إلى جِنِّي الشعر العربي، وعبقريه، وحكيمه، وقمته، من كان ولا يزال مالئ الدنيا وشاغل الناس، أبي الطيب المتنبي، عفا الله عنه وعنا.
رأيتك في الضميــر ومقلتيـا
وفي خلدي سكنت وأصغريا
فأنت،وإن كرهتك، في صباحي
وإمســــائي طروبــــاً أو شجيــا
وشعرَك لا خصالَك من أصافي
ولا أرضى لـــــه أبـــداً سميـــا
علقت به صغيـــراً مستهاماً
وحين الدهر غضَّن وجنتيا
أرى أشعارك الدرر الغوالي
وأنـك كنت فيــها العبقــــريا
حبــــاك الله منها منتهـــــاها
فجـــزت حبيبها والبحتــريا
جلست على أعاليها وحيــداً
وجاءك كل من نظموا بكيـا
إذا سكتوا فمن عجـــز وذل
وإن نطقوا هووا عنها هويا
وشعــــرك بينهم نار تلظى
أراهم في مواقـــــدها صليا
*****
أبــا الحظ الذي ملأ البرايا
قصائد لم تزل تدوي دويا
أحقاً كنت للشيطان صيـداً
وكنت له وكان لك الوليــا
وأنك كنت للأوهام مرمى
وأنت المرء نعرفه الذكيـا
سقاك الكبر أكواباً دهاقــاً
وعاطاك الضلالة والحميا
فكنت المرء مقتــــله هواه
كما قتل الضلال السامريا
وما نفع الذكاء لذي فــؤاد
غــدت آماله زيفاً وغيــــا
يضل بها ويحسبها هداه
ويعشقها وقد كانت فَرِيا
لقد كنت الذي سنّ المعاصي
وألبس عُريها المفضوح زيا
كذوبـــاً ظنه وشياً وستــراً
خــذولاً ظنـــه إلفــــاً حميا
وما كان الذي يرضي المعالي
وما كان الذي يغنيــك شيــــــا
فحينـــــــاً ترتـــديه قرمطياً
وحينـــــــاً ترتـــديه أشعبيا
وإن يممت فارس ترتديه
بك الأطمـاع ثوباً فارسيا
وتزعم تارة سفهاً وحمقاً
بأنــك قد بعثت لنـا نبيـــا
*****
أبــالدين الحنيف تروم دنيا؟
أجبني واكشف السر الخفيا
ولوطلبت عزيمتك الأماني
بغير الدين لم تكن الشقيـــا
وقد نلقى لما جئت اعتذاراً
فرب مؤمّل طلب القصيــا
يريــد به الإمارة والعطايا
ليغـدو السيد القرم الثـــريا
ولكن خادعتك النفس حتى
غدوت وأنت ذو عقل غبيا
لأنــك كنت من كبر ووهم
شديــد الخنزوانة نرجسيـا
نعم في الشعر قد كنت المجلي
ولكن في مطامعــك الدعيـــــا
*****
يقول البعض حكمته كسته
مفـــــاخره فصار الألمعيا
فما هو شـــاعر لكن حكيم
لأسرار الخـــلائق قد تهيا
فغاص على دفـــائنها طويلاً
غضوباً أو حسوداً أو رضيا
وعـرَّاها فكانت في يديــه
نواطق لا ترى فيها عييـا
عرفت النفس لما غصت فيها
فكنت علـيـمها واللوذعيــــــا
وكنت بها النطـــاسي أحوذياً
ومن لك بالنطــــاسي أحوذيا
كأن سرائر الإنسان صارت
كتــــاباً أنت تقــــرؤه جليــا
تقــــول هي السجايا كالبرايــا
معادن في الثرى أو في الثريا
ورب سجية ولدت حصاناً
تجــــاور توأما ولدت بغيا
*****
وبعض قال فيك وكنتُ منهم
بأنك شـــاعر كان الكفيــــــا
تعــوَّد أن تسابقه القوافي
فيســـــبقها ويتركها جثيا
كواسف ينتحبن وهن صرعى
لأنــك كنت إعصـاراً عتيـــــا
نعـــم أنت الحكيم وأنت أيضاً
فتى الإبــــداع تملكه سويــــا
جمعت الدرَّتيـــن فتى سريــا
فجـــاء الشعر منك فتى سريا
ليبــقى ما شدا بالضـــــاد شادٍ
وما حفظ الأنـــــام له رويــــا
وتبقى أنت شغـــلاً للبـرايــــا
تخــــاصم فيك فاطمة ثريــــا
ويغضب راشد سعداً ويرضي
أســـامة فيــــك زيداً أو عليــا
*****
لك العربية انقــــادت وألقـت
إليك زمامها لم تبــــــق شيــا
حبتـــك كنوزها فغرفت منها
وصرت بها العليم الصيرفيا
تصـــرفها يمينـــا أو شــمالاً
وتلبســـها كما شئـــت الحليا
فتـــأتي مرة برقـــــاً ورعداً
وآونة بســــاطاً سنــــدسيـــا
فصار لك القريض فتى مطيعاً
وصرت على ممـــالكه وصيا
وأجوده المعاني خــالدات
لبسن الحسن ثوباً يوسفيـا
تألق فكرة وأجـــاد وصفاً
وعز مكانة وســــما بهيـا
*****
أتذكر يوم أن صغت القـــوافي
وأسكرت السـرايــــــــا والنديا
مدحت بها فتى الهيجا علياً[1]
فـنــــــال بها الذرى مجداً عليا
وكنـــت بودّه العــــــالي حرياً
وكان بشعرك الأعــــلى حريا
ولا عجب فأنت أبو القــوافي
مدحت بها الشجاع السمهريا
حباك القرب والبِدَرَ الغـوالي
وتشــــــهد كان فيها الحاتميا
فبـــاد عطاؤه وثناك بــــــاق
يطوِّف في الدنى نضراً فتيا
يزيـــد الدهر نضرته فيـبقى
وسيــماً مشـــرقاً طلقاً نقيــا
ولولا أن شعــــرك عبقري
لصار عليّ في الدنيـا نسيا
منحت له البقاء وأنت أبقى
لأن الخلد كان بك الحفيـــا
*****
كأن لما نظمت جنـــــاح صقر
يطوف بك الورى ميتــاً وحيا
ويختصر البحار وإن تمــادت
ويطوي السهل والصحراء طيا
يشـــرق أو يغرب وهو فينا
صبــاحاً أو أصيلاً أو عشيا
فـــــآونة يلوح لنا بنجـــــد
وآونــــة نـــــراه أردنيــــا
وآونة يحط على دمشــــق
وقد نلقـــــاه يوماً قرطبيــا
ولو أني وصلت الصين أشدو
بـــه لرأيته نــــادى عليـــــــا
ولكن إن أتى الشهبــــاء يبقى
عليــها وهو مزهـــو مليـــــا
لأن السيف كان لها عـــلاها
وكان الفارس الضخم الكميـا
وأنت السيف شعراً وهو شعر
ولكن في المعامع خـــــالديـا
فكان وكنت سفـراً من فخار
حفيـــاً عاشقـاً يلقى حفـيــــا
*****
ولم أر مثل شعرك في القوافي
إذا ما الشعر جال بمسمعيا
يطوِّف ما يطوِّف ثم يأوي
إلى العــربي يلقــــــاه نجيا
يرى فيه العجائب ما ثلات
ويبصر فيه سبكاً عسجديا
ويبصره حكيــــماً فلسفياً
ويبصره عـنيـــفاً ملحميا
وقد يـأتي وفي قحة بذيئاً
وقد يـأتي طهوراً مريميا
وأنى كان فهو النجــم يسمو
ويعجز كل من نظموا رقيا
وها هو في العقول سطور فكر
وفي الآذان عـزفـــــاً موصليا
حديث الناس من قـاصٍ ودان
عجـــوزاً أو فـتيــاً أو صبيــا
يردّده المشاحن والمصـــافي
سـكــارى قد سقيــن البــابليا
*****
لقد غامرت في شرف مروم
ولم تقـنـع بما فوق الثريـــــا
وعاقرت الأماني كاذبـــات
ولم تكن الشكور ولا التقيـا
وكان لك ادعاءات مراض
لبســن الكبر ثوبـــــاً خلبيـا
ولذّ لك التسول وهو خـزي
أضعت بشؤمه مـاء المحيا
ومن أهلوك؟ أطمـاع قباح
مراض لا ترى فيـها زكيا
غدوت بهن مأسوراً معنّى
لقيت الناس أم كنت الخليا
وتحســبهـــن آلاء ونعمى
وخلاً قلتَ: هيا، قال: هيا
وهن الغول لو تدري وسم
وشيطان أتى جَـــلْداً قويــا
نديمك حرقة تغلي وصل
وقد صيّرن ليــــلك نابغيا
بماذا عدت عدت فتى حسيراً
ولم تجد المعيـــن ولا الصفيا
وعدت تجر خيبتــك انكساراً
كأنــــك تـــائه فقــد المطيـــا
ولم تنل الإمارة ترتجيها
لها جاه ولم تصر الغنيا
ومجدك أيها المأفون شعر
يقول أنا الخلود أصخْ إليا
وقد أعطاك مقوده سعيـداً
وقد أعطاك رائعه رضيا
فرحت تبيعه يمنى ويسرى
لمن كان السري أو الدنيــا
مدحت مسوداً ومدحت نذلاً
ومن أبغضتـــه والأريحيــا
وآخر كان نجماً في الدراري
وآخر كان مملـــوكاً خصيــا
كذلك كنت تجتــرح الخطايا
عنيفــاً أو رفيقـــــاً أو حيـيا
فـــأنت العاشق الدنيا ولكن
حبتـك نزارها ضحلاً وبيا
ومن لم يعشق الدنيا قديماً؟
ولكن أيّـنــــا كان الحظيا؟
فلا تَلُمِ الزمــانَ ولُـمْ فؤاداً
ضللت به ولم يـك هدهديا
ومن يك عقله مراً مريضاً
رأى في الشر درباً راشديا
*****
أبا الحكم الزوائن والقوافي
زوائن لُحْنَ نجـــماً أحمديا
أتحسب أنك المُهْـدي إليها
خلوداً سار في الدنيا سنيا
إذن أخطأت إن الشعر خلد
ولن تـلقى له أبداً نعيــــــا
تنام عن الـشوارد وهي جذلـى
تطوِّف في الضمائر والمحيـا
وفي الإنسان إن يخسر ويظفر
وفي الإنسـان براً أو غويــــا
فـكلٌّ واجـد فيـــه صـــــــداه
إذا يلقى الكريه أو الشهيــــا
فقل للحاسدين وهم حشـــود
وقـلهـا في فـم الدنيا مليـــــا
فأياً كنت يا طرقي فـــكوني
عـدواً أو صديقـــاً أو وليــا
سأبقى للعروبة حيث كانت
نشيداً كالدراري سرمديـــا
ويمضي الزيف زوره ذووه
وإن لبـــــس اللآلي والحليا
*****
نجي الخــلد كنت به ولوعاً
وكان كما حلمت لك النجيا
لقيت الدهر إعساراً ويسراً
ولكن لم تـكن يوماً هنيـــــا
لأنك مهجة أخنت عليـــها
مطامعها فكنت لها السبيا
لماذا لا تجيب؟ أنا زعيـم
لقد كان اللعيــن لك الرئيا
يساقيك الرزايا كأس خمر
ونيراناً فتحســــوها مريا
*****
شقيــت بما أتــــاك وما تأبــَّى
فـــلم تسعد فقيـــــراً أو غنيــا
وظلت نفسك الغرثى تعـــاني
وظل الجسم من نصــب شقيا
ومن أرداك أردى منك جسماً
وقد أبــلاه عزمك شـمريـــــا
رمــاه فاتــــك فحـــواه قبـــر
طوته الريـــح والأيام طيــــا
تـــأملْه ستلقــــاه نشيــــــــداً
وسيلاً حيثما يمضي أتيـــــا
وها هو لم يزل فينا جديـــداً
يجوب الناس والدنيا وضيا
لأنـــك من سقـــاه أصغريه
فجـــــاء كلاكما حـــراً أبيا
إذا غنته في نــــاء سعــــاد
أجابتــــها بأنأى منه ريــــا
فيمضي حيث قرن الشمس يمضي
نقـيــــاً مشـــرقياً مغــربيـــــــا
ومن كانت مطامحه كبــاراً
سيـــبهرنا شقيـــــاً أو تقيــا
*****
أتذكر يوم حبّــرت القـــوافي
فما أبقيت للشعراء شيــــــا؟
وأطفأت المئين فهم حِـــزانٌ
وما أبقيـت حتى الألمعيــــا
وأنت وبعد ألف في حمانـــا
قريضك لم يزل غضاً طريا
فنقرؤه اتفاقـــاً واختـــــلافاً
ويبهرنا عسيـــراً أو طليــا
لقد أضناك وجداً واقتــداراً
وأسهر مقلتــيك ومقلتيــــا
ونلت به الخلود وأنت حي
وأنت اليوم أخلد منك حيـا
وهبت الخلد شعرك عبقرياً
فكان الشعر خلــدك عبقريا
*****
---------------------
[1] علي: هو اسم سيف الدولة الحمداني.
