الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 14 - ملحق: مراث من نوع آخر

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

14- ملحق: مراثٍ من نوعٍ آخر:

     في ديوان شوقي لون من الرثاء لا يرثي فيه أعلاماً أو أصدقاء أو أقرباء بأعيانهم وإنما يبكي كوارث عامة، كحريق أو زلزال أو وباء أو سقوط دولة أو عزل حاكم، وهو ما ينبغي أن نقف عليه لاتصاله الوثيق بالرثاء، وهو نوع قديم في الأدب العربي، يشكل فيه باباً واسعاً، وفي ديوان شوقي الكثير الذي يستحق الوقوف عنده استكمالاً لدراسة مراثيه.

     من أجمل مانقع عليه بكاؤه بني أمية بكاء حزيناً مرتين، الأولى في سينيته المشهورة التي حاكى فيها البحتري، والثانية في نونيته الجميلة التي قالها في زيارته لدمشق.

     في القصيدة الأولى، يجد شوقي نفسه في حال مماثل لحال البحتري، فكلاهما محزون مصاب، وكلاهما يلتمس العبرة من خلال آثار باقية لدولة زائلة. وقد أحس شوقي بذلك فأشار إليه في مقدمة القصيدة، ثم ذكره في أحد أبياتها:

وعـــظ البحتري إيوان كســرى     وشفتني القصور من عبد شمس

     والأبيات التي يرثي فيها شوقي بني أمية وملكهم الزائل في الأندلس، آية في البيان الجميل، والتصوير الحي، والعظة النابضة بالحزن في حس تاريخي مرهف، يبدؤها على النحو التالي:

أيــن مروان في المشـــــارق عرش     أمــوي وفي المغـــــارب كــــرسي
سقــــمت شمســــهم فرد علـيـــــــها     نـــــورها كل ثـــاقب الرأي نطــس
ثم غـــابت وكل شمس سوى هاتيـــ     ــك تبـــلى وتنطـــوي تحــت رمس
وعـــظ البحتري إيوان كســــــــرى     وشفتني القصور من عبد شمس[1]

     ثم يصف أطلال القوم البالية في ربوع الأندلس الزاهية الجميلة، وصفاً ينتهي بالعبرة التي يلمسها بأصابعه الخمسة في قرطبة، حاضرة الدولة الأموية في الأندلس، وبدعاء جميل لها:

رب ليل سريت والبرق طرفي     وبســاط طويت والريح عنسي
أنظم الشرق في الجزيرة بالغـر     ب وأطوي البــلاد حزناً لدهس
في ديـــــار من الخلائف درس     ومنــــــار من الطوائف طمس
وربى كالجنان في كنف الزيتو     ن خضر وفي ذرا الكرم طلس
لم يرعني ســوى ثرى قرطبي     لمست فيه عبـرة الدهر خمسي
يـــــا وقى الله ما أصبــــح منه     وسقى صفوة الحيــــا ما أمسي

     ويعتز شوقي بقرطبة، تلك المدينة الصغيرة التي جعلها بنو أمية شيئاً مهماً جداً، لا في إسبانيا فحسب، بل في القارة الأوربية كلها:

قريـــة لا تعد في الأرض كانت     تمسك الأرض أن تميد وترسي
غشيت ساحل المحيــط وغطت     لجة الروم من شــــــراع وقلس

     ويمضي شوقي مع خواطره وأحلامه، فيخيل إليه أنه في تلك الديار أيام مجدها، في قصورها الباذخة، ومساجدها الجليلة أيام الجمع، والخليفة تأتيه الوفود باذلة الطاعة، وجامعة قرطبة يفد إليها الطلبة من مسلمين ونصارى للتعلم فيها، لكن السنة لا تلبث أن تزول عن عينيه والغفلة عن قلبه، فيرى الدار خاوية خالية:

ركب الدهر خــاطري في ثراها     فـــأتى ذلك الحــمى بعد حـــدس
فتجـــلت لي القصـــور ومن فيـ     ـــهـا من العز في منـــازل قعس
وكــأني بلغـــت للعــــلم بيتــــــاً     فيه مــال العقـــول من كل درس
قـدســـاً في البلاد شـرقاً وغربــاً     حجــــه القوم من فقيــــه وقـــس
وعلى الجـــمعة الجـــلالة والنــا     صر نور الخميس تحت الدرفس
سنـــــة من كرى وطيـــف أمان     وصحا القلب من ظلال وهجـس
وإذا الــدار ما بهـــا من أنيــــس     وإذا الـقــــوم ما لهـــم من محس

     ويبدع شوقي في تصوير المسجد الشهير في قرطبة وهندسته وسواريه ونقوشه ومنبره وقدمه، في مقطع جميل ينهيه بهذا البيت الذي يذكر فيه صقر قريش فارس بني أمية الأكبر في الأندلس ومؤسس دولتهم والبادئ ببناء الجامع العظيم:

صنعة الداخل المبارك في الغر     ب وآل له ميــــــــــامين شمس

     ثم ينتقل شوقي من قرطبة إلى غرناطة ليصور لنا حمراءها الشهيرة البديعة التي مشت فيها الكوارث، كما يمشي الموت في دار عرس فبقي لها رواؤها الرائع ودخل عليها حزنها الفاجع، فصارت أعجوبة يزورها الناس، يقرؤون فيها تاريخاً عزيزاً حزيناً، وينقلون الطرف في عجائبها، وخاصة في ((بهو السباع)) أغلى ما بقي منها، حيث بقيت الأسود تمج الماء في قاعة أقفرت من رباتها اللاتي كن يمشين فيها وكأنهن الأقمار:

مشت الحادثات في غرف الحمـ     ــراء مشي النعي في دار عرس
هتكت عزة الحجــــاب وفضــت     ســـدة البـــاب من سميــر وأنس
عرصـــات تخلت الخيـــل عنها     واستراحت من احتــراس وعس
لا ترى غير وافـدين على التــــا     ريخ ساعين في خشــوع ونكـس
قــلوا الطرف في نضــــارة آس     من نقوش وفي عصــارة ورس
وقبــــاب من لازورد وتبــــــــر     كالربى الشـــم بين ظل وشـمس
وخطـــوط تكـفـــلت للمعـــــاني     ولألفـــاظها بـــأزين لـبـــــــــس
وتـــرى مجلس السبــاع خـــلاء     مقفر القــــاع من ظبـاء وخنــس
لا الثريــــا ولا جواري الثريـــا     يتنـــــزلن فيه أقــــــمار إنــــس
مرمر قـــــامت الأســـــود عليه     كلة الظفــــر لينــات المجـــــس
تنثــر الماء في الحيــاض جماناً     يتـــــــــنزى على ترائــب ملـس

     ويبدع شوقي في تصوير آخر عهد المسلمين بالجزيرة الأندلسية، حيث تنكس راياتهم ويغلبون، ويسلم آخر ملوكهم أبو عبدالله الصغير مفاتيح الحمراء للغالب الإسباني، ثم ما يلبث أن يطرد المسلمون فتحملهم السفن كما تحمل النعوش الموتى، على عكس حال أجدادهم الفاتحين الذين كانوا فيها كالملوك على عروشهم:

آخـر العـــــهد بالجزيـرة كانت     بعد عرك من الزمان وضرس
فتــــراها تقول راية جيـــــــش     بــــاد بالأمس بين أســر وحس
ومفـــاتيحــــها مقـــــاليد مــلك     بــاعها الوارث المضيع ببخس
خـــرج القوم في كتــــائب صم     عن حفاظ كموكب الدفن خرس
ركبـــوا بالبحـــار نعشاً وكانت     تحت آبـــائهم هي العرش أمس

     وينتهي شوقي إلى حكمة فلسفية هي: خلاصة عبرة، وعصارة تأمل، وزبدة تجربة، يختم بها قصيدته الرائعة، ملتمساً العبرة من تغير الدنيا وتنقلها، مؤكداً فيها المعنى الذي ظل يكرره حتى عرف به واشتهر، وهو أن الأخلاق هي قوام الأمم والدول، والذي يخسرها يخسر كل شيء، وأن التاريخ سفر من العبر والدروس يستفيد من النظر فيه من يلتفت إليه، ويخسره من يصد عنه:

رب بـــــان لهــــــادم وجمـــوع     لمشـــــت ومحســــن لمخـــــس
إمـرة النـــــاس همة لا تــــــأتى     لجبــــان ولا تســــنى لجبـــــس
وإذا ما أصـــاب بنيـــان قـــــوم     وهي خـــلق فــــــإنــه وهي أس
وإذا فــــاتك التفـــــات إلى المــا     ضي فقد غاب عنك وجه التأسي

     أما القصيدة الثانية التي يبكي فيها شوقي بني أمية، فهي قصيدته الرائعة التي نظمها إبان زيارته لسورية عام 1925م، حيث كرمه المجمع العلمي في دمشق، ومطلعها:

قم نـــاج جلق وانشد رسم من بــــانوا
               مشت على الرسم أحداث وأزمان[2]

     واقتران دمشق ببني أمية أمر حي في وجدان العربي والمسلم، فقد كانت عاصمة دولتهم منذ آلت إليهم أمور الخلافة حتى انتزعها منهم بنو العباس. وفي دمشق عظم مجدهم وعزت كلمتهم ومنها خرجت فتوحاتهم المظفرة.

     يشيد شوقي بأعمال بني أمية التي جعلت سلطانهم يعلو شرقاً وغرباً كأنه الشمس فدخلوا التاريخ بجدارة وقوة:

بنـــــو أمية للأنبـــــاء ما فتــــحوا     وللأحـــاديث ما سادوا وما دانـــوا
كانوا ملوكاً سرير الشـــرق تحتهم     فهل ســألت سرير الغرب ما كانوا
عالين كالشمس في أطراف دولتها     في كل نـــاحيـــــة ملك وسلطـــان

     ثم يبكيهم شوقي لزوال دولتهم، كما بكاهم على طلولهم في الأندلس ويشيد بمجدهم الباقي على الزمان، الذي لا ينقصه أن مالت به الدنيا كما لا ينقص الذهب أن يكون في التراب، ويذكر بدور دمشق الرائد في بناء مجد الأندلس وبغداد:

ياويح قلبي مما انتــــــاب أرسمهم     سرى به الهم أو عادته أشجــــــان
بالأمس قمت على الزهراء أندبهم     واليوم دمعي على الفيحـــاء هتـان
في الأرض منهم سـماوات وألوية     ونيـــــرات وأنـــــواء وعقبــــــان
معـادن العــز قـد مال الرغام بهـم     لو هان في تربه الإبريز ما هـانوا
لولا دمشـــق لما كانت طليــــطلة     ولا زهت ببــــني العباس بغــدان

     وفي أبيات شجية مؤثرة يقارن بين حال المسجد الأموي في دمشق بالأمس يوم كان خلفاؤها يصلون فيه ويقودون منه دولتهم، وبين حاله اليوم، وأهل دمشق في ضعف تحت حكم الفرنسيين، وبنو أمية خبر من الأخبار:

مررت بالمسجد المحـزون أســـــأله
               هل في المصلى أو المحراب مروان
تغيـــر المسجد المحزون واختـــلفت
               على المنـــــابر أحرار وعبــــــــدان
فـــلا الأذان أذان في منــــــــــــارته
               إذا تعــــــــــــــــالى ولا الآذان آذان

     وقصيدة شوقي هذه من درر قصائده، وأبياتها في بني أمية وفي مسجدهم الشهير قمة رائعة، موضوعاً ولغة وموسيقى وعاطفة وتصويراً.

ولشوقي عدة مراث رائعة يتحسر فيها على ما أصاب الخلافة العثمانية لما ألغاها مصطفى كمال، تذكرنا بالمراثي الشهيرة التي قيلت في الأندلس، حيث تلتقي معها في بكاء دين يحارب، ودولة تزول.

في القصيدة الأولى يهنئ شوقي أنقرة بجعلها عاصمة الدولة، ويعزي إستامبول بسلبها هذا الأمر، ويناجي الخلافة التي بدت أمارات غروبها مناجاة حزينة، يتخوف فيها على رايتها التي أفلت وعلى الدين الذي مثلت، ويهيب بها أن تعود إلى ما كانت عليه في فجرها الأول. ولقد كانت مخاوف شوقي في مكانها، إذ لم تلبث الخلافة أن ألغيت في العام التالي:

قـــل للخـــلافة قول بـــــاك شمســها
               بالأمس لمــــا آذنت بـدلــــــــــــــوك
يـــا جذوة التوحيــــــد هل لك مطفئ
               والله جـــــــل جـــــلاله مذكيـــــــــك
خلــــت القرون وأنت حرب ممــالك
               لم يغــف ضــــدك أو ينــم شـــــانيك
يرميـــك بالأمم الزمان وتــــــــــارة
               بالـفــــرد واستـبـــــــداده يرميــــــك
عودي إلى ما كنت في فجـــر الهـدى
               عـمر يسوســـك والعتــــيق يليــــــك
إني أرى الشورى التي اعتصموا بها
               هي حبــــل ربك أو زمام نبـــيك[3]

     ويدور العام وتتحقق مخاوف شوقي، فتلغى الخلافة ويسفر مصطفى كمال عن حقيقته ويحارب الإسلام حرباً شعواء، فينظم شوقي قصيدته الرائعة:

عادت أغاني العرس رجع نواح
               ونعيت بين معالم الأفــــراح[4]

     وهي قصيدة دامعة حزينة يبكي فيها الدين، ويبكي الدولة الزائلة، ويعتذر عن ثنائه على مصطفى كمال بالأمس، ويطلب من العالم الإسلامي نصحه لعله يرتدع، ويحذر من الشريف حسين الذي كان يطمع أن تؤول إليه الخلافة، وهو لا يراه جديراً بذلك خاصة أنه تعاون مع الإنجليز في الحرب العالمية الأولى. يبدأ شوقي قصيدته على النحو التالي:

عادت أغاني العرس رجع نواح     ونعيت بين معـــــــــالم الأفراح
كفنــــت في ليل الزفـــاف بثوبه     ودفنــــت عند تبلج الإصبـــــاح
شيعت من هلع بعبرة ضــــاحك     في كل ناحيــــة وسكرة صـــاح
ضجـــت عليك مــآذن ومنـــابر     وبكـت عليك ممــــالك ونـــواح
الهنــــد والهــة ومصر حزينــة     تبـــكي عليك بمدمع سحـــــــاح
والشــام تسأل والعراق وفارس     أمحا من الأرض الخـلافة مــاح
وأتت لك الجمع الجــلائل مأتماً     فقعــــدن فيه مقـــــــاعد الأنواح
يا للرجــــــــال لحـــرة موؤودة     قتــــلت بغير جريرة وجنــــــاح

     وهي أبيات حزينة فيها روعة المطلع الذي يصور حجم الكارثة، والمفاجأة التي قلبت الأفراح أحزاناً، وهو ما زاد في الاستغراب والذهول، فاختلطت معالم الأفراح الزائلة بمعالم المصيبة الداهمة، وشعر المسلمون في كل مكان بالمأساة، فبكوا خلافتهم بكاء مريراً شاركت فيه جميع ديارهم، وضجت به مساجدهم ومنابرهم ومنائرهم وأيام الجمع بكل جلالها وهيبتها.

     ويمضي في تصوير المأساة تصويراً حياً دامعاً، نجد فيه الخلافة وهي أعظم أمجاد المسلمين تزول، بعد حسب طويل عريق، جمعت فيه الناس على كل خير وبر، وعلى الصلاة خاصة وهي المظهر الأول للدين، فلا غرابة أن بكت ما جرى من الضلال البين والكفر الصريح:

هتـــكوا بأيديــــهم ملاءة فخــــرهم     موشيـــــة بمواهب الفتــــــــــــــاح
نزعـــوا عن الأعناق خير قــــلادة     ونضوا عن الأعطاف خير وشــاح
حســـب أتى طـــول الليــــالي دونه     قـد طـــاح بين عشيــــة وصبـــاح
وعلاقـــة فصمت عرى أسبـــــابها     كـانت أبــــر عـلائــــــــق الأرواح
جمعت على البر الحضور وربمــا     جمعت عليــــه سرائــــر النــــزاح
نظمت صفوف المسلمين وخطوهم     في كل غــــدوة جمعـــــــة ورواح
بكت الصـــــلاة وتلك فتـــنة عابث     بالحــــق عربيد القضاء وقـــــــاح
أفتى خـزعبــــــلة وقال ضـــــلالة     وأتى بكفـــــر في البـــــــلاد بـراح

     ويجد شوقي نفسه في موقف لابد له أن يدافع فيه عن نفسه ويبرر هجومه اليوم على من كان يمدحه بالأمس، وهو مصطفى كمال، ويحسن انتقاء العذر المنطقي، إذ يبين أن مصطفى كمال ومن معه هم قادة عسكريون لا يتفاهمون إلا بلغة القوة، ثم إن الحق أكبر من الناس، وحسب موقف الناس منه يلامون أو يمدحون:

إن الذين جـــــرى عليهم فقـــهه     خلقـــوا لفقه كتيبة وســـــــــلاح
إن حدثوا نطقوا بخرس كتــائب     أو خوطبوا سمعوا بصم رمــاح
أستغفر الأخلاق لست بجــــاحد     من كنــــت أدفــع دونـه وألاحي
مـــالي أطوقـــه الملام وطالمــا     طوقتـــه المــــأثور من أمـداحي
هو ركن مملـــكة وحـــائط دولة     وقريع شهبــــاء وكبش نطــــاح
أأقول من أحيا الجمــــاعة ملحد     وأقول من رد الحقوق إبـــــاحي
الحـــق أولى من وليــــك حرمة     وأحق منــــك بنصرة وكفـــــاح
فامدح على الحق الرجال ولمهم     أو خل عنك مواقف النصــــــاح

     ويناشد شوقي المسلمين أن يؤدوا النصح لمصطفى كمال، فربما ثاب، وربما رجع عن غروره الذي أسكره فصار يتعامل مع العقائد والمبادئ، كما يتعامل مع قطع الجيش في ساح المعركة، وفي لفتة ذكية يحمل شوقي الناس مسؤولية ما أصاب مصطفى كمال من غرور، ذلك أنهم أطاعوه، وأطلقوا يده دون قيد، فكادوا يجعلونه شبحاً يعبد:

أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح     إن الجــــواد يثوب بعد جمــــــاح
إن الغـــرور سقى الرئيس براحه     كيف احتيــــالك في صريع الراح
نقـــل الشرائع والعقائد والقــــرى     والنــــاس نقل كتائب في الســـاح
تركتـــه كالشبــــح المؤلـــــه أمة     لم تســـــل بعد عبادة الأشبــــــاح
هم أطلقــــوا يده كقيصـــــر فيـهم     حتى تنــــــاول كل غير مبــــــاح
غرته طاعــــات الجموع ودولــة    وجــد الســواد لها هوى المرتــاح
وإذا أخــــذت المجـــــد من أميــة     لم تعــــط غير سرابـــــه اللمـــاح

     ويبين شوقي دوره في الدفاع عن الخلافة، والنصح للمسلمين، ابتغاء مرضاة الله عز وجل، ويجعل من نفسه المصباح الذي يظل يضيء بكل طاقته لينير درب الحق لقومه:

من قـــائل للمسلمين مقـــــالة     لم يوحها غير النصيــحة واح
عهـــد الخلافة في أول ذائـــد     عن حوضها بيـــراعة نضاح
حب لــــذات الله كان ولم يزل     وهوى لذات الحق والإصلاح
إني أنا المصباح لست بضائع     حتى أكون فراشة المصبـــاح

     ويحذر شوقي المسلمين من الشريف حسين، شريف مكة المكرمة، ومن مطامعه في أن تؤول إليه الخلافة، فهو عاجز لا قدرة له، ثم هو الذي انضم بالأمس إلى الإنجليز في الحرب الأولى فكان من أسباب مصائبهم، ويختم قصيدته بالتنبيه إلى كثرة الفتن التي سوف تحل بالمسلمين بعد إلغاء خلافتهم:

لا تبـــــذلوا برد النبي لعـــــاجز     عزل يدافـــــع دونـــــــه بالراح
بالأمس أوهى المسلمين جراحة     واليوم مد لهــــم يــد الجـــــراح
فـلتســـمعن بكل أرض داعيــــاً     يدعــو إلى الكــذاب أو لسجــاح
ولتشــــهدن بكل أرض فتــــــنة     فيها يبــــــاع الدين بيع سمـــاح
يفتى على ذهب المعــــز وسيفه     وهوى النفوس وحقدها الملحاح

     والحقيقة أن قصيدة شوقي هذه درة من درره الخالدة تفيض بأحر الدمع على دولة تطوى، ودين يحارب، لتأخذ مكانها المتميز بين مثيلاتها التي قيلت في رثاء الدول والممالك.

     أما الرثاء الثالث فهو يأتي ضمن قصيدته التي قالها شوقي بمناسبة إطلاق سراح عدد من السجناء، وهي قصيدة تنتهي باثني عشر بيتاً في الخلافة الملغاة.

     وفي هذه الأبيات ينكر الشاعر صنيع الكماليين في الإلغاء فليس لهم الحق الذي يخولهم أمراً خطيراً يعني المسلمين جميعاً، ويقرر أن جهل المسلمين كان عوناً للكماليين، فلولا الجهل ما كان لهم أن يفعلوا دون خوف من غضب أو اعتراض، وأن عجز النواب كان سبباً من أسباب الكارثة، إذ إنهم سلبيون لا رأي لهم ولا إرادة، وأنهم مجرد تبع لمصطفى كمال:

مجــــــد الأمور زواله في زلـــة     لا ترج لاسمك بالأمور خلــــودا
الفــــرد بالشورى وبـــاسم نديها     لفظ الخليفة في الظـــلام شريــدا
خلعته دون المســــلمين عصابة     لم يجعــــلوا للمســــلمين وجودا
يقضــون ذلك عن سواد غافـــل     خـــــلق السواد مضللاً ومسـودا
جعـــــلوا مشيـــــئته الغبية سلماً     نحـــو الأمور لمن أراد صعـودا
إني نظرت إلى الشعوب فلم أجد     كالجهـــــل داء للشعوب مبيـــدا
الجهــــل لا يلـــــد الحياة مواتـه     إلا كما تلــــــد الرمـــــام الـدودا
لم يخل من صور الحيــاة وإنـما     أخطاه عنصرها فمـــــات وليدا
وإذا سبى الفرد المســلط مجلساً     ألفيــــت أحرار الرجـــال عبيدا
ورأيـت في صدر الندي منــوماً     في عصبة يتحــــــركون رقودا
الحـق سهم لا ترشـــــــه ببـاطل     ما كان ســـــهم المبطلين سديدا
والعـــب بغير ســـــلاحه فلربما     قتل الرجال سلاحه مردودا[5]

     ومن أحسن ما وفق فيه شوقي في هذه الأبيات التي بكى فيها الخليفة المعزول والخلافة الملغاة، تنديده بالجهل الذي يجعل عامة الناس قوة هزيلة ضائعة، وبعجز أعلى المؤسسات العامة التي لا تؤدي دورها في الرقابة والشورى والنظر، إذ تتحول إلى مؤسسات شكلية هزيلة، مهمتها الخضوع لأهواء الزعيم وإضفاء الشرعية عليها.

     أما الرثاء الرابع فهو قصيدة بعنوان ((الخلافة)) نشرها شوقي عام 1926م ومطلعها:

بعثوا الخلافة سيرة في النادي     أين المبايع بالإمام يناـدي[6]

     ذلك أن إلغاء الخلافة لم يكن أمراً عارضاً، فقد اهتز له المسلمون في كل مكان، وعلت أصوات تنادي بأن ما صنعه الكماليون باطل، وأن على المسلمين أن يختاروا خليفة جديداً تنتظم به أمورهم الدينية والدنيوية، وشكلت لجان، وعقدت مؤتمرات وطمع بالمنصب الكبير عدد من الحكام.

     في هذا المناخ جاءت قصيدة شوقي ليبدي رأيه فيما ينبغي أن تمتلكه الخلافة من أدوات، حتى يكون بوسع الخليفة أن يمارس مهامه فلا يبقى مجرد صورة، ولذلك يحذر شوقي من خلافة بلا قوة حقيقية تسندها وتحميها:

اليــــــوم لا سمر الرماح بعــــدة     تغني ولا بيض الظبـــــا بعتــــاد
هيهات عز سبيــــلها وتقطـــعت     دون المراد وســـــائل المرتــــاد
حلت على ذهب المعـــز طلاسـم     ومشت على سيف المعز عوادي
أين الكرامة والوقـــــار لجثـــــة     نبشـــوا عليها القبر بعد فســـــاد
والميت أقرب سلوة من غـــائب     يرجى فلا يزداد غيـــــر بعــــاد

     ويعود شوقي بنا إلى الوراء، ليذكرنا بموقفه من الخلافة العثمانية التي ألغيت من قريب، حيث شخص أمراضها وأجاد في هذا التشخيص، وحيث نصرها نصر المجاهد المحتسب، ثم بكاها بخير قصائده، حتى اتهمه بعض الناس أنه يحب الأتراك، وهي تهمة صدقوا فيها لأنه محب للبطولة، والأتراك مقاتلون أشداء، والأخ القريب وإن ظلم أحنى من الغريب المعتدي، ثم إن ولاءه للأتراك لم ينفرد به فقد كان شعور عامة الناس في مصر:

وأنـــا الذي مرضتــهــا في دائهــا     وجمعـــت فيه عواطف العــــــواد
غنيـــتها لحنــــاً تغلغل في البكـــا     يارب باك في ظواهر شــــــــادي
ونصــرتها نصر المجاهد في ذرا     عبد الحميد وفي جناح رشـــــــــاد
ودفنتها ودفنت خير قصـــــــائدي     معها وطال بقبـــــرها إنشــــــادي
حتى اتهمت فقيـــــل تركي الهوى     صدقوا هوى الأبطال ملء فـؤادي
وأخي القريب وإن شقيـــت بظلمه     أدنى إلي من الغــــريب العـــــادي
والله يعــــــلم ما انفــــــردت وإنما     صورت شعري من شعور الوادي
كنـــــــا نعظــــم للهــــلال بقيــــة     في الأرض من ثكن ومن أجنــــاد
ونســــن رضوان الخليفة خطــــة     ولكل جيـــــل خطة ومبــــــــادي

     ويحذر شوقي مشكوراً المعنيين بأمر إحياء الخلافة من عمل لا قوة فيه ولا حكمة، يمكن أن ينتهي إلى طغيان يفرض على الناس باسم الخلافة، وهو أمر سبق أن وقع في الخلافة العثمانية وغيرها:

أتحـــــاولون بلا جهـــــاد خطــة     لم يستطعها التــــرك بعد جهـــاد
نفضوا القنا المنصور من تبعاتها     والظـــافرات الحمر في الأغمـاد
كانت هي الداء الدخيل فأدبــرت     فتماثــــلوا من كل داء بــــــــادي
نزعوا من الأعناق نير جبـــــابر     جعلوا الخلافة دولة استعبــــــاد
من كل فضفاض الغرور ببـرده     نمـــــرود أو فرعون ذو الأوتــاد

     ولا تلبث روح شوقي المسلمة أن تحمله على نظر إيجابي، يرى فيه أن إلغاء الخلافة ما كان له أن يقضي على الإسلام كما توهم الكثيرون، ما بين محب مشفق مسرف في التشاؤم، وكاره شانئ مبالغ في التشفي، فالصلاة لا تزال قائمة والصوم باق، والحج يدعو الناس فيهرعون، وأعياد المسلمين توقظ شعورهم الديني وكلمة التوحيد تملاً كل حاضرة وبادية:

مضت الخلافة والإمام فـهل مضى     ما كــــان بين الله والعبــــــــــــــاد
والله ما نسي الشهــــــادة حاضــــر     في المســـــلمين ولا تردد بـــــادي
خرجوا إلى الصلوات كل جمــاعة     تدعو لصـــــاحبها على الأعــــواد
والصوم بـــــاق والصلاة مقــــيمة     والحج ينشط في عناق الحــــــادي
والفطـــر والأضحى كعـــــادتيهما     يترديــــــان بشـــــاشة الأعيــــــاد

     ولهذا الرثاء الرابع لشوقي في الخلافة ميزة محمودة، يحذر فيها شوقي من عمل بلا قوة تحميه، ويحذر من سطوة طغيان غاشم باسم الخلافة، ويبشر بمستقبل زاهر للإسلام .

     وإذا كانت الخلافة عرضاً لدى شوقي يدافع عنه كما قال عن نفسه، فإن ولاءه التام لها، لم يجعله يغفل عما انتابها من سيئات التنفيذ، فكان ولاؤه لها ولاء بصيراً واعياً يحمد له، وموقفه حين يغضب لخطأ منها مختلف تماماً عن غضب من يريدون بالخلافة شراً، فهو يريد لها أن تكون أكمل، وهم يريدون لها الفناء، وغضبهم هو غضب الكاره لوجودها، وغضبه هو غضب الكاره لأخطائها الراغب في إصلاحها، والمسافة كبيرة بينه وبينهم ولاءً وهدفاً.

     يقول الدكتور حلمي علي زقزوق: ((على أن شوقي لم يغفل قط هذا الظلم، ولا أغضى عن استبداد العثمانيين، إلا أن الفارق بين شوقي وبين هؤلاء الناقمين، هو الفارق بين حرب الظلم وحربهم الخلافة برمتها، أو هو الفارق بين الثورة بمثالب التخلف والاستبداد وثورتهم الظالمة بالخلافة الإسلامية وعامة نظمها في السياسة وشؤون الاجتماع. وما كان هذا الخلط من شيم الآباء والأجداد))[7]. ثم ينقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده قوله: ((أنا أيضاً أكره السلطان، ولكن لا يوجد مسلم يريد بالدولة سوءاً فإنها سياج في الجملة وإذا سقطت فقدنا كل شيء))، وهو تفريق دقيق من الدكتور حلمي، يشكر عليه، ويشكر أيضاً لإيراده رأي الإمام محمد عبده الذي يعلن فيه ولاءه للدولة العثمانية مع رفضه لأخطائها.

     وليت الدكتور حلمي أورد رأي الإمام محمد عبده الآخر، الذي هو أصرح وأبلغ في إعلان ولائه للدولة العثمانية، وهو ما أورده السيد محمد رشيد رضا، ونصه: ((إن من له قلب من أهل الدين الإسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فإنها وحدها الحافظة لسلطان الدين، الكافلة بقاء صورته، وليس للدين سلطان في سواها، وإننا والحمد لله على هذه العقيدة عليها نحيا وعليها نموت))[8].

     وثمة قصيدة جيدة لشوقي تتصل بقصائده في الخلافة اتصالاً وثيقاً هي ((الأندلس الجديدة)) ومطلعها:

يــــا أخت أندلــــــس عليك سلام     هوت الخلافة عنك والإسلام[9]

     فهذه القصيدة قالها شوقي في رثاء مدينة أدرنة يوم استطاع البلغار هزيمة الأتراك فيها، فكانت هزيمة عسكرية وكانت هزيمة دينية، ذات طابع صليبي خاص، وكان الغرب الذي يناوئ الخلافة العثمانية، يتعامل معها بروح صليبية جلية، ولذلك فبكاء شوقي على أدرنة هو بكاء على الإسلام، وعلى الدولة العثمانية، فضلاً عن أنه بكاء على مدينة تستباح وشعب يشرد، والقصيدة من أحسن قصائد شوقي وأطولها، ويمكن لنا أن نلحظ إحساسه الحاد بالمأساة حتى في اختياره لعنوان القصيدة حيث سماها ((الأندلس الجديدة)) لأنه يرى في مأساة أدرنة اليوم صورة من مأساة الأندلس بالأمس:

يا أخت أندلـــس عليك ســــلام     هوت الخلافة عنك والإســـلام
نزل الهلال عن الســماء فليتها     طويت وعم العــــــالمين ظلام
جرحان تمضي الأمتان عليهما     هـذا يسيـــــــل وذاك لا يلتـــام
بكما أصيب المسلمون وفيـكما     دفن اليراع وغيب الصمصــام

     ويمضي شوقي ليتحدث عن الدهر الذي غفل المسلمون عن نواميسه فخسروا، حديثاً حزيناً فيه حكمة وعبرة وتأمل تاريخي فلسفي، لينتهي إلى تصوير بارع لجيش المتحالفين الزاحف على المدينة المنكوبة:

أخــــــذ المدائن والقرى بخنـــــاقها     جيــــش من المتحـــــــالفين لهـــام
غطت به الأرض الفضاء وجوهها     وكســـت منــــاكبها به الآكــــــــام
تمشي المنـــــاكر بين أيدي خيــله     أنى مشى والبـــغي والإجـــــــرام

     ويبرع شوقي في تصوير التناقض الصارخ في موقف القساوسة الذين يحثون على حرب يحرمها دينهم الذي يدعو للتسامح:

ويحثـــه باسم الكتـــــــاب أقسة     نشطوا لما هو في الكتاب حرام

     ويبدع في مناجاة عيسى عليه السلام ليضع بين أيدينا المفارقة الحزينة بين دعوته للحب والتسامح وبين القسوة الهائلة من المتحالفين الذين يحاربون باسمه، مع أنهم يؤمنون بأنه إنما مات فداء للناس، وأنه إنما احتمل العذاب لتخفيف الآلام عنهم، ويكشف الوجه الصليبي للحرب:

عيسى سبيــــلك رحمــة ومحبــة     في العــــالمين وعصــمة وسـلام
ما كنت سفــــاك الدمـاء ولا امرأ     هـــان الضعاف عليه والأيتـــــام
يــا حــامل الآلام عن هـذا الورى     كثــرت علينـــا بــــــاسمك الآلام
أنت الذي جعــل الأنــــام جميعهم     رحماً وباســـمك تقطع الأرحـــام
واليوم يهتف بالصليب عصــائب     هـــــم للإلــــه وروحـــــه ظــلام
خلطوا صليبك والخناجر والمدى     كـــــــــل أداة للأذى وحــــــــمام

     وينتقل شوقي بعد ذلك إلى تصوير الكارثة التي حلت بالمدينة تصويراً حياً مؤثراً، نرى فيه الناس تذبح كالأغنام، والرضع يفطمون على السيوف، والفتاة الطاهرة تغتصب، والشيخ الفاني يستباح، والجريح يجهز عليه، والمهاجرين هاموا في ترحالهم خوفاً ورعباً، يبكون ديارهم المشتعلة المنكوبة:

أو ما تراهم ذبحــــــوا جيــرانهم     بين البيــــوت كأنهم أغنــــــــــام
كم مرضع في حجر نعمته غـــدا     وله على حد السيــــــوف فطـــام
وصبيــــة هتكت خميلة طهــرها     وتناثــــرت عن نوره الأكـــــمام
وأخي ثمـــــانين استبيح وقـــاره     لم يغــــن عنه الضعف والأعوام
وجريــــح حرب ظامئ وأدوه لم     يعطفـــــهم جـــــــــرح دم وأوام
ومهـــــــاجرين تنكرت أوطانهم     ضلوا السبيل من الذهول وهاموا
يتلفتـــــون مودعين ديـــــــارهم     واللحـظ ماء والديــــــــار ضرام

     ومع فداحة الحالة بأدرنة لا يملك شوقي إلا أن يهنئها على بطولتها وشجاعتها وصبرها، ويعزيها بأن الدنيا دول، وأن كل ملك زائل، وأن البقاء لله الواحد العلام:

شرفاً أدرنة هكذا يقف الحــمى     للغــــاصبين وتثبت الأقـــــدام
وتــــرد بالدم بقعة أخـــذت به     ويموت دون عرينه الضرغام
والملك يؤخذ أو يرد ولم يـزل     يرث الحسام على البلاد حسام
صبـــراً أدرنــة كل ملك زائل     يوماً ويبـــقى المالك العــــلام

     ويبكي لها المصاب الديني بسكوت الأذان، وزوال الجمع، واندثار المساجد وعفاء قبور الفاتحين الأوائل من مؤسسي الدولة العثمانية:

خفت الأذان فما عليـــــــك موحد     يسعى ولا الجــمع الحسان تقـــام
وخبت مســــاجد كن نوراً جامعاً     تمشي إليــــــه الأســــــد والآرام
يدرجن في حرم الصلاة قوانتـــاً     بيـــــض الإزار كأنهن حمــــــام
وعفت قبور الفاتحين وفض عـن     حفـــر الخلائف جندل ورجــــام

     ويشيد شوقي بالشهور الخمسة التي مضت على حصار أدرنة حتى سقطت، حيث سطوة الغزو، وفتك المرض، وتفاقم الجوع، وسقوط الثلج، وحيث الأبطال المدافعون يصبرون صبراً جميلاً يكاد يجعلهم صحابة، ويستبسلون في الدفاع المجيد الذي جعل العدو يدفع ثمناً فادحاً لانتصاره، فكثر القتلى من الفريقين، فسقطت أدرنة سقوط العزيز الباذل لا سقوط الخانع المستكين:

في ذمة التـــــاريخ خمسة أشهــر     طالت عليـــك فكل يوم عـــــــام
السيـــــــف عار والوباء مســلط     والسيـــل خوف والثــــلوج ركام
والجوع فتــــاك وفيك عصــــابة     لو لم يجوعوا في الجهاد لصاموا
ضنوا بعرضك أن يباع ويشترى     عرض الحرائــر ليس فيه سوام
ضـــاق الحصـــار كأنما حلقـاته     فـــلك ومقذوفـــــــاتها أجـــــرام
ورمى العدى ورميـــــتهم بجهنم     مما يصـــــب الله لا الأقـــــــوام
بعــــت العدو بكل شبــــر مهجة     وكذا يبــــــاع الملك حين يـــرام
ما زال بينك في الحصـار وبيـنه     شم الحصون ومثـــــلهن عظـام
حتى حواك مقــــــــابراً وحويته     جثثـــــاً فلا غبـن ولا استذمـــام

     ومن هذا العرض للقصيدة يتبين بجلاء أنها رثاء دين، ورثاء مدينة، ورثاء دولة يتهددها الفناء لغفلة أهلها عن سنن الكون، في تصوير حي مؤثر، وحكمة ظاهرة، وتأمل فلسفي.

     ولشوقي في رثاء المدن قصيدة قالها في وصف زلزال أصاب المدينتين اليابانيتين، طوكيو، ويوكاهامه، عام 1926م برع فيها في تصوير الكارثة تصويراً حياً ظهرت فيه قدرته التصويرية بجلاء تام:

دنت الســـــــاعة التي أنذر النـــــــا     س وحــلت أشراطهــــا والعــــلامة
قف تأمل مصـــارع الـقـــوم وانظر     هــل تـــرى من ديــــار عاد دعامة
خســفت بالمساكن الأرض خســــفاً     وطــــوى أهلها بســـــاط الإقــــامة
طوفـــت بالمدينتـــــين المنــــــــايـا     وأدار الردى على القــــــوم جـــامه
لا تــرى العيــــن منهما أين جــالت     غيــــر نقض أو رمة أو حطـــــامه
حــــازهم من مراجل الأرض قبـــر     في مدى الظن عمقه ألف قامة[10]

     أما قصيدة شوقي ((روما)) فإنها قصيدة تنتمي إلى شعر الرثاء بأكثر من سبب، ففيها عبرة التاريخ الذي يديل بين الناس، وفيها الوقوف على الأطلال والتماثيل والهياكل، وفيها تحول الناس إلى دين كانوا يقاتلون ذويه بالأمس، وفيها زوال المجد عن المدينة التالدة التي سادت وطغت، والقصيدة فيها حس فلسفي، وتأمل تاريخي، ولا غرابة فشوقي شاعر تاريخ، ثم إن القصيدة نظمها وأرسلها إلى صديقه المؤرخ إسماعيل رأفت.

     يخاطب شوقي صديقه المؤرخ طالباً منه أن يقف على روما، ليشهد حركة الدهر، وزوال المجد عن الدولة التي سادت وعزت، فهدمت الأيام تاجها ومزقت صولجانها، فبقي من عزها العريق طلل وتمثال، وأشلاء قصر، وبقية هيكل:

قف بروما وشـاهد الأمر واشهـد     أن للملــــك مالـــكاً سبحــــــانه
دولة في الثرى وأنقــــاض ملـك     هدم الدهـــر في العــــلا بنيــانه
مزقت تـــــاجه الخطوب وألقت     في التراب الذي أرى صولجانه
طلل عند دمنــــة عنـــــد رســم     ككتـــــاب محا البـــلى عنــوانه
وتماثيــــل كالحقـــــــــائق تـزدا     د وضوحاً على المدى وإبــــانة
من رآها يقــول هـذي ملوك الـد     هر وهذا وقـــــــارهم والرزانة
وبقــــــايــا هيـــــــاكل وقصـور     بين أخذ البلى ودفع المتانة[11]

     ويوفق شوقي في تصوير تحول روما من الوثنية إلى النصرانية فبات ولاؤها لدين كانت تحاربه بالأمس وتبطش بذويه:

وجـــرت هاهنـــــا أمور كبـــــار     واصـــل الدهر بعدها جريـــــانه
راح دين وجــــــــاء ديــن وولى     ملك قــــوم وحــــل ملك مكـــانه
والـذي حصـــل المجـــدون إهرا     ق دمـــاء خليــقة بالصيــــــــانـة
بــــــلـد كان للنصــــــارى قتــاداً     صار ملك القسوس عرش الديانة
وشعــــوب يمحـــــون آية عيسى     ثم يعـــــلون في البرية شـــــــانه
ويهيـــنون صـــاحب الروح ميتاً     ويعـــــــزون بعـــده أكـفـــــــانه
عــــــالم قـلــب وأحـــلام خـــلق     تتبـــــــارى غبــــــــاوة وفطـانة

     ويسائل شوقي روما عن ملكها الذاهب الواسع، الذي كان قادراً على الغلبة والظفر، وجباية الأموال، وعن أشرافها الطغاة، وقضاتها المشاهير، وساستها وشيوخها، ويطلب منها أن تكف من غلوائها وترضى بحكم الدهر الذي يحقق العدل بالتداول بين الناس والشعوب والبلدان، ويذكرها أن حزنها وإن طال لن يرد عليها أيام مجدها الأول:

أين ملك في الشـرق والغرب عال
               تحسد الشمس في الضحى سلطانه
قــــــادر يمسخ الممـــــالك أعمـــا
               لاً ويعــطي وسيعـهـــا أعوانــــــه
أيــن مـــــال جبيتـــــه ورعايـــــا
               كـلـــهم خـــــازن وأنت الخــزانـة
أين أشرافك الذين طغوا في الــــد
               هـــــر حتى أذاقهم طغيــــــــــانـه
أين قاضيـــــك ما أنـــــاخ عليــــه
               أين نـاديــــك ما دهى شيخـــــانـه
قــد رأينــــا عليـك آثـــــار حــزن
               ومن الــدور ما تـــرى أحـزانــــه
أقصري واسألي عن الدهر مصراً
               هل قضـــت مرتين منه اللبـــــانة
إن من فـــرق البــــــلاد شعــــوباً
               جعــــــل القســـط بينها ميـــــزانه
هبـــك أفنيـــت بالحـــداد الليـــالي
               لن تـــردي على الورى رومـــانه

     وهكذا تتضح معالم الرثاء في هذه القصيدة، رثاء فيه تأمل تاريخي، ونزوع فلسفي، ينظر فيه الشاعر نظرة الدارس المتمعن أكثر مما ينظر فيه نظرة المتفاعل ذاتياً مع الأحداث والأشخاص.

     أما قصيدة شوقي ((نكبة دمشق)) فهي قصيدة من قصائد رثاء المدن، ولكن من نوع مخالف، ففيها يظهر انتماؤه العربي، وبعده الإسلامي، وحسه الوطني، ولا غرابة في ذلك فموقف الشاعر من دمشق غير موقفه من أثينا وروما. وهذه القصيدة الذائعة الصيت مطلعها:

ســــلام من صبــــا بردى أرق     ودمع لا يكفكف يا دمشق[12]

     وقصة القصيدة أن الشعب السوري ثار على فرنسا عام 1925م يطالب بحريته واستقلاله فقصف الفرنسيون عاصمته بالمدافع، ونهض العرب لعون السوريين وإغاثتهم، أما شوقي فكانت مساهمته بهذه القصيدة الخالدة.

     يصور شوقي توالي الأنباء بوقوع الكارثة التي تكاد العقول تحسبها خرافة لهولها وفداحتها:

لحـــــاها الله أنبــــــــاء توالت     على ســـمع الولي بما يشــــق
يفصــــــلها إلى الدنيـــــا بريد     ويجملها إلى الآفــــــــاق برق
تكاد لروعة الأحــــــداث فيها     تخال من الخرافة وهي صدق

     ويتحدث عن مجد دمشق العريق، الذي امتدت آثاره شرقاً وغرباً، والذي بنى دولة كبرى لا يشق غبارها:

ألســــت دمشق للإسلام ظئــــراً     ومرضـــعة الأبــــوة لا تعـــــق
وكل حضارة في الأرض طالت     لها من سرحك العـــــلوي عرق
سماؤك من حلى الماضي كتـاب     وأرضك من حلى التـــاريخ رق
بنيـــت الدولة الـكبـــــرى وملكاً     غبـــار حضــــارتيه لا يشـــــق
لــه بالشــــام أعــــلام وعـــرس     بشـــــائره بأنـــدلس تــــــــــدق

     ويوفق شوقي في تصوير الكارثة التي أوقعتها بدمشق حماقة القائد الفرنسي، فأصاب فرنسا في سمعتها كما أصاب دمشق في أهلها وبنيها:

رباع الخلد ويحك ما دهــــاها     أحــــق أنهـــا درست أحـــــق
وهل غرف الجنان منضـدات     وهل لنعيــــمهن كأمس نســـق
وأين دمى المقاصر من حجال     مهتـــكة وأستـــــــار تشـــــق
برزن وفي نواحي الأيــك نار     وخلف الأيـــك أفــراخ تـــزق
إذا رمن الســلامة من طريـق     أتت من دونـــه للموت طـرق
بليــل للقـــذائف والمنـــــــايـا     وراء سمــائـه خطف وصعـق
إذا عصف الحديـد احمر أفـق     على جنبـــــاته واســــود أفق
سلي من راع غيدك بعد وهن     أبيـــن فؤاده والصخر فـــرق
وللمستعــمرين وإن ألانـــــوا     قـــلوب كالحجارة لا تـــــرق
رماك بطيـشه ورمى فرنســا     أخو حرب به صـلف وحــمق
إذا ما جـــــــــاءه طلاب حق     يقول عصابة خرجوا وشقــوا

     والدم الذي أهرقه الفرنسيون، إنما هو دم أريق في سبيل الحق وهو نور يضيء سبيل الحرية، وهو سبب من أسباب الحياة كما أن المطر سبب من أسباب النماء، وموت الأبطال هو طريق التحرير، والوطن جدير بالتضحية، وله على كل أبنائه دين وحق، والحرية لا يصل إليها الناس إلا بالدم المبذول، وبابها لا يدق إلا بالأيدي المضرجة:

دم الثـــوار تعـرفه فرنســـــا     وتعـــــلم أنه نــــــور وحـــق
جرى في أرضها، فيه حيــاة     كمنـــهل الســماء وفيه رزق
بـــلاد مات فتيـــتها لتحيـــــا     وزالـــوا دون قومهم ليبقـــوا
وحررت الشعوب على قناها     فكيف على قناها تستــــــرق
بني سورية اطرحوا الأماني     وألقوا عنكم الأحلام ألـقــــوا
وقفتم بين موت أو حيـــــــاة     فإن رمتم نعيم الدهر فاشقــوا
وللأوطــان في دم كــــل حر     يد ســـــلفت ودين مســـتحق
ومن يسقي ويشــرب بالمنايا     إذا الأحرار لم يسـقوا ويسقوا
ولا يبني الممــالك كالضحايا     ولا يدني الحقــوق ولا يحــق
ففي القتــــلى لأجيال حيــــاة     وفي الأسرى فدى لهم وعتق
وللحرية الحمـــــراء بــــاب     بكل يــد مضـــــــرجة يـــدق

     إن قصيدة شوقي في دمشق قصيدة رثاء تتداخل فيه الوطنية بالعروبة بالإسلام، ويظهر فيها الشاعر رجلاً له انتماء محمود إلى هذه الدوائر الثلاث، وله موقف إيجابي إزاء الثورة وإزاء دمشق الثائرة وكل ما يربطها بالشاعر من صلات، وهي من درر شوقي، وفيها بيته الذائع المشهور الذي صار رمزاً للجهاد والتضحية:

وللحرية الحمراء باب     بكل يد مضرجة يــدق

     ولشوقي قصيدة باسم (( نكبة بيروت)) قالها لما ضرب الأسطول الطلياني مدينة بيروت عام 1912م إبان الحرب الليبية الإيطالية، والقصيدة لا تقترب في كثير أو قليل من قصيدته ((نكبة دمشق)) فهي هامدة باردة، لا نلمس فيها تفاعلاً مع الحدث، وكأنها بطاقة مواساة ومجاملة لاغير:

بيروت مات الأسد حتف أنوفهـم
               لم يشـــهروا سيفاً ولم يحــــموك
سبعون ليثـــاً أحرقوا أو أغرقـوا
               يا ليتــــهم قتــلوا على طبـــروك
كل يصيــــد الليث وهو مقيــــــد
               ويعـــز صيد الضيغم المفـــكوك
يا مضرب الخيم المنـــيفة للقرى
               ما أنصف العجم الألى ضربوك
ما كنت يوماً للقنـــــابل موضعـاً
               ولو انهـــا من عسجـد مسبـــوك
بيـــروت ياراح النزيــــل وأنسه
               يمضي الزمـان علي لا أســـلوك
تـــالله ما أحدثــــت شــراً أو أذى
               حتى تـراعي أو يـراع بنــــــوك
أنت التي يحمي ويمنع عرضــها
               سيف الشريف وخنجر الصعلوك
ســـالت دماء فيك حول مســـاجد
               وكنـــــــائس ومدارس وبنــــوك
لك في ربا النيل المبــارك جيـرة
               لو يقدرون بدمعهم غسلوك[13]

     ومما يتصل برثاء المدن قصيدة شوقي في ((حريق ميت غمر)) وهي قصيدة قالها بمناسبة حريق ميت غمر الذي شب عام 1902م، ودام أسبوعاً من الزمن، وكان كارثة عامة تنادى لها الناس من كل مكان لمساعدة المدينة المنكوبة وكانت لحافظ فيها قصيدة جيدة.

     وقصيدة شوقي مع ما فيها من صور وأخيلة، وإشارات تاريخية، والتماس للعبر من الحوادث المشابهة لما أصاب ميت غمر، يغلب عليها البرود والتكلف، فكأنها عمل ذهني تأملي أكثر مما هي قصيدة شعرية.

     يطلب شوقي من المدينة المنكوبة أن تصبر لأن أي خطب مهما جل، هو أقل من سواه، ويمضي يحدثها عن المدن المنكوبة مثلها من قبل:

الله يحـــــكم في المدائــــن والـقـــرى
               يا ميت غمر خذي القضاء كما جـرى
ما جــــل خطب ثم قـيـــــس بغيــــره
               إلا وهـونـــه القيـــــاس وصغـــــــرا
فســـلي عـــمورة أو ســـدون تأسيـــاً
               أو مرتنيــــق غـــداة ووريت الثــرى
مدن لـقيـــــن من القضاء ونــــــــاره
               شرراً بجنب نصيبها مستصغرا[14]

     وكأن شوقي كان يشعر أنه بعيد عن البؤس والبائسين فإذا به يقول في صراحة يشكر عليها إذ يعلنها على الجميع:

مـــا زلت أسمع بالشقاء رواية     حتى رأيت بك الشقاء مصورا

     ثم يمضي شوقي يصور الكارثة ويلاحق مشاهدها، لينتهي إلى أن يطلب من الله تعالى أن يتولى المنكوبين، ومن الميسورين أن يمدوا لهم يد العون.

     ولشوقي قصيدة بعنوان ((أثينا)) قالها يوم أن أوفدته حكومته إلى اليونان لحضور أحد المؤتمرات، مطلعها:

إن تسألي عن مصر حواء القرى     وقرارة التـــاريخ والآثـــار[15]

     وهو في هذه القصيدة يحدث أثينا عن عظمة مصر، وعن تاريخها العريق، وعن أهرامها الثلاثة، ومن هنا يفضي إلى الحديث عن الموت وعن الفراعنة الذين بنوا هذه الأهرام لتكون قبوراً لهم:

وثلاثـــــة شـب الزمــان حيـــــالهـا
               شــــــــم على مر الزمـــان كبـــــار
قامت على النيل العهيــــد عهيــــدة
               تـكســـوه ثوب الفخــــر وهي عوار
من كل مركوز كرضوى في الثرى
               متطـــاول في الجـــو كالإعصــــار
الجــن في جنبـــــــاتها مطروفــــة
               ببــــــدائع البنــــــاء والحفــــــــــار
والأرض أضيع حيـــلة في نزعهـا
               من حيلة المصلوب في المســـــمار
تلك القبـــــور أضن من غيـب بمــا
               أضفت من الأعـــلاق والأذخــــــار
نــــام الملوك بها الدهور طويـــــلة
               يجـــــدون أروح ضجعة وقــــــرار
كل كأهل الكهــــف فوق سريــــره
               والدهـــر دون سريـــــره بهجـــــار
أملاك مصر القاهرون على الورى
               المنـــــزلون منــازل الأقـــــــــمـار
هتـــك الزمان حجــــابهم وأزالهــم
               بعــــد الصيــــان إزالـــة الأســرار
هيهــــات لم يلمس جلالهـــم البــلى
               إلا بأيــــــد في الرغــــــام قصـــار
كانوا وطرف الدهر لا يســـمو لهم
               ما بــــالهم عرضوا عـلى النظــــار
لو أمهــــلوا حتى النشـور بدورهـم
               قـــــاموا لخالقهم بغيـر غبــــــــــار

     والقصيدة نظم محكم، وتصوير جيد، ويتداخل فيها الفخار بالأهرام وسطوة الفراعنة بالحديث عن الموت وجلاله، ويغلب عليها عمل العقل وحس المؤرخ أكثر مما يغلب عليها شعور الشاعر وعاطفته، وليس لأثينا في القصيدة من نصيب إلا العنوان.

     وقصيدة شوقي الشهيرة ((زحلة)) التي يغني محمد عبدالوهاب وفيروز أبياتاً ذائعة منها، نجده فيها يرثي شبابه، رثاء فيه بكاء على الماضي، وحسرة على الشباب الذاهب، وقوته التي كانت تعين على انتهاب اللذائذ، في تصوير جميل، ورنة أسى هادئة ظاهرة:

شيعت أحلامي بطرف بـــــــاكي     ولممت من طرق الملاح شبــاكي
ورجعـــت أدراج الشبـاب وورده     أمشي مكـانهما على الأشــــــواك
وبجـــــانبي واه كأن خفــــــــوقه     لمــا تلفـــت جهشة المتـبـــــــاكي
شاكي السلاح إذا خلا بضـــلوعه     فـــــإذا أهيـــب به فـليس بشــاكي
قــد راعه أني طويــت حبـــــائلي    من بعــــد طول تنـــاول وفكـــاك
ويــح ابن جنبي كل غــــاية لـــذة     بعــــد الشبــــاب عزيزة الإدراك
لم تبـــــق منـــــا يا فـــؤاد بقيـــة     لفـتــــوة أو فضـــــلة لعــــــــراك
كنـــا إذا صفقت نستبـــق الهـوى     ونشــــد شــد العصبـــــة الفتـــاك
واليــــوم تبعــث في حين تهـزني     ما يبعث الناقوس في النساك[16]

     والقطعة جميلة حية مؤثرة، فيها صدق، وفيها بكاء غير غاضب ولا ثائر، وإنما هو بكاء ينتهي إلى القناعة والاستسلام.

     أما قصيدة شوقي المشهورة ((النيل)) ففيها قطعة رائعة يصور فيها التقليد المصري القديم الذي يلزم المصريين بإلقاء فتاة فيه كل عام، وميزة القطعة: روعة التصوير والتحام جزئيات المشهد حتى يتكامل لوحة حية، والإشارة إلى عظمة الإيمان لولا الخرافة التي تخالطه أحياناً، وشوق عروس النيل إلى إغراق نفسها في المهرجان المعد لذلك، فيتلاقى العرس بالمأتم، وتقدم الفتاة حياتها وحياءها معاً:

ونجيــــبة بين الطفــــولة والصبــا
               عــذراء تشـــربها القـــلوب وتعلق
كان الزفـــاف إليك غــــاية حظـها
               والحــظ إن بـــلغ النهــــاية موبــق
لاقيـــت أعراســـاً ولاقت مأتـــــماً
               كالشيــــخ ينعم بالفتــــــاة وتزهـق
في كــل عــــــام درة تــلـقى بـــلا
               ثمن إليــــك وحـــــرة لا تصــــدق
حـــول تســــائل فيــه كل نجيــــبة
               سبقـــــت إليك متى يحول فتـــلحق
والمجــد عنــد الغانيـــات رغيـــبة
               يبـــغى كما يبغى الجمال ويعشـــق
إن زوجــــوك بهن فهي عقيــــــدة
               ومن العقــــائد ما يلــب ويحـــــمق
ما أجـــمل الإيمــــان لولا ضـــــلة
               في كل ديـــن بالهدايـــة تلصــــــق
زفــت إلى ملك الملـــوك يحثـــــها
               ديـن ويـدفعــــها هــوى وتشــــوق
ولربــما حســدت عليــك مكــــانها
               ترب تمســــح بالعروس وتحــــدق
مجـــلوة في الفـــلك يحــدو فلـــكها
               بالشـــاطئيــن مزغرد ومصفـــــق
في مهرجــــان هزت الدنيــــــا به
               أعطــــافها واختال فيه المشــــرق
فرعـــون تحــت لوائــه، وبنــــاته
               يجـــري بهن على السفين الزورق
حتى إذا بلغــــت مواكبـــها المـدى
               وجـــرى لغـــايته القضاء الأسبــق
وكـســـا سماء المهرجــان جــلالة
               سيــــف المنية وهو صلت يبــــرق
وتلفتـــــت في اليــــم كل سفيـــــنة
               وانثــــال بالوادي الجـموع وحدقوا
ألقـــت إليــــك بنفســـها ونفيســـها
               وأتتــــك شيــــقة حواهــــا شيــــق
خلعـــت عليك حيـــاتها وحيـــاءها
               أأعــــز من هذيـــن شيء ينفــــــق
وإذا تنـــاهى الحب واتفق الفــــدى
               فالروح في باب الضحية أليق[17]

     وهذه القطعة من درر شوقي، التصوير فيها رائع آسر وهو يمتد ويتكامل حتى يستحيل لوحة كاملة لا تنفك جزئياتها عن بعضها، والصياغة في غاية الإحكام، والوحدة الموضوعية تجعل الأبيات أكثر ترابطاً وانسجاماً وتسلسلاً، والحدث له بداية تتنامى وتتصاعد حتى تصل إلى الذروة في آخر الأبيات حين تقفز الفتاة المنتحرة من السفينة إلى النيل لتكون الضحية والفداء.

     ويبرع شوقي في تصوير الدافع النفسي لدى الفتاة للانتحار، إذ يجعل المجد غاية تسعى إليها الفتاة لتحظى بتاج المجد الذي يضاف لديها إلى تاج الجمال، فتزهق روحها وهي سعيدة، ويتلاقى الحزن بالفرح، والموت بالحياة، والخوف من الجدب بالأمل في النماء.

     إن قصيدة شوقي في النيل من درر شعره الذي لا يطويه الزمن، فقد تفوق فيها وتألق، والقطعة السابقة منها بالذات أعجوبة من أعاجيبه الفنية.

     ولشوقي قصيدة طريفة تتصل بما نحن فيه، وهي ((تحية غليوم الثاني لصلاح الدين في القبر)) وموضوع القصيدة أن غليوم الثاني ملك بروسيا وإمبراطور ألمانيا، كان صديقاً للدولة العثمانية فزار إستامبول عاصمة الدولة وزار دمشق التي كانت تابعة لها، وهناك زار قبر القائد الشهير صلاح الدين الأيوبي بجوار المسجد الأموي، وقد تبدو الزيارة غريبة جداً فما الذي يحمل ملكاً أوربياً على زيارة قبر رجل مات منذ قرون، خاض حرباً ضروساً ضد الصليبيين – أجداد الامبراطور الزائر – وهزمهم؟ لكن الغرابة تزول إذا عرفنا أن صلاح الدين الأيوبي احتل في الوجدان الغربي مكانة مهمة جداً حملتهم على الإعجاب به مع هزيمته لهم، وذلك بسبب ما كان يبدر منه من أخلاق عالية جداً، هي قمة أخلاق الفرسان، من وفاء بالعهود، واحترام للجرحى، وترفع عن الانتقام، والعفو عند القدرة، والكرم الذي يكاد يلحق بالأساطير، هذا من جانب، ومن جانب آخر كانت المصالح السياسية تقرب بين ألمانيا وبين الدولة العثمانية، الأمر الذي يجعل زعيم ألمانيا يجامل حلفاءه ويحترم مشاعرهم وأبطالهم.

     يبدأ شوقي قصيدته بالثناء على غليوم لمعرفته قدر صلاح الدين، وإنما يعرف العظيم قدر العظيم:

عظيـــــم الناس من يبــــكي العظاما
               وينــــــدبهم ولو كانوا عظــــــــــاما
وأكـــرم من غمـــــام عنـد محــــــل
               فتى يحــــيي بمدحتــــــه الـكرامــــا
وما عـــــذر المقصـــر عن جـــزاء
               وما يجــــــــزيهـم إلا كـلامـــــــــــا
فهــــل من مبــــــــلغ غـليـــوم عني
               مقــــــالاً مرضيــــــاً ذاك المقــــاما
رعـــــاك الله من ملـــــك همــــــــام
               تعـــــهد في الـثـــرى ملكاً همـــــاما
أرى الـنسيـــــــان أظــمأه فـلمـــــــا
               وقفــــت بقبـــــره كنـــت الغـــــماما
تقــــــرب عهـــــــده للنــــــاس حتى
               تركت الجيل في التاريخ عاما [18]

     وبعد ذلك ينتقل شوقي إلى الحديث عن صلاح الدين وعظمته، وهيبته في الحرب، وشرفه في السلم:

أتــــدري أي سلطـــان تحـــيي     وأي مملك تهـــــدي الســــلاما
دعوت أجل أهل الأرض حرباً     وأشرفــــهم إذا ســكنوا سـلاما
وقفــــت به تـذكــــره ملــــوكاً     تعــــــود أن يلاقـــــــوه قيــاما
وكم جمعتــــــهم حرب فكـانوا     حــــدائدها وكان هو الحســاما

     ويشيد شوقي بزيارة غليوم وهو من سلالة المغلوبين لقبر غالبهم بالأمس، ويرى أن مثل هذا الموقف جدير بدفن الأحقاد وتضميد الجراح، ويربأ به أن يكون قد زاره استجابة لدوافع خسيسة لا تليق بمثله:

كـــلام للبـــــرية داميــــــات     وأنت اليوم من ضمد الكلاما
فـلمـا قلت ما قد قلت عنـــــه     وأسمعــت الممالك والأنــاما
تســـاءلت البرية وهي كلمى     أحبـــاً كان ذاك أم انتقـــــاما
وأنت أجــل أن تزري بميت     وأنت أبـــر أن تؤذي عظاما
فلو كان الدوام نصيــب ملك     لنال بحد صـــــارمه الدواما

     أما قصيدة شوقي في السلطان عبدالحميد حين عزل عام 1909م، بانقلاب قام به الجيش العثماني والتي مطلعها:

ســـل يـلـدزاً ذات القصور     هل جاءها نبأ البدور[19]

     فهي قصيدة جيدة، يبكي فيها شوقي السلطان المخلوع، ويقف منه موقفاً وفياً محموداً، ويستغفر الله له، ويترفع عن الشماتة به، ويود لو أخذ بالدستور الذي قيل إنه أطيح به من أجله، ويثني عليه في لباقة ظاهرة أسيراً عزيزاً، وعلى من غلبه آسرين منتصرين.

     ولا غرابة فيما يفعله شوقي، فقد كان عبدالحميد في عصره شخصية مهمة جداً وكان له أثر بالغ في السياسة العالمية والعربية والإسلامية، وكانت أنظار المسلمين تتعلق به وتنظر إليه كخليفة ينبغي أن يطاع، وكحام للدين والوطن. لقد كان في عصره ((المظهر الأول للوحدة الإسلامية، والصخرة الصامدة أمام معاول الغرب ومطامع حكوماته، ومكانته كانت توشك أن تكون مقدسة))[20]. كان من أعظم خلفاء الدولة العثمانية ذكاء، ودهاء، وصبراً، وحزماً، ومعرفة بمؤامرات الأوربيين عليها، وقدرة على رصد التناقضات بينهم وتوظيفها لصالح الدولة، وولاء للإسلام، وغيرة على المسلمين، وحرصاً على جمع كلمتهم، لكنه جاء والدولة قد شاخت وترهلت، فلم يلبث أن سقط هو، ولم تلبث أن سقطت هي.

     يضاف إلى ذلك أن صلة شوقي الشخصية به كانت جيدة، وصلة ممدوحه حاكم مصر آنذاك الخديوي عباس كانت صلة جيدة أيضاً، والأمر كله يتداخل فيه الولاء السياسي العام آنذاك، بالولاء الديني، بكراهية الإنجليز، بالدم الذي كان يربط بين هؤلاء جميعاً، الشاعر والخديوي والخليفة.

     بعد أن يتحدث شوقي عن وقع الكارثة على يلدز، قصر عبدالحميد، ومن فيه من أسرته وذويه، يصل إلى جوهر الموضوع وهو الحديث عن خطب السلطان المعزول، فيظهر وفياً كريماً من جانب، لبقاً حكيماً من جانب آخر:

خطب الإمـــام على النظيـــ     ـــم يعز شـــرحاً والنثــــــير
عظة الملــــوك وعبـــرة الـ     أيــــام في الزمن الأخيــــــر
شيــخ الملوك وإن تضعــــــ     ضع في الفؤاد وفي الضمير
نستغفــــر المـــــولى لــــــه     والله يعـفـــــو عن كثيـــــــر
ونـــراه عنـــــد مصـــــــابه     أولى بـبـــــــــاك أو عذيـــر
ونصــــــونـه ونجــــــــــلـه     بيــن الشـــــماتة والـنـــكيــر
عبد الحميــــــــد حساب مثـ     ـلك في يـــد الملـــك الغفـور
ســـدت الثـــــلاثين الطـــوا     ل ولـســن بالحـــكم القصير
تنـــهى وتـــــأمر ما بــــــدا     لك في الـكبيـر وفي الصغير
لا تستشيـــــر وفي الحــمى     عـــدد الكواكب من مشيـــــر

     ويسأل شوقي السلطان المعزول كيف غلب وهو الداهية المحنك ثم ما يلبث أن يلتمس له العذر في غلبة القضاء:

ماذا دهــــــاك من الأمو     ر وكنـــت داهية الأمور
ما كنت إن حدثـت وجلـ     ـت بالجزوع ولا العثور
أيــن الرويــة والأنــــــا     ة وحكمة الشيخ الخبيــر
إن الـقضـــــاء إذا رمى     دك القــواعد من ثبــــير

     ويصور كيف دخل عليه غالبوه يتحكمون به وهو سيدهم، وكان الجميع عظاماً في موقفهم، الغالب منهم المغلوب، وكانوا أسوداً يهاجمون بعضهم، وينتهي الأمر باعتزال الأسد المغلوب وتفويض أمره لله تعالى:

دخلوا السرير عليك يحــ     ـتكمون في رب السريــر
أعظـــم بهم من آســـريــ     ـن وبالخليـــفة من أسيــر
أسد هصــور أنشـــب الـ     أظفار في أســــد هصور
قالوا اعتزل قلت اعتزلــ     ـت، الحـــكم لله القــــديـر

     وفي لباقة ظاهرة يعاتب شوقي السلطان المعزول على موقفه من الدستور ويتمنى لو عمل به، عمل الفرح المسرور، لأنه زينة وعصمة، ومنه تستمد الدول قدرة على مغالبة الأحداث:

أوذيت من دستـــــــورهم     وحننـــت للحكم العسيـــر
وغضبـــت كالمنصور أو     هارون في خالي العصور
ضنـــوا بضـــــائع حقـهم     وضننت بالدنيـــا الغـرور
هـلا احتفظـــت به احتفــا     ظ مرحّب فــــرح قريــــر
هو حليــــة الملك الرشيــ     ــد وعصمة الملك الغرير
وبه يبـــــارك في الممـــا     لك والملوك على الدهـور

     ثم ينتقل شوقي بعد ذلك ليهنئ الجيش العثماني، ويهنئ السلطان الجديد، ويوصيه بإقرار الدستور والعمل به.

     والقصيدة تنطق بوفاء شوقي للسلطان المعزول، ولباقته المعهودة، وحسن تصرفه وفهمه، وهو في ذلك كله يتفوق على نظيره وقرينه حافظ حين تصدى للموضوع نفسه.

     وفي قصيدة شوقي التي قالها مهنئاً الخديوي عباس بعودته من تركيا عام 1902م، يتحدث عن وباء الكوليرا الذي اجتاح الصعيد آنذاك، مؤملاً أن تكون عودة الخديوي عوناً للناس المصابين والمنكوبين:

لهفي على مهج غوال غـــــالها     خـــافي الدبيب محجب الأظفـار
خمسون ألفاً في المدائن صادهم     شـــــرك الردى في ليلة ونهــار
ذهبـــوا فليـــت ذهابهم لعظيـمة     مرموقـــة في العصر أو لفخـار
فالموت عند ظلال موشا رائــع     كالموت في ظل القنــــا الخطار
أهلاً بلطـف الله بعد قضـــــــائه     سكن القضـــاء به فليس بجــار
لمـــا التمسنـــاه تمثــل فانجـــلى     قمراً برأس التيـن للنظار[21]

     والحقيقة أن كارثة الكوليرا كانت تحتاج وقفة من شوقي أكبر من وقفته هذه، سواء في تصويرها أو في استنهاض همم الناس لعون المنكوبين بها. والبرود فيها واضح جلي. والتكلف يظهر في أشد حالاته افتعالاً وثقلاً حين يجعل شوقي من وصول الخديوي إلى قصره في رأس التين مظهراً للطف الله عز وجل بالمنكوبين، وبمصر التي تتطلع إلى حاكمها الآيب من سفره ليكون سنداً وعوناً في مشكلاتها ومنها الكوليرا.

     ولشوقي قصيدة جيدة في ذكرى استقلال سوريا يوم حصلت على بعض حقوقها من الفرنسيين عام 1928م، كثمرة من ثمار ثورتها الشهيرة عام 1925م، ومطلع القصيدة:

حيــــاة ما نريــد لها زيـــالا     ودنيا لا نود لها انتقالا[22]

     وفي القصيدة يحيي شوقي جهاد الشعب السوري ضد الفرنسيين، ويوصيه بجمع الكلمة، ويرفع من شأن الأبطال، ثم يفرد مجموعة من الأبيات يمجد فيها يوسف العظمة البطل السوري في ميسلون، وهي أبيات تقع في صميم الرثاء:

ســأذكر ما حيـــيت جدار قبــر     بظـــاهر جـــلق ركب الرمـالا
مقيـــــم ما أقــــامت ميســـلون     يذكــر مصــرع الأسـد الشبـالا
لقـــد أوحى إلي بمــــا شجـاني     كما توحي القبور إلى الثــكالى
تغيــــب عظمة العظــمات فيه     وأول سيـــــد لـقي الـنبــــــــالا
كأن بنــــــاته رفعوا منـــــــاراً     من الإخلاص أو نصبوا مثــالا
سراج الحق في ثبج الصحارى     تهاب العــاصفات له ذبـــــــالا
ترى نور العقيـــدة في ثـــــراه     وتنشــق من جوانبه الخــــلالا
مشى ومشت فيالق من فرنسـا     تجـــر مطارف الظفر اختيـالا
مـلأن الجـــــو أسلحة خفـــافـاً     ووجــه الأرض أسلحة ثقــــالا
وأرســلن الريــــاح عليه نـاراً     فما حفل الجنوب ولا الشــمالا
ســـلوه هل ترجــل في هبـوب     من النيـــران أرجلت الجبـــالا
أقـــــام نهــــــــاره يلقي ويلقى     فـلما زال قرص الشــمس زالا
وطـــاح ترى به قيد المنــــايـا     ولست ترى الشكيم ولا الشكالا
فكفن بالصــــــوارم والعــوالي     وغيب حيث جال وحيث صالا
إذا مرت به الأجيــــال تتــرى     سمعت لها أزيــــزاً وابتــــهالا

     والأبيات قطعة رائعة يرثى بها شوقي القائد البطل الذي أصر على مقاومة الغزاة، دون مبالاة بالفارق الهائل بين القوتين حتى سقط شهيداً دون وطنه. وقد وفق شوقي في تصوير المعركة وشجاعة المرثي واستشهاده، وأحسن إذ وظف استشهاده توظيفاً وطنياً حيث جعل قبره رمزاً للبطولة وداعية لاستمرار الجهاد ضد المحتل، يذكر الأجيال الجديدة بواجبها إزاء بلادها، كما فعل مع عمر المختار فأحسن في المقامين.

     والأبيات رثاء حي وشعر يقع في صميم الوطنية العربية والإسلامية، التي كان لشوقي فيها دور بارز.

     وفي قصيدة شوقي ((دمعة وابتسامة)) التي قالها يوم عادت أم الخديوي عباس من تركيا إلى مصر بعد غيبة طويلة عام 1922م، قطعة في رثاء حفيدها الأمير عبدالقادر الذي كان في المنفى مع أبيه الخديوي عباس، فلما مات حملت رفاته إلى مصر لتدفن فيها. والقطعة رثاء للأمير الميت وعزاء لجدته العائدة، وفي الأبيات حكمة تذكر بالمعري:

إنما الدنيــــا شجــــــون تـلتــــقي     وحــــزين يتــــــأسى بحـــــزين
ضحـــك الدنيــا احتشــاد للبكــــا     وأغــــانيها معــــــــدات الأنيـــن
ســـرني أن قــــــــرب الله النوى     وشجاني في غد من تدفنين[23]

     والمرثي مات شاباً بسبب حنينه لوطنه والشاعر يشارك ذويه في حمل المصاب الذي يذكر بآل البيت، والشاب الفقيد له جلاله المشهود له، الذي استمده من جلال جدته المشهود له أيضاً:

قـمــر حيـــف عليــــه فانتحى     منـــزلاً بين الأصول الآفـلين
فأخذنــــا قسطنـــا من ثــــكله     علنـــا نحـمل عنكم أو نعيــــن
ورفعنـــــا في الضحايا ذكـره     وأذعنا يومه في الآخــــــرين
ووجدنــــــا عند ذكـــرى دمه     طيـب أبناء الحسين الطاهرين
وكــأن النـــــاس في موكبــــه     لجـــلال الموكب الآخر ديـــن
وكــــأن الآل فيــــه هــــاشــم     وكــــأن الميت زين العــابدين
جــل في الأعناق حتى خلتـــه     منـــــة فيها لأم المنعميــــــــن
أو يـــداً في كاهـــل العــلم لها     أو صنيعاً في رقاب الصانعين

     ولأن المرثي مات صغيراً، فإنه سوف يستأنف صباه في الجنة مع ولدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اللذين ماتا صغيرين إبراهيم والقاسم:

لقـــد استــــأنف في الخلد الصبـا     بين حور قاصرات الطرف عين
حـــل بالقــــاسم مصبــاح الهدى     وبإبراهيـــم نــــور المتقيــــــــن

     ويعود في آخر الأبيات ليعزي الجدة المؤمنة، التي يعصمها إيمانها من الجزع ويحملها على الصبر:

ليس من قدري وقدر الشـعـر أن     نذكر الصبر لأم الصـــــــابرين
التي حجــــــــت وزارت ورأت     تحت هذا الترب خير المرسلين
حكـــمت فيه المنــــــايا مـــــرة     وجـــرى الحق عليه واليقيـــــن

     والمرثية باردة كأن الشاعر كتبها بداعي المجاملة، مع أنه قالها في ابن ممدوحه السابق وولي نعمته دهراً طويلاً الخديوي عباس، ولا تعوض صياغتها الجيدة وموسيقاها الجميلة عن هذا العيب البارز فيها.

     ولشوقي قصيدة في ((انتحار الطلبة)) قالها إثر انتحار بعض الطلبة بسبب رسوبهم في الامتحانات، مطلعها:

نــــاشئ في الورد من أيامه     حسبه الله أبالورد عثر[24]

     ومع اتصال موضوع القصيدة بالموت اتصالاً وثيقاً، إلا أنها لا تنتمي إلى شعر الرثاء ولا تتصل به، ذلك أن شوقي لم يرث من انتحر من الطلبة، بل مضى ينصح بالجد، ويحذر من اليأس، ويبين حقوق الوطن، فهي قصيدة تصطبغ باللون الاجتماعي أكثر مما تصطبغ بأي لون آخر.

    ولشوقي قطعة في ثمانية أبيات عنوانها ((الموت)) وهي في حقيقتها فلسفة باردة، وحكمة مصنوعة، ونظم جميل لاغير:

أرى الموت على الغبـــــرا     هو الجـــامعـة الكبـــــرى
هو الـــــدرب إلى الدنيــــا     هو الـــــدرب إلى الأخرى
هو المجـــــرى ونحن المـا     ء من حاجــــــاته المجرى
هو الأخــــــــذ هو الــــرد     هو الـنــــعي هو البشــرى
هو الســـــــلوة والــــــــرا     حــــة والعبــرة والـذكرى
فــــإن لم يــك غير المــــو     ت من عــــاقبـــــة تـدرى
ولا ما يمنـــــــــع المــــــو     ت ولا ما يصـــل العــمرا
فــــــإن شئت فمت عبـــداً     وإن شئت فمت حرا[25]

     ولشوقي بيتان قالهما ليكتبا على قبر حرم أحد أصدقائه، لتأريخ الوفاة على حساب الجمل وهما نظم ومجاملة[26].

     أما قصيدة شوقي في دنشواي فهي تستحق وقفة متأنية، لأهمية الحادثة وأثرها في تاريخ الوطنية المصرية. لقد وقعت الحادثة عام 1906م، وقصيدة شوقي قالها عام 1907م، فبين الحادثة والقصيدة سنة لم يقل فيها الشاعر شيئاً، وهذا الموقف يلام عليه شوقي، لأن مثله ليس له أن يسكت في مثل هذا المقام، ثم إن القصيدة تدور حول محورين، وصف الكارثة وأثرها على المحكومين وذويهم، ومهاجمة كرومر وتشبيهه بنيرون. وهذا ليس بكاف إذ كان على شوقي أن يوظف الحادثة توظيفاً إيجابياً أوسع للتنديد بالمحتل وجرائمه، وإهاجة الشعور الوطني المصري وتأجيجه. وفيما يلي قصيدة شوقي:

يــا دنشواي على ربـــــــاك سلام     ذهبت بـــأنس ربوعـــك الأيــــام
شهــــداء حكمك في البلاد تفرقوا     هيهات للشـــمل الشتيـــــت نظام
مرت عليـــهم في اللحـــود أهــلة     ومضى عليهم في القيــود العـــام
كيف الأرامل فيــــك بعد رجـالها     وبـــــأي حـــال أصبح الأيتـــــام
عشرون بيتــــاً أقفرت وانتـــابهـا     بعــد البشــــاشة وحشة وظــــلام
ياليت شعري في البــروج حمائم     أم في البــروج منــــية وحمــــام
نيــــرون لو أدركت عهد كرومر     لعـــرفت كيف تنفــــذ الأحكــــام
نوحي حــــمائم دنشواي وروعي     شعبــــــاً بوادي النيل ليس ينـــام
إن نـــامت الأحيــاء حالت بيـــنه     سحـــراً وبيـن فراشه الأحـــــلام
متـــوجع يتمثـــــل اليـــــوم الذي     ضجــت لشــــدة هولـــه الأقــوام
الســـوط يعــمل والمشــانق أربع     متوحـــدات والجنـــود قيـــــــــام
والمستشـــــار إلى الفظائع نــاظر     تدمى جـــــلود حولـــــه وعظــام
في كـــل ناحيــــة وكل محــــــلة     جزعــاً من الملأ الأسيف زحـــام
وعلى وجــوه الثــــاكلين كـــــآبة     وعلى وجوه الثاكلات رغام[27]

     على أن خطأ شوقي في موقفه من دنشواي أقل بكثير من خطأ حافظ، الذي كان ضعيفاً مستكيناً خائراً في الموقف نفسه.
     
     وإذا كان حافظ قد أضاف إلى خطئه هذا خطأ جديداً في قصيدته في وداع اللورد كرومر، فإن شوقي قد أحسن إحساناً بالغاً في قصيدته التي قالها في وداع كرومر، فكأنه مسح بإحسانه هنا تقصيره هناك، ومطلع قصيدته:

أيـــــامكم أم عهـــد إســـــماعيــلا
               أم أنت فرعون يسوس النيلا[28]

     وقد مضى شوقي في هذه القصيدة يهاجم كرومر هجوماً عنيفاً، ويسخر منه، ويندد بأعماله التي يعدها مفاخر وإنجازات حميدة، ويدافع عن الإسلام الذي انتقص منه، ويهزأ به لفقدانه أدب المجاملة واللباقة، ويذكره بقدرة الله تعالى الغالبة، وبسطوة فرعون الغاربة، ويعيب على الحكومة الإنجليزية إخلافها العهود وعدوانها على مصر، وإضاعتها لاستقلالها وحريتها.

     والحقيقة أن قصيدة شوقي هذه من درر شعره، يرتقي فيها ذروة عالية في سلم الوطنية، ويدافع فيها عن دينه وبلاده دفاعاً مشكوراً. وهكذا يتبين لنا أن لشوقي سبقاً لا يخفى في الرثاء العام الذي يرثي دولة أو سلطاناً أو يصور كارثة أو زلزالاً أو مدينة مقهورة، وهذا السبق ذو جانبين، الأول: أنه يكثر في شعره، والثاني: أنه يظهر لنا فيه رجلاً بعيد النظر، حكيماً فيلسوفاً ينظر في سنن الكون ونواميس الحياة ويتجاوز العرض إلى الجوهر ويقدم لنا خبرة غنية وتجربة عميقة.

----------------
[1] الديوان 1/203.
[2] الديوان 1/160.
[3] الديوان 1/356.
[4] الديوان 1/328.
[5] الديوان 1/332.
[6] الشوقيات المجهولة 2/200.
[7] شوقي وقضايا العصر والحضارة، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1981م، ص 15.
[8] تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، مطبعة المنار، القاهرة، 1931م، 2/560.
[9] الديوان 1/385.
[10] الديوان 1/144.
[11] الديوان 1/154.
[12] الديوان 1/348.
[13] الديوان 1/353.
[14] الديوان 2/51.
[15] الديوان 1/201.
[16] الديوان 1/121.
[17] الديوان 1/232.
[18] الديوان 1/247.
[19] الديوان 1/341.
[20] عبدالعليم القباني: موقف شوقي والشعراء المصريين من الخلافة العثمانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م، ص 67.
[21] الديوان 1/469.
[22] الديوان 1/364.
[23] الديوان 1/551.
[24] الديوان 2/42.
[25] الديوان 2/207.
[26] الديوان 2/224.
[27] الديوان 2/545.
[28] الديوان 1/369.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 13 - وحدة وتعدد

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

13- وحدة وتعدد:

     في طائفة من مراثي شوقي نجد لوناً من الوحدة، حيث تدور القصيدة حول المرثي ولا تعاني من امتدادات جانبية، نجد هذه الوحدة في مراثي الشاعر في: مولانا محمد علي – سليمان أباظة – عمر المختار – عبدالحليم العلايلي- محمد عبدالمطلب – عبدالحي حلمي- عبدالعزيز جاويش – ذكرى محمد فريد- عمر لطفي – ذكرى الخديوي إسماعيل – عبده الحمولي – سلامة حجازي، فمعظم معاني هذه القصائد تنصب على موضوعاتها.

     ولما كانت مراثي شوقي كثيرة جداً، فمعنى ذلك أن الغالبية العظمى لمراثيه تفتقد الوحدة ولهذا الأمر أكثر من سبب، منها أن الشاعر كان يكثر من اتخاذ المرثي وسيلة ليعبر من خلاله عن خواطره وأفكاره، فيمضي هنا وهناك، ومنها إعجاب شوقي بشعره، وهو إعجاب أكثر من الإشارة إليه بشيء من المبالغة أحياناً، وجعله يفخر به ويتحدث عنه بإلحاح غريب في بعض الأحيان، ومنها أن شوقي كان يجد في المضي يميناً ويساراً فرصة للهروب يستر بها برودة عاطفته فيشغل نفسه وقارئه بمثل الحديث عن الكورنيش في رثاء حافظ، وعن المنجزات العصرية الداخلة إلى مصر في رثاء رياض باشا. ومنها خوفه الشديد من الموت الذي جعله يكثر الحديث عنه، وجعله يتخيل نفسه هو الميت الذي يحمل على النعش وينزل في القبر.

     على أن مطالبة الشاعر بالوحدة دائماً، فيها نوع من التحكم، ذلك أن الشاعر ليس كاتب مقالة علمية تحكمها قواعد صارمة، بل هو عقل وقلب وخواطر، والأولى أن نطالبه بصدق العاطفة وجودة الأداء، فإذا كان له ذلك، فليس لنا أن نلومه إذا وحد أو عدد.

     وفي مراثي شوقي امتدادات قد لا يرضى عنها المطالبون بالوحدة، لكنها تقع موقعاً محموداً مناسباً، فهو حين رثى بطرس غالي اتخذ من رثائه دعوة للوئام بين المسلمين والأقباط، وحين رثى فوزي الغزي دعا السوريين إلى الوحدة واجتماع الكلمة، وحين رثى مصطفى كامل في ذكراه (شهيد الحق) ناشد الأحزاب والساسة أن يتجمعوا وتخوف على الوطن من اختلافهم، وفي رثائه كارنافون أشاد بالإبداع الذي يحقق الخلود لصاحبه، وفي رثائه للطيارين العثمانيين يمجد الخلافة العثمانية التي كانت تربط المسلمين، ويدعو الخليفة إلى إطلاق سراح عزيز المصري، وفي شهداء العلم والغربة يحمس الشباب المصري ويدعوه إلى الصبر والجد، وفي رثائه للملك حسين يعاتبه لتعاونه مع الإنجليز، وفي تصويره لموت عروس النيل يثني على الإيمان لكنه يحذر من الخرافة التي تلحق به، وفي سينيته الأندلسية ينهي رثاءه فيها لبني أمية بالتحذير من وهن الأخلاق الذي يدمر الممالك ويطالب بالتماس العبرة مما جرى في الماضي، ولما بكى الخلافة العثمانية مرتين بكاء مراً، حذر مما يراد بالأمة والدين، ومن الفتن التي سوف تطل برؤوسها، ومن تولية الخلافة من لا يستحقها، ومن التسلط الفردي الذي طالما أنهك قوتها، ولما رثى أدرنة في قصيدته (الأندلس الجديدة) بدا لنا فيلسوفاً يعرف سنن الله في الدول والحضارات، ويحذر من عواقب الغفلة عنها، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن قصيدته الشهيرة في دمشق لما قصفها الفرنسيون، فقد بدا لنا فيها داعية للوطنية والجهاد، وناظراً في قوانين الحياة ونواميسها.

     لذلك يمكن القول: إن إلزام الشاعر بالوحدة أمر فيه تحكم كبير، لما سبقت الإشارة إليه من أن الشاعر ليس كاتب مقالة علمية محكومة بقواعد صارمة بل هو عقل وقلب وخواطر فيها الشعور الواعي وفيها الشعور الباطن، وحين يبدأ الشاعر قصيدته لا يدري هو بالتحديد ما الذي سيرد عليه.

     والأولى أن نظل نطالب الشاعر بالصدق والجودة، فإذا امتلك هذين الشرطين فزنا منه بفن رفيع سواء التزم الوحدة أم لا، ولذلك نجد في قصائد شوقي التي يلتزم فيها الوحدة والتي يعدد فيها ما هو جيد وما هو غير جيد، فليست الجودة
بالضرورة حبيسة قالب جامد لا يعدوه.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 12 - الموسيقى

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

12- الموسيقى:

     تحتل الموسيقى في شعر شوقي منزلة خاصة يتفوق بها ويتألق، ويمتاز عن سواه من الشعراء، فلشعره روعة موسيقية آسرة أمدته بها ثقافته الشعرية الواسعة وأذنه الرهيفة الدقيقة، وصلته بالغناء والمغنين، ومعرفته الغنية بالعربية ومفرداتها، لذلك لا يكاد يسمع الإنسان قصيدة من قصائده حتى يشعر أنه إزاء لحن موسيقي متكامل مصقول، بحراً وقافية وتراكيب، وموسيقى داخلية تزيد اللحن تنوعاً وغنى، بحيث تتدفق القصيدة كأنها ماء عذب جار.

     وإذا كان شوقي قد جعل المتنبي نصب عينيه، وظهر ذلك في حكمته، فإنه أيضاً جعل البحتري نصب عينيه، الأمر الذي يظهر في موسيقاه. ومنذ شباب شوقي المبكر نجد صلته بالبحتري، وهو اتصال واع مختار، جعل شوقي يشبه نفسه بالبحتري حين شبه الخديوي توفيق بالخليفة العباسي:

أحييت في فضل الملوك وعزهم     ما مات من أم الخـــــــلافة جعفر
إن الذي قد ردها وأعــــــــــادها     في بردتيك أعاد في البحتري[1]

     ومما يدل على حب شوقي للبحتري واحتذائه إياه في موسيقاه، مقدمته لقصيدته الشهيرة في الأندلس التي مطلعها:

اختـــــلاف النهار والليـل ينسي     اذكرا لي الصبا وأيام أنسي[2]

     فهو في هذه المقدمة يقول: ((وكان البحتري رحمه الله رفيقي في هذا الترحال وسميري في الرحال، والأحوال تصلح على الرجال، كل رجل لحال، فإنه أبلغ من حلّى الأثر وحيا الحجر ونشر الخبر وحشر العبر، ومن قام في مأتم على الدول الكبر، والملوك البهاليل الغرر، عطف على الجعفري حين تحمل عنه الملا وعطل من الحلى، ووكل بعد المتوكل للبلى، فرفع قواعده في السير وبنى ركنه في الخبر وجمع معالمه في الفكر، حتى عاد كقصور الخلد امتلأت منها البصيرة وإن خلا البصر، وتكفل بعد ذلك لكسرى بإيوانه حتى زال عن الأرض إلى ديوانه، وسينيته المشهورة في وصفه ليست دونه وهو تحت كسرى في رصه وصفه، وهي تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار في بيوته بعد الاندثار، قال صاحب الفتح القسي في الفتح القدسي بعد كلام: فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه، تجدوا الإيوان قد خرت شعفاته وعفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد بقي بها كسرى في ديوانه أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه، وهذه السينية هي التي يقول في مطلعها:

صنت نفسي عما يدنس نفسي     وترفعـــت عن ندى كل جبس

     والتي اتفقوا على أن البديع الفرد من أبياتها قوله:

والمنــــــايــا مواثــــل وأنــو شـــر     وان يزجي الصفوف تحت الدرفس

     فكنت كلما وقفت بحجر أو أطفت بأثر تمثلت بأبياتها، واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:

وعظ البحتري إيوان كســـــرى     وشفتني القصور من عبد شمس

     ثم جعلت أروض القول على هذا الروي وأعالجه على هذا الوزن حتى نظمت هذه القافية المهلهلة وأتممت هذه الكلمة الريضة، وأنا أعرضها على القراء راجياً أن سيلحظونها بعين الرضاء ويسحبون على عيوبها ذيل الإغضاء)).

     ولشوقي قصيدة جاءت في الشوقيات المجهولة، وجهها عام 1906م إلى الخديوي عباس، وهو يصف قصيدته هذه بأنها ((بحترية المبنى أحمدية المعنى))[3].

     ومعنى ذلك أن شوقي كان على اتصال واع ومستمر بالشاعرين الكبيرين طيلة حياته، وهو اتصال أملاه الحب والإعجاب ودعاه إلى المتابعة والاحتذاء، وقد ظهرت آثار ذلك في شعر شوقي كله، لأنه فعله عن سابق إصرار وتصميم، أما آثار المتنبي فظهرت في حكمة شوقي التي أكثر فيها، وظل فيها يبدئ ويعيد، وأما آثار البحتري فظهرت في لغته الرائعة المصفاة، وموسيقاه الساحرة الآسرة. ولذلك جعل الدكتور طه وادي أساتذة شوقي الملهمين ثلاثة هم المتنبي والبحتري وأبو نواس[4]. أما الأستاذ عباس حسن فإنه يصف شوقي بأنه ((بحتري زمانه))[5]. ويقرن الأستاذ أحمد محفوظ بينه وبين البحتري حين يتحدث عن لغته فيقول: ((وشوقي عندي يتبع البحتري في هذا، فهما اثنان لم يظفر الشعر العربي بضريب لهما في جمال الأسلوب وإن كان البحتري يفضله قليلاً لأنه أكثر ثروة وأفضل ذوقاً في هذا الثراء اللفظي))[6].

     والأستاذ عباس العقاد حين أشاد بمزايا البارودي، وقرر أن هذه المزايا ربما رجحته على شوقي في ناحيتها، استدرك ليقرر ((ولكن شوقياً يعوضها بما يضارعها أو يفوقها في آياته ومأثوراته وهو سلاسة اللفظ وعذوبة السياق ورقة النغمة الموسيقية))[7].

     أما الدكتور شوقي ضيف فإنه يشيد كثيراً بموسيقى شوقي، ويكاد يجعلها آيته الكبرى في صناعته ويربط بين هذه القدرة الموسيقية لدى الشاعر وبين البحتري أكثر من مرة. يقول: ((ولا أبالغ إذا قلت إنني لا أستمع إلى قصيدة طويلة لشوقي حتى أخال كأنني أستمع حقاً إلى سيمفونية فموسيقاه تتضخم في أذني وأشعر كأنها تتضاعف وكأن مجاميع من مهرة العازفين يشتركون في إخراجها وفي إيقاع نغماتها، ولا أرتاب في أن ذلك يرجع إلى ضبطه البارع لآلات ألفاظه وذبذباتها الصوتية، وليست المسألة مسألة حذق أو مهارة فحسب، بل هي أبعد من ذلك غوراً، هي نبوغ وإلهام وإحساس عبقري بالبناء الصوتي للشعر. وهذه الروعة في الموسيقى تقترن بحلاوة وعذوبة لا تعرف في عصرنا لغير شوقي، وربما كانت تلك آيته الكبرى في صناعته، فأنت مهما اختلفت معه في تقدير شعره لا تسمعه حتى ترهف له أذنك، وحتى تشعر كأنما يحدث فيها ثقوباً، هي ثقوب الصوت الصافي الذي تهدر به المياه بين الصخور، والصوت يعلو تارة، فيشبه زئير البحار حين تهيج، وينخفض تارة فيشبه قطرات الفضة التي تسقط من مجاديف الزوارق وهي تجري سابحة على صفحة النيل. فالموسيقى غالباً رنانة ضخمة حلوة، إذ كان شوقي يعرف دائماً كيف يستخرج من ألفاظ اللغة كل ما تملك من رنين أو جرس، أو بعبارة أدق كل ممكناتها الموسيقية، وكانت تسعفه في ذلك ثقافة واسعة باللغة حتى ليحكي كاتبه أنه كان يحفظ مواد كاملة من المعاجم اللغوية، وهذه أول خطوة يخطوها من يريدون أن يمتلكوا ناصية اللغة، وهي وحدها ليست كافية، فلابد من الذوق المرهف الدقيق، ولابد من الأذن، ولا نقصد الأذن الخارجية وإنما نقصد أذن الشاعر الداخلة، فللشعراء آذان باطنة وراء آذانهم الظاهرة، يسمعون بها كل حركة صوتية وكل همسة لفظية، وبمقدار سلامة هذه الأذن وقدرتها على التمييز بين الألحان والأنغام يكون تفوقهم الصوتي وحلاوتهم الموسيقية، وقد امتلك شوقي خير أذن باطنة واعية في شعرنا الحديث، فأنت لا تكاد تقرأ فيه حتى تؤمن بأن شعره أقرب إلى الموسيقى منه إلى أي فن آخر، بل حتى تؤمن أن الشاعر إن لم يمتلك هذه المقدرة فأولى له أن يهجر الشعر وأن يبتعد عن مواكبه الساحرة. وهذا نفسه ما حير معاصريه من شعراء الشرق العربي، وجعلهم يحنون رؤوسهم أمام فنه، ويهتفون له من أعماق قلوبهم إجلالاً وإكباراً، بل لقد بايعوه بيعتهم الكبرى، وما ذلك إلا لأنه خلب ألبابهم بموسيقاه التي نفذت تأثيراتها إلى صميم أفئدتهم))[8].

     بل إن الدكتور شوقي ضيف يجعل موسيقى شوقي بتفوقها وتفردها، هي السبب الذي حفظ للشاعر خلوده وحماه من السقوط في غبار النسيان. يقول: ((وهذا الجانب في صناعة شوقي هو الذي أمسك بشعره دون السقوط منذ لمع نجمه في سماء الشعر المصري، فقد كان به يأسر النفوس والقلوب، حتى حين يهمل العناية بالمعنى، وحتى حين لا يهتم بشعره الاهتمام الذي نعهده له، فما تلبث حاسته الموسيقية أن تكسو شعره بهجة، وما يلبث الناس أن يرددوه مشدوهين، وأن يقفوا في صفه مدافعين، ولم يكن في حاجة إلى دفاع، فشعره كتابه أو دفاعه، وموسيقاه آيته أو معجزته، وهي معجزة كان يخترق بها الصفوف وتعنو له بها الوجوه))[9].

     وبعد هذا الثناء الكبير على موسيقى الشاعر، يعود الدكتور شوقي ضيف ليربط بينه وبين البحتري، يقول عنه: ((أما البحتري فكان يعشق موسيقاه، واتخذه في كثير من شعره إبرة البوصلة التي توجهه يميناً وشمالاً وهو يضرب على قيثارته وخاصة حين يصف مواكب الخديوي، وحين يقف على رسوم القصور والأطلال، وهو نفسه يعلن ذلك في مقدمته لقصيدته السينية التي وصف فيها قصر الحمراء بغرناطة، وبكى الحضارة الأندلسية))[10].

     وبعد أن يورد الدكتور شوقي ضيف جزءاً من مقدمة شوقي لقصيدته التي سبق أن أشرنا إليها وأوردنا جزءاً من مقدمتها، يقول: ((وهذه الإشادة ببلاغة البحتري ليست مجرد لعب بالألفاظ، فالبحتري يقع من شعر شوقي لا في هذه السينية وحدها بل في قصائده كلها موقع مفاتيح ((البيان)) ممن يضرب عليها، فهو موسيقار اللغة العربية في أزهى عصورها أي العصر العباسي، فبديهي أن يعكف عليه موسيقارنا الجديد، وأن يستمد من سموه الموسيقي، ومن نغماته وألحانه، وطريقته في الخفة بالصوت والشدة والارتفاع به والانخفاض والتحليل فيه والتركيب، حتى تستوي له موسيقاه بألفاظها وحركاتها ورنينها وتموجاتها))[11].

     ويعود مرة ثانية ليقول: ((وقديماً قالوا إن البحتري يجري على عمود الشعر العربي، يقصدون أن لهذا الشعر هيئة خاصة في تراكيبه وصياغاته، وأن البحتري قد ارتسمت هذه الهيئة في ذهنه، وصدر عنها في شعره، كما يقصدون في الوقت نفسه أن موسيقاه صافية ليس فيها عقد الثقافة والفلسفة التي عاصرته، ونستطيع على هذا القياس مع شيء من الفارق أن نقول إن شوقي يجري على عمود الشعر العربي، فقد أوتي من علمه بصياغاته وتآليفه ما لم يؤته شاعر منذ البحتري، على كل حال شوقي هو بحتري شعرنا الحديث))[12].

     أما الأستاذ صالح جودت الذي يرى أن الموسيقى هي المادة الأولى في ملاط الشعر، فإنه يجعل شوقي ((سيد القدامى والمحدثين)) بسبب موسيقاه الفنية[13].

     وهكذا تتلاقى آراء الدارسين في الإشادة بموسيقى شوقي، وتتلاقى أيضاً في تبيان صلتها وصلة صاحبها بالبحتري، الأمر الذي نجده في قصائده، بحيث يشعر المرء وهو يتملى موسيقاه أنها خالصة سائغة مصفاة، وبحيث تكثر الشواهد الدالة على ذلك في رثائه وفي غير رثائه.

     ويلاحظ أن شوقي كان يؤثر في مراثيه اختيار البحور كثيرة التفعيلات، كالطويل والبسيط والمتقارب والوافر والخفيف والكامل، ويندر أن نجد عنده البحور المجزوءة، وهذه البحور خير عون له في استيعاب المعاني التي يريدها ذلك أنها بامتدادها يمكن لها أن تتضمن الفكرة التي يريد إيصالها لنا.

     فهو حين يريد أن يصور جسد عمر المختار البالي الذي دفن في برقة، يختار البحر الكامل الذي استوعب المعاني التي يريدها استيعاباً جيداً:

في ذمة الله الـكريـــــم وحفــــظه     جسد ببـــرقة وســــد الصحــراء
لم تبق منه رحى المعارك أعظماً     تبــــلى ولم تبــــق الرماح دمــاء
كرفـــــات نســــر أو بقية ضيغم     باتــــا وراء السافيات هباء[14]

     إن الشطر الأول من البيت الأول يجعل الشهيد أمانة عند الله تعالى تحفظ وتصان، والشطر الثاني منه يفيدنا أن الفقيد دفن في صحراء برقة، والبيت الثاني يحتمل معنى طويلاً فيه رحى الوقائع التي لم تبق من الشهيد إلا العظام التي تبلى، والرماح التي استنزفت دماءه، والشطر الأول من البيت الثالث يجعل الشهيد رفات نسر أو بقية ضيغم أما الشطر الثاني منه فيخبرنا فيه شوقي أنهما صارا هباء وراء الرياح. وهكذا استوعبت البحر الكامل في ثلاثة أبيات جملة معان أراد الشاعر إيصالها لنا.

     ويقدم لنا شوقي الدنيا في رثائه يعقوب صروف في هذه الأبيات من البحر الطويل، بتفعيلاته الثمانية الممتدة:

سمــــاؤك يا دنيــــا خداع ســــــراب
               وأرضـــك عمران وشيــــــك خراب
وما أنت إلا جيــــفة طال حولهـــــــا
               قيـــام ضبـــاع أو قعــــود ذئـــــــاب
وكم ألجـــأ الجـــوع الأسود فأقبـــلت
               عليـــك بظفـــــر لم يعــــف ونــــاب
قعدت من الأظعان في مقطع السرى
               ومروا ركابـــاً في غبار ركاب[15]

     فالبحر الطويل بتفعيلاته الكثيرة استوعب في أربعة أبيات مجموعة من المعاني التي جعلها شوقي مطلعاً للقصيدة ومدخلاً لرثائه يعقوب صروف، فسماء الدنيا سراب خادع، وأرضها عمران يكاد يخرب، وهي جيفة يكثر حولها مرأى الضباع التي تقوم والذئاب التي تقعد، وهي تدفع أبناءها إلى الفتك الشرس كما تفعل الأسود إذا استبد بها الجوع، ثم هي تجلس وتحسن اختيار مجلسها الذي تراقب فيه أجيال البشر وهم يفدون إلى الموت قافلة بعد قافلة.

     ولما كان خوف الموت يسكن في قلب شوقي بشكل دائم، أخذ يطلب من رياض باشا أن يخبره عما يرجو أن يسكن من مخاوفه في هذه الأبيات من البحر الوافر:

ســـألتـك ما المنـــــــية أي كــأس
               وكيـــف مذاقهـــــا ومن الســــقاة
ومــــاذا يوجس الإنســــــان منها
               إذا غصــت بعـلقــــمها اللهــــــاة
وأي المصــــرعين أشـــد مــوت
               على عـلم أم المـــوت الـفـــــوات
وهل تـقــــع النفوس على أمــــان
               كما وقعــــت على الحــرم القطاة
وتخــــلد أم كزعم القوم تبــــــلى
               كما تبلى العظام أو الرفات [16]

     ففي هذه الأبيات الخمسة استطاع شوقي أن يفرغ كل مخاوفه في شكل أسئلة متلاحقة يوجهها إلى المرثي الذي ذاق كأس الموت قبله ليطمئن على ما سوف يحل به، فهو يسأله عن المنية، وأي كأس هي، وعن طعمها، وعن سقاتها، وعن شعور المحتضر إذا شعر بمرارتها، وعن الموت المعلوم والموت المفاجئ وأيهما أيسر، وما مصير النفوس بعد الموت أتأمن أم تخاف وتخلد أم تبلى؟ ولا ريب أن البحر الوافر أعان الشاعر على استيعاب هذه المعاني واستقصائها وحشدها.

     ويبدأ شوقي قصيدته في عبد العزيز جاويش بهذه الأبيات من البحر المتقارب:

أصاب المجاهد عقبى الشهيـــــد
               وألقى عصاه المضاف الشــــريد
وأمسى جمـــــاداً عدو الجـــمود
               وبـــات على القيد خصم القيــود
حــــداه السفـــــار إلى منـــــزل
               يـــلاقي الخفيـــــف عليه الوئيـد
فقـــر إلى موعــــد صــــــــادق
               معـــز اليقيـــن مذل الجحـــــود
وبات الحواري من صاحبيــــه
               شهيدين أسـرى إليهم شهيد[17]

     لقد وظف شوقي البحر المتقارب بتفعيلاته الثمانية توظيفاً جيداً جعله يتسع للمعاني التي يريد أن يبدأ بها قصيدته، فالفقيد المجاهد كانت عاقبته خيراً إذ فاز بما يفوز به الشهيد، والفقيد الشريد المطارد ألقى عصاه فكف عن التجوال. فصار جماداً وكان عدواً للجمود وأمسى مقيداً وكان حراً يأبى القيود، ولقد استجاب إلى داعي السفر الذي أهاب به أن يمضي إلى منزل يتلاقى فيه المسرع مع المبطئ ففعل، وآل أمره إلى نهاية الإنسان التي تعز المؤمن وتذل الجاحد، والتقى بصاحبيه اللذين سبقاه مصطفى كامل ومحمد فريد فصاروا ثلاثة شهداء تجمعهم وطنية هي في قدسيتها كالدين.

     ويختار شوقي في رثائه لعبد الخالق ثروت البحر البسيط ليقول له:

نم غير باك على ما شــدت من كرم
               ما شيـــــد للحق فهو الســـرمد الأبد
يـا ثروة الوطن الغــــالي كفى عظة
               للنــــاس أنك كـنـــــز في الثرى بدد
لم يطغك الحـــكم في شتى مظاهره
               ولا استخفــــك لين العيــش والرغد
تغـــدو على الله والتــــاريخ في ثقة
               ترجــو فتقــــدم أو تخــشى فتتـئـــد
نشـــأت في جبهة الدنيا وفي فمهــا
               يدور حيــــث تدور المجد والحسـد
لكـــل يوم غد يمضي بروعتـــــــه
               وما ليومك يا خير اللدات غد[18]

     لقد استطاع شوقي أن يحشد في هذه الأبيات الستة مجموعة من المعاني من خلال البحر البسيط ذي التفعيلات الثمانية، ليبشره فيها أن ما شاده من كريم الأعمال خالد فله أن ينام في قبره سعيداً غير محزون، وليجعله – مستفيداً من اسمه – ثروة للوطن يتعظ بها من يلتمس العبرة إذ استحالت إلى كنز مبدد في التراب، وليشهد له أنه لم يغتر بالحكم وسطوته ولا بالمال والعيش الرخي، وأنه كان يراقب الله تعالى فيما يعمل وينظر إلى التاريخ فيما يريد صنعه فهو بين هذا وذاك في إقدام وإحجام، والفقيد لابد أن يظل متشحاً بالمجد لكريم فعاله مصاباً بالحسد لغيظ العاجزين منه، وأخيراً يتوجع شوقي للفقيد العزيز، تربه وصديقه إذ إن لكل حزن يوماً يمضي به، لكن الفقيد يتجدد عليه الحزن ويستمر.

     وفي رثائه لأمين الرافعي يختار شوقي البحر الخفيف ليبدأ قصيدته قائلاً:

مــال أحبـــــابه خليـــلاً خليـــلاً     وتــولى اللـــــــــدات إلا قليـــلا
فصلوا أمس من غبار الليــــالي     ومضى وحـــده يحث الرحيــلا
سكنـــت منـــهم الركاب كأن لم     تضطرب ساعة ولم تمض ميلا
جـــردوا من منازل الأرض إلا     حجــــراً دارساً ورملاً مهيـــلا
وتعـــروا إلى البلى فكســـــاهم     خشــنة اللحد والدجى المسدولا
في يبــــاب من الثرى رده المو     ت نقيـــــــاً من الحقـود غسـيلا
طرحوا عنده الهمـوم وقـــــالوا     إن عبء الحياة كان ثقيلا[19]

     ففي هذه الأبيات السبعة التي جعلها شوقي مطلعاً لقصيدته استطاع أن يحشد لنا من خلال البحر الخفيف، مجموعة من المعاني والأفكار المناسبة لرثاء الرافعي، فالأحباب مضوا على التوالي إلى الموت وتركوا المرثي وحده يحث طريقه الموحش دون رفيق، وفي مدينة الموتى تسكن حركة القافلة كأنها لم تضطرب ساعة من النهار ولم تقطع ميلاً من الأرض، والراحلون تركوا وراءهم كل ما جمعوه في منازل الأرض ولم يبق لهم إلا حجر دارس ورمل مهيل، فصاروا إلى البلى الذي كساهم من بعد عز الدنيا لحداً خشناً وظلاماً دامساً، ثم هم بعد ذلك متساوون إزاء التراب الذي صاروا إليه وهو تراب نقي من أحقاد الدنيا، بريء من عداوتها، لذلك وجدوا به سعادة فطرحوا عنده هموم الحياة وأعباءها التي تبين لهم أنها كانت صعبة ثقيلة. وهكذا وفق شوقي في توظيف البحر الخفيف ليتسع لمعانيه التي أراد أن يقولها.

     ويلاحظ أن شوقي كان يؤثر اختيار القوافي المطلقة، على القوافي المقيدة، وهذا الاختيار من شوقي اختيار موفق لأن القصيدة تنتهي بما يساعد قارئها ومنشدها على التغني والترنم فكأنه يعبر بذلك عن أحزانه، إذ تأخذ الكلمات فيه مداها إلى الآخر بخلاف القوافي المقيدة، ولذلك كانت القوافي المطلقة عنده أكثر من القوافي المقيدة، وخاصة في مراثيه التي يجود فيها ويتفوق، وهو ما يؤكد أن هذا الاختيار اختيار واع من قبل الشاعر تمليه ملكته الموسيقية الصافية، فكأنه يسمع نفسه قصيدته قبل أن يسمعها الناس.

     ومما ينبغي الوقوف عنده الموسيقى الداخلية عند شوقي، ذلك أنها تتكامل مع الموسيقى الخارجية لتخرج لنا قصائده في أجمل لحن وأروعه، نجد ذلك في حسن انتقائه لألفاظه وحسن سبكه لعباراته بحيث يشعر القارئ أن البيت يتدفق تدفقاً متسلسلاً سهلاً طبيعياً كأنه جدول لا كدر فيه. يقول شوقي في رثائه سيد درويش:

بـلبـــــــل إســكـنــــــــــــــدري أيـكـه
               ليس في الأرض ولكن في الســــــماء
هبـــــــط الـشــــــاطئ من رابيـــــــة
               ذات ظــــل وريـــــاحيـن ومـــــــــاء
يحــــمل الـفــــن نميــــراً صـــافـيـــاً
               غـــــدق الـنـــبع إلى جيـــل ظمـــــاء
حــــل في واد عـلى فسحـتــــــــــــــه
               عـــزت الطيـــــــر به إلا الحـــــــداء
يمـــلأ الأسحــــــار تغـــــــــــريداً إذا
               صرف الطير إلى الأيك العشاء[20]

      فالكلمات في غاية الأنس والسلاسة والعذوبة، والتراكيب مسبوكة سبكاً متوالياً لا تعقيد فيه ولا صعوبة، ولذلك تخرج الألفاظ بسهولة من مخارجها في الفم ليحسن وقعها في سهولة أيضاً في الأذن، وتقع التراكيب موقعاً لا نبو فيه ولا غرابة في الأذن كما خرجت مثل ذلك من الفم لتؤدي مهمتها الموسيقية مع الألفاظ. وهذا الأمر كثير جداً عند شوقي بحيث يكاد يكون السمة العامة لشعره ومتابعته باستمرار تفضي إلى تكرار نمطي.

      والحقيقة أن الألفاظ عند شوقي مختارة بعناية لذا يسهل التلفظ بها ويلذ التسمع لها، ومثل ذلك جمله وتراكيبه التي تتدفق في سهولة ويسر وتتابع ليسهل التلفظ بها ويلذ التسمع لها هي الأخرى أيضاً، وبذلك تتكامل موسيقى الألفاظ وتتناغم وتتسق مع موسيقى الجمل والتراكيب لتكون لنا منها جميعاً موسيقى داخلية رائعة.

      ومما يروعنا في الموسيقى الداخلية لشوقي ذلك التساوق والتقابل والتماثل في الألفاظ والجمل، وهو ما يضيف بعداً جديداً لموسيقاه يضاعف من إيحاءاتها الإيقاعية ويثري ألحانها وأنغامها.

      رثى شوقي مصطفى فهمي، وكان المرثي قد رزق البنات وحرم الأولاد، فخاطبه شوقي قائلاً:

أأبــــــا البنات رزقتــهن كرائماً    ورزقت في أصهـارك الكرمــاء
لا تذهبــن على الذكور بحسـرة     الذكر نعم ســــلالة العظــــــماء
وأرى بنــاة الدهر يثـــلم مجدهم     ما خلفوا من طالح وغثــــــــــاء
إن البنــــات ذخــائر من رحـمة     وكنوز حب صــــادق ووفـــــاء
والســـاهرات لعـــــلة أو كبــرة     والصــــابرات لشــــــــدة وبلاء
والباكيــــاتك حين ينقطع البــكـا     والزائراتك في العــراء النــائي
والذاكراتــك ما حيين تحدثــــــاً     بســوالف الحرمــــــات والآلاء
بــالأمس عزاهن فيــك عقـــائل     واليوم جاملهن فيك رثائي[21]

     فنحن هنا إزاء موسيقى داخلية لا تخطئها الأذن، فالبنات ساهرات صابرات باكيات زائرات ذاكرات، وهذه الكلمات التي وصف بها شوقي البنات على وزن واحد، وهي تقع في الأذن موقع الشارة الموسيقية اللازمة التي تتكرر في أول الشطر الأول، وأول الشطر الثاني، وكلمات (علة وكبرة وشدة) في البيت الخامس هي ذات وزن موسيقي واحد تأتي لتمنح الإيقاع المتكرر، وفي البيت الأخير نجد نوعاً من التقابل الموسيقي بين الشطرين يأتي من كلمة في الشطر الأول تقابلها كلمة مماثلة في الشطر الثاني فكلمة (بالأمس) في الشطر الأول تقابل كلمة (واليوم) في الثاني، وكلمة (عزاهن) تقابل كلمة (جاملهن) وكلمة (فيك) متكررة وكلمة (عقائل) تقابل كلمة (رثائي) وهذا التقابل يمنح الأذن موسيقى داخلية جديدة إضافة إلى موسيقى البحر والقافية ليكون أثرها أكبر.

     وفي رثاء شوقي لحافظ نلمس الموسيقى الداخلية لا بآذاننا فقط، بل بكل حواسنا:

ووددت لو أني فــــداك من الـــردى     والكــــاذبون المرجفــــــون فــدائي
النــــاطقون عن الضغيـــنة والهوى     الموغرو الموتى على الأحياء[22]

     فكلمة (فداك) في الشطر الأول تقابلها كلمة (فدائي) في الشطر الثاني، وكلمتا (الكاذبون) و (المرجفون) تأتيان معاً بصيغة جمع المذكر السالم ليتكرر إيقاعهما، وكذلك كلمة (الناطقون) في البيت الثاني. وتأتي سهولة قراءة البيتين لألفاظهما وتراكيبهما لتجتمع مع هذه التقابلات الموسيقية فتزيد في إيقاع الموسيقى وتراً جديداً.

     ويقول شوقي عن الموت في رثائه اللورد كارنافون:

هو منــزل الســـــاري وراحة رائح     كثـــر النهـــــار عليه في إتعــــــابه
وشفــــاء هذي الروح من آلامهـــــا     ودواء هذا الجسم من أوصابه[23]

     فعبارة (منزل الساري) تماثل وتقابل عبارة (راحة رائح) من حيث الوزن ومن حيث الإضافة وهذه نغمة موسيقية واضحة، والشطران في البيت الثاني يتقابلان، فكلمة (شفاء) تقابل كلمة (دواء) وكلمة (هذي) تقابل كلمة (هذا) وكلمة (الروح) تقابل كلمة (الجسم) وكلمة (الآلام) تقابل كلمة (الأوصاب) والتقابل واضح من حيث عدد الكلمات وأوزانها وإضافاتها.

     ومن ذلك قول شوقي في وصف الفرعون المكتشف وما في قبره من عجائب وغرائب:

المنـــــــدل الفياح عود سريـره     واللؤلؤ اللماح وشي ثيـــــــابـه
بنيان عمران وصرح حضارة     في القبر يلتقيان في أطنــــــابه

     والتماثل والتقابل اللفظي واضح في البيت الأول كلمة كلمة، تعريفاً ووصفاً، وإضافة ووزناً، كما هو واضح في الشطر الأول من البيت الثاني.

     والأمر نفسه نجده في قول شوقي عن الموت في القصيدة نفسها:

نـــــــام العدو لديه عن أحقاده     وسلا الصديق به هوى أحبابه
الراحة الكبــــرى ملاك أديمه     والســــلوة الطولى قوام ترابه

     فالتقابل في التركيب اللغوي بين، فعلاً واسماً وإضافة ووزناً وعدد كلمات، وهو ما يلقي في الأذن موسيقى داخلية عذبة.

     إن عناصر الموسيقى الداخلية في مراثي شوقي تتشكل من لغته المستوية الرائعة بألفاظها وتراكييها، ومما يبثه فيها من تماثل، ومما يشيعه فيها من تقابل، حيث نظفر بوقع داخلي كاللازمة الموسيقية في الأغنية تتكرر وتحلو، فتتسق الأنغام وتتكامل الألحان، وتشترك كلها في إخراج معزوفة جميلة رائعة. والموسيقى الداخلية مع الموسيقى الخارجية في مراثي شوقي تجعلان من شعره صرحاً باذخاً من الموسيقى تشترك فيها شتى الألحان والأوتار، وهو ما يضفي على شعره طلاوة خاصة وروعة ينفرد بها، وهذه الموسيقى هي إحدى مكونات فنه وعبقريته في بناء قصائده بناء ما يزال يروع القارئ والمنشد والسامع على السواء. يقول الدكتور شوقي ضيف عن تفرد شوقي في ملكته الموسيقية:((ولسنا نعرف في العصر الحديث من تحولت إليه الملكة العربية بجميع خصائصها الصوتية والموسيقية على نحو ما نجد عند شوقي، فقد تشرب روح العربية وامتلك أزمتها اللغوية، يصرفها كما يشاء له الشعر والفن))[24]. والذي ينظر في شعر شوقي، ويتملى موسيقاه، ويحسن الإصغاء إلى ألحانه لا يجد في هذا الحكم أي مبالغة، فالشواهد لدى شوقي على صحته هي من الكثرة بحيث تغطي كل شعره، في المراثي وفي غيرها، إن الموسيقى عند شوقي من أهم مكونات عبقريته، فقد كان فيها ملهماً كل الإلهام، موفقاً كل التوفيق، ولذلك كان شعره أصلح للغناء من سواه لما فيه من ثراء ألحان وتنوع أنغام، ولذلك كان للدكتور طه وادي أن يقول بحق: ((إن الأداء اللغوي للجملة الشعرية عند شوقي، به سمة مميزة معجزة، تذكرك بالمتنبي وأساليبه الشعرية النقية، وفيها من الجرس الموسيقي المصفى ما يدل على عبقرية وقدرة خلاقة، من هنا كان شعره من أصلح النماذج للغناء والتلحين))[25]، وكان للدكتور شوقي ضيف أن يقول عن شوقي:((خلق شوقي موسيقياً،له أذن لا تبارى في سماع الألفاظ وتأليف الألحان الشعرية، لو أنه لم يتجه إلى الشعر لكان مغنياً أو موسيقاراً من الطراز الأول))[26].

-------------
[1] الديوان 2/54.
[2] الديوان 1/203.
[3] الشوقيات المجهولة 2/292.
[4] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 34.
[5] المتنبي وشوقي، ص 91.
[6] حياة شوقي، ص 100 - 101.
[7] مهرجان أحمد شوقي، ص 5.
[8] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 44 – 45.
[9] المرجع السابق، ص 46.
[10] المرجع السابق، ص 72 – 73.
[11] المرجع السابق، ص 73 – 74.
[12] المرجع السابق، ص 81.
[13] بلابل من الشرق، دار المعارف، القاهرة، سلسلة اقرأ، العدد 355، 1972م، ص 150.
[14] الديوان 2/344.
[15] الديوان 2/373.
[16] الديوان 2/386.
[17] الديوان 2/408.
[18] الديون 2/427.
[19] الديوان 2/496.
[20] الديوان 2/333.
[21] الديوان 2/354.
[22] الديوان 2/359.
[23] الديوان 2/377.
[24] فصول في الشعر ونقده، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1977م، ص 336.
[25] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 20.
[26] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 165.

الأكثر مشاهدة