذا قلت: إنه العفو والمغفرة والاستجابة فلا حرج، فالكل في رحاب البيت العتيق، وفي ضيافة رب البيت العتيق، ومن دخل هذه الرحاب فهو آمن، ومن قصد تلك الضيافة فهو فائز.

     وبعد؛.. فإننا إذ نقدم أعمق التحية والتهنئة لحجاج بيت الله الحرام، بأعظم وأكرم وأنجح رحلة يقوم بها إنسان، وإننا إذ نزف لهم بشائر الخير والقبول والفوز لا يفوتنا أن نضع أيديهم وأنفسهم، وإدراكهم ومشاعرهم على أنَّ الحج هو عهد وموثق أنْ يستقيم الحاج على دين الله، وأن يجنّد نفسه لخدمته، وأن يكون من دعاته وأنصاره، الساعين لإعلاء رايته، العاملين لطلوع فجره البهيج، المجاهدين من أجل قيام دولته، وتكوين مجتمعه، وسطوع نوره في جميع ربوع العالمين.

*****

لبيك اللهم لبيك (1)

لبيك اللهم لبيك (1)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

     هذا هو الهتاف الرباني الكريم الذي تردده الحناجر المؤمنة في رحلة الحج، تلك الرحلة الكريمة التي يجدد المسلم فيها عهده لله عز وجل، وبيعته إياه، منخلعاً عن كل ألوان الجاهلية ومبادئها الضالة، وأخلاقها الفاسدة، معلناً أن كل ولائه هو للإسلام، وللإسلام وحده.

     وإنَّ في النداء الكريم الوضيء، لبيك اللهم لبيك، كنوزاً من المعاني المشرقة الرائعة، والمشاعر السامية النبيلة، والإشراقات الروحانية النورانية، هذه الكنوز السماوية الغنيّة، الطيّبة الزكية، لها دورها الكبير في إحداث النقلة الإيمانية في حياة الحج نحو الأفضل والأكمل.

     إن مما تؤديه هذه الكنوز أنها تجعل الحاج يصحح عقيدته بادئ ذي بدء حتى يكون مسلماً تام الإسلام، مؤمناً مكتمل الإيمان، الله عز وجل هو ربه وغايته، ومحمد ﷺ نبيه وقائده وهاديه، والقرآن الكريم دستوره وإمامه وكتابه، والكعبة الغرّاء قبلته، والمسلمون عشيرته وأهله وذووه. جنسيّته هي دينه الذي ينتسب إليه، وجهده الدؤوب هو السعي لإعلاء كلمة الله عز وجل وتحكيم شريعته في الأرض.

     ومن نتائج رحلة الحج في نفس الحاج، أن يظل يحاسب نفسه، ويستشعر تقصيره، ويجافي كل ما يعوّق سيره نحو الهداية من عادات ومألوفات، وشهوات ومغريات، وأهواء وتطلعات، ويسارع إلى كل ما يستنقذه من وهدة الضعف البشري، ويحث خطاه نحو طاعة الرحمن، من عبادةٍ صادقة، وارتفاعٍ فوق السفاسف، وحملٍ للنفس على ما تكره، وتلاوةٍ متدبّرة، وذكرٍ متفكّر، وخدمةٍ لإخوانه في الله، وبذلٍ للمال والجهد والوقت والأعصاب، وعملٍ موصول من أجل إنقاذ المسلمين مما يعانون، ورغبةٍ في استئناف الحياة الإسلامية من جديد بكل أبعادها الطاهرة المباركة، وفي جميع ديار الإسلام.

     وإذا كان المرء قد وجد في التلبية أمثال هذه المعاني السامية جميعاً، فإنه كذلك أن سيجد في كل مناسك الحج الأخرى بستاناً من الخيرات، وحديقة وارفة الظلال من المعاني السامية، والتأملات الصادقة، وروضة طيبة معطارة تفوح بالنَّشْر الذكي، والمسك العاطر، والعبير الدافق.

     ويا لسعادة مَنْ فاز بهذه المعطيات الرائعة الثريّة، التي يهون المال والعمر، والوقت والجهد، والمشقة والتعب، من أجل بعض بعضها، فكيف بها كلها!؟ يا لسعادته!.. ويا لروعة ما فاز به من تعرّضٍ للرحمة الربانية التي لا تنفد خزائنها على العطاء!.. وإن كثر السائلون، ولا يَبْلى ثراؤها قط، بل إنه ليزداد، ولا يجف معينها أبداً، بل إنه ليغزر.

     يا لسعادته ويا لهناءته!.. طوبى له طوبى!.. طوبى له وحسن مآب!.. طوبى له إذ يقف بالبيت العتيق، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويرمي الجمار في منى!.. طوبى له إذ يلبّي وينحر، ويحلق ويهرول، ويشد الرحال إلى مسجد الرسول الكريم ﷺ!

     طوبى له إذ يسفح العبرات متذللاً خاضعاً باكياً مستغفراً!.. طوبى له إذ يحتمل المتاعب والمشاق بنفس راضية وروح مشرقة!.. وطوبى له إذ يصبر على تبديل العادات والمألوفات والتزام التجرد عن كل مظهر يتنافى مع المساواة بين جميع القادمين!.. طوبى له إذ يفعل ذلك كله!.. فعسى أن تترك في نفسه مثل هذه المعايشة الممتازة، في هذا المناخ العظيم الرائع، جواً نفسياً عالياً، وأفقاً روحياً سامياً، وعزماً وحزماً، وهمةً وقّادة، أن يلمح بسرعة وشفافية كل خير فيسارع إليه، وكل شر فيجانبه، وأن يقرر قراراً حاسماً جازماً أن يعيش بالإسلام وللإسلام، عليه يحيا، وله يجاهد، وعليه يموت، وأن يدخل إلى ساحة المبرّات والمكرمات والفضائل، والاستقامة والعفة والطهر، والصدق والمروءة والهداية، فترسخ عطايا هذه الساحة المباركة في نفسه، وتتعمق في ذاته، لتغدو له خلقاً ثابتاً، يرافقه في حجه، وبعد منقلبه المبارك المشكور إلى أهله، وأوبته الميمونة الحميدة إلى بلده، وما أعظم هذا الكسب حين يفوز به!.. وما أكرمه من زاد يحصّله في هذه الدنيا الفانية!

     وإذا كانت كارثة الأقصى الحزين الأسير وما حوله من ديار الإسلام في فلسطين المسلمة تنزل بكلكلها الرهيب على صدر هذه الأمة المنكوبة، وما أكثر كوارث أمتنا المبتلاة في الفلبين وكشمير، وأرتيريا وتركستان، وشتى ديار الإسلام في كل مكان!.. فإن على المسلم أن يعي بدقة وجدية خطورة كارثة الأقصى، فهو جزء من دار الإسلام له حقُّ الذود والدفاع والجهاد لاستخلاصه، لكنه ينفرد عن الأجزاء الأخرى الأسيرة المنكوبة، بأنه ثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول الكريم ﷺ، وإذن فإن له علينا حقاً مضاعفاً ومسؤولية مؤكّدة، مما يجعل واجبنا في السعي من أجل إنقاذه أكبر وأخطر.

     يا أيها الإخوة الحجيج!.. يا أيها المسلمون عامة!.. حذار أن تبقى قدسكم أسيرة، وأن يبقى أقصاكم مهاناً، وأن تبقى مآذنه مكلومة، وأن يبقى أذانه جريحاً راعفاً.

     واعلموا أن السبيل الوحيد لإنقاذ القدس والأقصى وديار الإسلام جميعاً؛ إنما هو في الجهاد المؤمن الملتزم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم ﷺ، فالبدار البدار إلى الجهاد!.. فيه ترضون ربكم، وتحرّرون بلدكم، وتقيمون دولة إسلامكم، وتشيدون مجتمعها الطاهر الذي يحكمه الإيمان والقرآن دستوراً ومنهج حياة.

*****

الأكثر مشاهدة