السبت، 9 سبتمبر 2023

الحج تجرّد لله

الحج تجرّد لله

     الحج تجرّدٌ لله تعالى، وتلبيةٌ لندائه، وطاعةٌ لأمره، وتصفيةٌ للنفس، وتزكية للروح، وتطهير للوجدان، وعزم صادق على الخضوع لله تعالى، والحرص على مرضاته، وتجنّبِ كلِّ ما يسخطه في بقيةِ أيام العمر، وهو أيضاً تجاوبٌ مع طبيعةِ الأمة المسلمة من حيث هي كيانٌ واحد، يَدِينُ بعقيدةٍ واحدة، إنه التحامُ المؤمنِ جزءاً لا يتجزأ في صفوفِ أمةِ التوحيد، خيرِ أمة أخرجت للناس.

     وفي الحج يتحدُ النشيد الإيماني، والهتاف الرباني، ينساب من أفواهِ المؤمنين، ويتدفق في ضمائرهم وسرائرهم، صادقاً صافياً في عذوبةٍ وحنان، وشوقٍ وإخبات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     وفي الحج صورٌ متحركة حية، ترسمُ ملامحَ الأمةِ المسلمة، وتعطيها أصولَ الحركة مع الوحدة، فالكلُّ هناك يطوف حول البيت من جميع جهاته، لكنهم مع تفرقهم حول البيت العتيق مُتَّصِلون متلاحمون، وكذلك يجب أن يكونوا مهما طافوا في جميع أنحاء الدنيا، تعاوناً ومحبة، وتناصراً ومودة، وتضامناً وأخوّة، تماماً كما وصفهم الرسول الكريم ﷺ حين شبّههم بالجسد الواحد.

     والكلُّ يسعى ولكنْ في حدودٍ لو تجاوزها لأخطأ، وكذلك السعيُ في الحياة، حيث على المسلم أن يسعى في دروبها مكافحاً صابراً لكنْ ضمنَ الحدودِ التي رسمتها له الشريعة الغراء.

     والكل يقف في عرفات في جمعٍ لا مثيل له في أمةٍ من الأمم قط، قلوبُهم مشدودة إلى خالقهم، وألسنتُهم تردد ذكره وتلهج بشكره، ورجاؤهم في الله وحده، ودموعهم الغزيرة تتساقط خوفاً وطمعاً، فيشعر الواحد منهم بالرحمةِ الإلهية تفيض عليه، ويشعرون جميعاً أن سعادَتهم الحقيقية هي في أن يعيشوا مع الله عز وجل، ويحكموا بقرآنه، ويسلموا قيادَهم إليه في كلِّ شؤونهم ليعطيَهم ما يَصْبون إليه، ويحققُ لهم ما يؤملون، وكذلك الأمر بعدَ الحج، يجبُ أن تكونَ الأمةُ المسلمة على ما عاشت عليه وعاهدت ربَّها عليه يومَ عرفات.

     ومئات الألوف يرمون الجمار، يقذفون بها الشيطان، ويقذفون بها ما في أنفسِهم من إغراءاتِه ونَزَغاته وهَمَزاته، ليفرغوا بعدَ ذلك للراحةِ والطمأنينة وشكر الله تعالى، ولو أن المسلمين تزاحموا على حربِ أعدائهم كما يتزاحمون على رَمْيِ الجمار، لصفُّوا حسابهم مع هؤلاء الأعداء، وهزموهم بإذن الله، وعاشوا أعزاءَ كراماً في حللِ النصرِ البهيجةِ المشرقة، والحريةِ الغالية، والكرامةِ الأبيةِ الشمّاء.

     وهناك، في رحاب مكة المكرمة، والمدينة المنورة وأرض الحجاز، تاريخُ الأمةِ الإسلامية في أولى أيامها المباركة، تحكيه الأبنيةُ والمشاهد، وترويه البقاع والمدافن، وتنطق به الأرض الكريمة الطيبة، فما أجملَ أن يملأَ المسلمُ عينَه من أول بيتٍ وُضِع للناس لعبادة الله تعالى وحده!.. وما أجملَ أن يتذكر الخليلَ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وهم يرفعان القواعدَ من بيتِ الله جل شأنه، ويسألانه أن يمتدَّ أثرُهما حتى يتسلمَ أمرَ الرسالةِ نبيٌّ أميٌّ كريم يتلو على الناسِ آياته، ويزكّيهم، ويعلمهم الكتابَ والحكمة وينقذهم من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور!..

     وإنها لمعانٍ نبيلةٌ نبيلة، ومشاعرُ ساميةٌ متألقة تلك التي تفيض على الإنسان وهو يتذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقودُ ابنَه ليذبحَه طاعةً لأمر الله تبارك وتعالى بعد أن جرى بينهما حوارٌ عظيم مؤمن يشهدُ بعظمةِ الإيمان، وصدقِ التفويض، والشجاعة البالغةِ عندَ الأبِ والولد على السواء: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

     وحين يهمُّ الأبُ بذبح الولد يكون النداء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104]. فلقد صَدَقَ إبراهيمُ مع خالقه عز وجل، ولم تأخذْهُ الشفقةُ على ابنِه في تنفيذِ أمرِ رَبِّه الكريم. لقد ظهر الصدق، وانكشفت الطاعة وإن لم يتمَّ الذبح.

     ولعل هاتيك المشاعر السامية، والمعاني النبيلة، تتدفق في نفسِ الحاج وهو يذبح لله تعالى في حَجِّه، مؤدياً بنجاح اختبارَ صدق الإيمان والتقوى فيما يفعل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْۚ} [الحج: 37]، المعنى العميقُ واحد، المشاعرُ السامية هيَ هي، وإنِ اختلفَ الذبيحُ هنا وهناك، وإن تَمَّ ذبحٌ ها هنا، ولم يتمَّ ذبحٌ هناك.

     والعبر في الحج كثيرةٌ كثيرة، والعظات بالغة، والدروس ساطعة كالشمس، والأملُ النهائيُّ من الرحلةِ المباركِ غُدُوُّها ورَواحُها، ووعيُ دروسِها وعبرِها أن يعود الحجيج، ورحمةُ اللهِ تعالى تحفُّهم، والبركةُ تتنزلُ عليهم، يعودون بحياةٍ جديدة، وعزمٍ جديد، وإيمانٍ جديد، وتوبةٍ نصوح، كأنهم وُلِدوا من يومهم، يعودون لمواصلةِ مسيرةِ الحياة على الطريقِ السويّ، طريقِ الهداية والاستقامة.

     أَسْعِدْ بها من رحلة!.. وأَسْعِدْ بهم من مرتحلين!.. وهنيئاً لهم في الذهاب، وبُشرى لهم في الإياب!.
*****

الحج رحلة فاصلة

الحج رحلة فاصلة

     حمداً لله تعالى على عظيم نعمائه، وسابغ كرمه وجوده، حمداً له على عطائه الكبير العظيم الذي لا تخطئ أن تلمس آثاره المباركة هنا وهناك في كل ما تقابل، ولا تخطئ أن تلمسها بادئ ذي بدء في نعمة الإسلام التي أكرمنا بها جل شأنه، هذه النعمة التي لا مثيل لها قط، هي أعظم ما يفوز به المرء، وأثمن ما يستمسك به ويحرص عليه.

     ومن أعظم صور هذه النعمة، فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، ليجدد الحاج العزم على طاعة خالقه، والانقياد لمنهجه، والدعوة لرسالته، وليؤوب منها وهو يشعر بصدق وعمق أنه نقي الصفحة، مغفور الذنب، مقبول التوبة، بعد أن أدّى حق الله عز وجل، وبعد أن أناب وأطاع، وبعد أن قام بكل لوازم رحلة الحج الهادية المباركة.

     الحج هو الرحلة الفاصلة بين عهدين، عهد مضى وانقضى يرجو المسلم أن يكون الله تعالى قد غفر له فيه ما فرّط وقصّر، وعهد جديد يستقبله المسلم، وهو على أمل عظيم ورجاء كبير أن يكون فيه بعيداً عن كل شر، مسارعاً إلى كل خير، متمسكاً بالإسلام، داعياً إليه، حاملاً شعلة هدايته المباركة النيّرة للعالمين.

     والحج رحلة فاصلة حقاً، فإن المسلم عليه أن يدع الضلال العقلي، والجدل العقيم، والتذبذب بين الإيمان والشك، وما يشبه ذلك أو يقرب منه أو يمتُّ إليه بسبب، عليه أن يدع هذا كله، ويتخلى عنه عند الميقات حيث مكان الإحرام للدخول في شعائر الرحلة المباركة الفاصلة، ومع خلعه للثوب المشدود بالخيوط، عليه أن يخلع أثواب الأخطاء والآثام، والقصور والإساءات، ويخلع ثياب الرذائل الفكرية والنفسية والروحية والجسدية والأخلاقية المشدودة بخيوط الأرض إلى عالم ينأى عن منهج الله تعالى وهديه، ودربه اللاحب المستقيم.

     عليه إذ يخلع ثيابه التي اعتادها عند الميقات؛ أن يخلع أوزار الشك، ودعوة الباطل، والمذاهب الوضعيّة، الجاهلة القاصرة التي يضعها بشر جاهلون قاصرون، يريدون منها أن تكون بديلاً عن منهج الله تعالى الكامل الصحيح الذي لا يأتيه الباطل بحال من الأحوال.

     عند الميقات يجب أن تكون بداية الفصل بين عهدين، عهدٍ يُوَدَّعُ، وعهدٍ يُسْتَقْبَل، وعند الميقات يجب أن يتحدد الاتجاه الجديد لمسيرة المسلم، لقد كانت الحياة موزعة بين الأرض والسماء، بين الارتفاع والهبوط، بين دواعي السمو وجواذب الطين، بين إيثار الآخرة والانكباب على الدنيا، بين طاعة الرحمن واتباع الشيطان، ولكنِ الآن، ومن عند الميقات يجب أن يتقد العزم في فؤاد المسلم أن يجعل حياته كلها للخير والطاعة والإيمان، فلا مجال إلا للارتفاع، ولا طريق إلا لليقين، ولا تفضيل إلا للآخرة، ولا طاعة إلا لله عز وجل.

     لا رفث ولا فسوق ولا جدال بدءاً من الميقات حيث أول مشاعر الرحلة الفاصلة المباركة، فكل ما كان يشوب إيمان المسلم وسلوكه يجب أن ينتهي، يجب أن يخلعه المسلم كما يخلع ثيابه عند الميقات، وإلّا فإن رحلة التيه والجدل، والذبذبة والضياع، والمفاسد والآثام ستظل مسيطرة عليه.

     إن الميقات هو المكان الفاصل بين رحلتين: رحلة يلبس فيها ما يشاء ويفعل ما يريد ما لم يكن حراماً، ورحلة يتقيد فيها بلوازم الإحرام وضوابطه، وهو أيضاً الزمان الفاصل بين رحلتين: رحلة الغربة والتيه والتقصير، ورحلة الهداية والحقيقة واليقين، رحلة المعصية ورحلة الطاعة، رحلة الإفلات ورحلة الإخبات.

     الطاعة والعزة، والانقياد والخضوع، والعبادة والتوجه، والحاكمية والألوهية، منذ الآن حيث يلبس المسلم لباس الإحرام، ومن هذا المكان في الميقات المعلوم، هي لله عز وجل، ولله وحده. كل المناهج إلا منهج الله باطلة، وكل الدروب -إلا دربه- تيه وضلال، وكل الدعوات -إلا دعوته- فساد وضياع، وكل الأحزاب -إلا حزبه- تجمع فاسد يقوده الشيطان، وكل الكتب -إلا قرآنه- وهمٌ وهباء.

     من عند الميقات زماناً ومكاناً يجب أن يستقر في خلد المسلم أن انقياده التام بعد اليوم لله، ولله تعالى وحده، في الضمير والقلب والجسد، في الفكر والعاطفة والعقل، في القوانين والأنظمة والشرائع، في السياسة والحكم والاقتصاد، في كل شأن من شؤون الحياة فردياً كان أو جماعياً.

     فدين الله تعالى شامل متكامل، وهو يرسم منهج الحياة في كل شيء، فهو مصحف وسيف كما أنه دستور وقانون، وهو دين ودولة كما أنه سياسة واقتصاد، وهو عبادة في المسجد كما أنه تشريع للحكم، وعلى الحاج أن يتمحض ويتجرد لله عز وجل، الذي أكرمنا بهذا الدين الشامل الكامل، ويجعل ولاءه له وحده، دون الأهل ودون المال، ودون الجاه والمنصب، ودون الغرائز جميعاً، والأرضيات جميعاً، ويمكّن هذا الولاء ويقويه، برحلة الحج الهادية المباركة السعيدة.
*****

أسرار الحج

أسرار الحج

     تعالَ معي نجُبْ ما في الحج من حكم وأسرار، ونتأملْ ما فيه من مشاهد ومواقف، نحاولْ استخلاص العبرة والدلالة، والدرس والموعظة، والإشارة الخفية والجلية!..

     تعال نفعل ذلك!.. ففي ذلك متعة وجمال، وشوق وحنان، وخير مبارك واسع. ولننظر إلى هؤلاء الطائفين الساعين، الذاكرين المسبّحين، الراكعين الساجدين، الذين وفدوا إلى بيت الله الحرام، يرجون الرحمة، ويبتغون المغفرة، وينشدون الفوز والقبول، ولنسمع إلى أصواتهم الهادرة بالتلبية، ولنرقُبْ ملابسهم الموحّدة الجميلة، ولنتأمّل معاً فيما يقولون ويفعلون، إننا سنجد العجب العجاب مما تدبّره عنايةُ الله عز وجل.

     هؤلاء الضيوف.. ضيوف الرحمن إلى بيته العتيق الآمن، تجددت حياتهم، ونشطت أجسادهم، وحسنت طباعهم، وتهذبت نفوسهم، ورقّت سرائرهم، وكرمت نواياهم، وطابت أعمالهم. تطهّرت منهم المطامح، وسمَت منهم الآمال، وعذُبت منهم الأشواق، أشرقت قلوبهم بالخير، وتطهّرت بالهداية. توضأت بالإيمان، وتعطّرت بالقرآن، وزكت بالأذان، فإذا بهم بعد هذه النُقْلة الإيمانية المباركة، خلقٌ آخر، تتزايد فيهم طاقات الخير وتتضاعف، وتنحسر فيهم نوازع السوء وتتضاءل.

     هم ضيوف الرحمن جل جلاله، ووفده الكريم إلى بيته العتيق الآمن، وهم كذلك جنده الأطهار الأبرار، الشرفاء الأتقياء، قدموا إلى مهد الإسلام الأول ومَأرِزِهِ الأمين، حيث نبتت الدعوةُ المباركة بذرةً صغيرة ما لبثت أن أخذت تنمو وتشتد وتقاوم التحديات، وتصارع الطغاة والبغاة والآثمين.

     قدِم هؤلاء الضيوف ليتذكّروا المعركة الأولى بين المسلمين يقودهم رسول الله ﷺ، وبين الكافرين تقودهم عصبة السوء، كأبي جهل وأبي لهب، وليستشرفوا الهداية في أرض النور، والنور في أرض الهداية، وليقرروا بوعي وفهم، وعزم وصلابة، أنهم سيعملون على استئناف حياة إسلامية، مباركة راشدة بعد عودتهم إلى بلدانهم.

     لقد قدم ضيوف الرحمن من كل فج عميق، ووادٍ سحيق، وأرضٍ نائية، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معدودات، ويشكروه على جزيل نعمائه، وعظيم جوده وآلائه، ويتوبوا إليه مما أذنبوا، ويستغفروه مما قصّروا، ويتداركوا ما فرّطوا، ويجددوا العزم والنشاط، ويغذّوا المسيرة المؤمنة، صوب الأمل المنشود، والغاية المؤملة، ويجددوا العهد على محاربة الفساد والانهيار في حياة أمتهم، وتقوية موكب الخير والرشاد فيها، ليتداركوا ضعفها ويتجاوزوه، ويحققوا أملها وينالوه، وليهتفوا بكلمة الحق، ويتبنَّوا دعوة الهداية، ويحملوا راية الإسعاد والإنقاذ هنا وهناك، راية الإسعاد الإسلامي، ولواء الإنقاذ القرآني، فيأوي إليهم الضالون والحائرون، والحزانى والمُتْعَبون، ويفيء إليهم كل الباحثين عن حلولٍ مؤمنة لمشكلاتهم الكثيرة، التي أوقعتهم فيها الجاهلية المعاصرة، حلولٍ مؤمنة تنسجم مع فطرتهم التي برأهم الله تعالى عليها، تحقق لهم سعادة الدين والدنيا معاً.

     وسيعود ضيوف الرحمن هؤلاء، وقد ازدادوا خيراً وبركة، ورشداً وهداية، وقد انتصرت فيهم الإنسانية على الحيوانية، والفضائل على الرذائل، والإيثار على الأثرة، والخير على الشر.

     سيعودون لينصروا دين الله عز وجل، بعد أن اجترأ عليه العادون، واقتحم حماه الفاسدون، وعاث فيه الكافرون والفاجرون.

     سيعودون وهم أثبت نفساً، وأقوى أملاً، وأمضى عزماً، وأرسخ يقيناً وهمة.

     سيعودون وقد عقدوا العزم على مقاومة الفساد الكافر، والكفر الفاسد، ومحاربة عدوان الظالمين وتسلط الغادرين، ومؤامرات اللصوص والذئاب، وخطط الخصوم والأعداء، حتى تكونَ كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

     وإن ذلك لكائن بإذن الله، في يوم لا ندري متى يكون، لكننا واثقون من قدومه، فذلكم أمر الله وقدره، وهو على كل شيء قدير.

     إنه النداء الرباني العظيم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"؛ هو الذي جاء بهذه الأعداد الهائلة من البشر إلى موطن الإسلام الأول، لتجدد إيمانها بهذا الدين الخالد، ولتبايع الله عز وجل على الولاء التام له وحده، ونبذ كافة المبادئ والدعوات الجاهلية التي ذاعت في عدد غير قليل من ديار الإسلام، وكشفها والتصدّي لها ومحاربتها.

     وفي مهد الإسلام الأول، وفي ظلال البيت المبارك العتيق، ستعرف حشودُ الحجيج حقيقةَ دينها العظيم بما تقوم به من شعائر عميقة المعاني، ومناسك بعيدة الدلالات، ويرسخ في أذهانها أن الإسلام وحده هو الحق المطلق الذي لا تشوبه شائبة، وأنه سبيلُ سعادتها ديناً ودنيا، فتحرص عليه، وتفرح به، وتستمسك بعروته، وتعض عليه بالنواجذ، ثم تنطلق به إلى الناس جميعاً، تعمل على نشره، وتذيع خيره وبركته، وتقدم فضائله للناس، لتهدي به كل من ضل واحتار، وشقي وتاه، ومضى يخبط في ليل الجاهلية البهيم.
*****

المسلمون والحج في الأزمات

المسلمون والحج في الأزمات

     ما معنى أن يتكاثر الحجاج في هذه الأيام العصيبة التي يتعرض فيها المسلمون لأشد النكبات!؟

     معناه أن المسلمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون، يُهْرَعُون إلى مكمنِ قوتهم، ويتذكرون.. يتذكرون أن مكة المكرمة هي قلب العالم الإسلامي، ورمز وحدته وقوته وتجمعه. ويتذكرون أن اجتماعهم فيها ينبغي أن يقوي فيهم روابط الأخوّة، وأواصر المحبة والتعاون والتناصر، ليتجاوزوا كل العقبات أمامهم، ويبدؤوا عهداً جديداً من النصر والغلبة والظفر، وقيادة العالم وهدايته. ويتذكرون كذلك أنه من المدينة المنورة، مدينة رسول الله ﷺ، مَأرِزِ الإيمان، وملاذه وحماه، انطلقت دولةُ العقيدة والفكرة، دولة العدل والنور، دولة الهداية والفضيلة، دولة الشهادة على الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

     انطلقت هذه الدولة من بين جاهلية عاتية، مظلمة متخلفة، وتحديات كبيرة ضخمة، وأعداء في غاية القسوة والمكر والحقد، يحيطون بها من كل جانب، كما يحيط بنا الأعداء اليوم من كل جانب، انطلقت شابةً جَلْدَةً فتيّة، شجاعةً طموحةً أبيّة، يتقد فيه العزم، ويتدفق فيها الرجاء، وتعظم فيها الهمة، وتستوطن فيها البطولة، ويقوى فيها الأمل أن تقضي على ليل الجاهلية، وتدك عروش الطواغيت المُعادين لدين الله ومنهجه، الصّادِّين عن دربه، المحاربين مَنْ آمن به. انطلقت كالنسر ينقض، كالليث يتنزّى، كالسهم يُصْمي، كالعُقاب تدوِّم، فإذا بها في أقلَّ من نصف قرن من الزمان تصل كتائبها المظفرة المنصورة، إلى الصين شرقاً، والأندلس غرباً، وإلى جنوب فرنسا شمالاً، ووسط أفريقيا جنوباً.

     المسلمون اليوم يحدوهم الأمل العريض أن ينطلقوا من غبار التخلف وحواجز الفرقة، وليل الجاهلية، وقسوة التحديات، وينجوا من ذلك كله وما يشابهه، كما انطلق المسلمون الأوائل ونجوا مما كانوا يواجهون، ويأملون أن ينتصروا كما انتصر أسلافهم من قبل، ويبنوا المجتمع المسلم كما بناه أجدادهم، ويقيموا دولة الإسلام كما أقامها الجيل الأول، وهم في أملهم العريض هذا يعرفون أن سر نجاحهم هو في الإيمان، لذلك يحملهم هذا الإيمان على تصرفات شتى؛ من بينها أن يأتوا إلى الحج، وها هم يأتون، وها هم يتزايدون. ولعل في زيادتهم هذه مؤشراً لا يخطئ إلى الدرب الذي بدؤوا يسلكون، والنهج الذي أخذوا إليه يفيئون.
*****

الحج ورابطة الدين

الحج ورابطة الدين

     يصل الحجاج إلى الديار المقدسة عرايا من كل الروابط إلا رابطة الدين التي هي الأعلى. ذلك أن رابطة الدين، رابطة قناعة عقلية قلبية، يختار المرء فيها موقفه، أما بقية الروابط فهي تقوم على اهتمامات أدنى لا اختيار فيها للمرء ولا اقتناع، عرايا من كل لباس إلا من ثوب بسيط غير مخيط لا يميز فرداً عن فرد، ولا جنساً عن جنس، ذلك أن الفوارق جميعاً سقطت في الحج، وذلك أن القادمين يجمعهم أمر واحد، هو هذا الدين الذي آمنوا به ومنحوه محبتهم وولاءهم.

     وإذن ففي هذا المؤتمر الجامع لك أن تقول: إن عقيدة الإسلام هي وحدها العقيدة، ونَسَبه هو وحده النسب، وصبغته هي وحدها الصبغة.

     ومن المقرر أن الإسلام لا يعرف نسباً، ولا يمجّد طبقة، ولا يقدّس لوناً أو لغة أو منفعة، مما تقدسه الجاهليات، وتمجده وتجمع الناس عليه، الناس عنده أمة واحدة سواسية كأسنان المشط؛ لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، والخلق عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. وهكذا يتضح في الحج معنى المساواة الذي جاء به الإسلام وأيده وأكده أشد الوضوح، ومعنى الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها عصبية، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً.

     ويمضي موكب الحجيج الطهور في الأرض الطهور، يتنقل في أرجائها ليعمّق الولاء للدين والاعتزاز بالإسلام، والفخار بالانتماء إلى أمة محمد ﷺ.. يمضي هنا وهناك، فتراه في الأراضي المباركة فتفرح به وتسعد.

     تراه في عرفة متذكراً خطبة الرسول الكريم ﷺ على صعيدها الطيب، فيستشعر بذلك أملاً كريماً، ويجدد عهداً عظيماً، وهو أن يجدد شباب الأمة الإسلامية، وجهادها المبارك على الطريق الذي حدده لها انتماؤها للإسلام، رجاءَ أن تنهض هذه الأمة لهداية البشرية من جديد، وتنقذ الإنسانية من ليل شقائها الطويل وجاهليتها العاتية، وقيادتها الغربية الضالة التي قادتها صوب الشقاء.

     إن من أعظم ما يعود به الحجيج إلى بلدانهم هو تقوية إيمانهم، وجعل ولائهم كله للإسلام وحده، وعزمهم على الجهاد من أجله حتى تعلو رايته وتسود، فيسعدون بذلك أنفسهم وذويهم وأمتهم والإنسانية جمعاء.
*****

سقى الله أيام الحج

سقى الله أيام الحج

     سقى الله أيام الحج، وحباها من الوابل الصيّب والغيث الهتون، والرحمات المزجاة بما يجدر من كرمه جل شأنه.

     سقى الله أيام الحج فهي بالنسبة للمؤمن ربيع العمر، وروضة الحياة، وهي أثمن الأيام في رحلة الحياة. هي للمؤمن كالورد في أوج تفتحه، وكالماء في عنفوان جريانه، وكالروضة المعطاء في أوج عطرها واخضرارها وتألقها.

     إنها ذكريات الإيمان والحنان، عاشها المؤمن فوق أطهر أرض في الدنيا، وفي أقدس أيام العالم، وفي مكة المكرمة يلتقي فضل الزمان بفضل المكان، ليزيد شرفاً على كل زمان، وعلى كل مكان. فإذا أضفت إلى هذين نبل مقاصد القادمين، وسامي اهتمامهم وعظيم أملهم، وصحة معتقدهم، وصفاء سريرتهم، وتجنبهم كل ما يؤذي، وحرصهم على كل خير، استطعت أن تسبر بعض الشيء عظمة الحج الذي أكرم الله عز وجل به أمة الإسلام والمسلمين.

     لا غرابة إذن أن يظل المؤمن في حنين جياش لأيامه في الحج، ولا غرابة أن يظل يرنو إلى العودة إليه المرة بعد المرة، والكرّة بعد الكرّة، وإذا كانت الطيور تسمو بفطرتها دائماً إلى الطيران، فإن قلوب المؤمنين تهفو دائماً إلى الحج وتتطلع وتشتاق:

أشواقُنـــا نحوَ الحجـــــاز تطلّعتْ     كحنيــــنِ مغتـــربٍ إلى الأوطان
إن الطيورَ وإنْ قصصتَ جنـاحَها     تهفـــو بفطــرتها إلى الطيــــران

     فليس غريباً أن تتقد عواطف المؤمنين كلما حلَّ موسم الحج، وطفق الناس يتلون قول الله عز وجل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27)، ولا غرابة أن تشهد قوافل المؤمنين تزحف نحو بيت الله عز وجل تغسل الذنوب، وتمحو الآثام، وتعزم على طاعة الله جل شأنه. وإنه لطيب مبارك بهيج أن تشهد هذه القوافل المباركة تزداد عاماً بعد عام، لتثبت للناس جميعاً أن لهذا الدين من يحبه ويمنحه ولاءه، ولتزرع في القلوب أن لهذا الدين بإذن الله يوماً يعلو فيه ويغلب ويسود.

     والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه متجردين من كل الروابط سوى رابطة الإسلام، متجردين من كل ولاء إلا الولاء لهذا الدين، متحررين من الأواصر الهزيلة التي تجمع أقواماً على عصبية لنسب أو لون أو لغة أو إقليم.
*****

ما أروع الحج!

ما أروع الحج!

     ما أروع الحج وأعظمه!.. وما أبلغَ وأسبغَ نعمةَ اللهِ تعالى على المسلمين فيه!..

     إنه الرحلةُ إلى الله جل شأنه، وإنه إعلانُ الرفضِ للشيطان، ولمنهج الشيطان، ولدرب الشيطان، وهو التعبيرُ العملي عن الرغبةِ في الطريق إلى الله عز وجل، والإقرارُ بخضوعِ العقلِ للوحي لأن العقل قاصر، والوحي معصوم، والاعترافُ التام المطلق بالخضوع لله عز وجل ودينِه وكتابِه ونبيه ﷺ.

     ولو أن المسلمين استوعبوا هذه المعاني الجليلة وما يماثلها، مما تحفل به عِبَرُ الحجِّ ودروسه ودلالاته، ولو تعاملوا مع هذا الاستيعاب بثقة المسلمين الأوائل، بعيداً عن مناهج الشك، والمبادئ المستوردة، والدعوات الجاهلية، والعصبيات والعنصريات، لقادتهم فريضةُ الحجِّ إلى فريضة الجهاد، وإلى التعاونِ والاتحاد، وإلى الواجبات الكبرى التي يوجبها عليهم انتماؤهم للإسلام، ففازوا بذلك وانتصروا، وغلبوا وتفوقوا، وتجاوزوا التحدياتِ المسعورة التي تحيط بهم من كل جانب، وانتزعوا قيادةَ الحضارة اليوم، من قيادتها الحالية التي آلت إلى أناسٍ فجرةٍ كذبة، غادرين منافقين، لا يعرفون الحق، ولا يرجون لله وقاراً، فقادوها إلى الشقاء والدمار.

     ولو أن المسلمين عادوا من رحلة الحج بمثل هذه المعاني والمشاعر والعزائم؛ لما استطاع اليهودُ الجبناء الأذلاء، المشردون المبعثرون، أن ينتزعوا منهم فلسطينَهم، ويأسروا أقصاهم، ويدنسوا قدسهم؛ فهم أعجزُ من ذلك وأجبن. وأنّى لهم أن يقفوا في وجهِ أمّةٍ متحدةِ العقلِ والقلب، والسرائر والضمائر، والعزيمة والأمل!؟ وأنّى لهم أن يفكروا بحربها مجرد تفكير فضلاً عن أن يحاربوها بالفعل، وينتزعوا قطعةً غالية من ديارها بالقوة، ليقيموا عليها كيانَهم الظالم الباغي الغشوم!؟

     ولكن لأن الأمة المسلمة ليست على الحال التي يريد منها إسلامُها أن تكونَ عليها فعل اليهود ما فعلوا، وحين تكون حقاً وصدقاً -وإنها لكائنةٌ بإذن الله- على المستوى الإيماني الذي يريده منها دينُها العظيم، سيكون اليهود كاللقمة في فمِ الأسد، وسيُهْزَمون شَرَّ هزيمة، وسيكونون خبراً من الأخبار، وستُطْوَى دولتُهم الكاذبة بقيامِ دولة الإسلام، وتسقطُ رايتُهم الفاجرة بعلوِّ راية الإيمان، ويولي ليلهم الفاجر بطلوعِ فجرِ الحق والهداية، وتغيبُ التوراةُ المزيّفة المحرّفة، والتلمودُ الكذوبُ الجهول، وبروتوكولات حكماء صهيون الآثمةُ الباغية، بانتصارِ القرآن الخالد المحفوظ، وهديهِ المباركِ الخيّر، ومبادئهِ السامية الطاهرة.

     وحقاً .. إن المرء حين يرى المسلمين في الحج؛ يعرف ضخامة هذه الأمة الإسلامية العجيبة، الهادية المباركة، المنجبة الولود، يعرف ضخامتَها عقيدةً صحيحة، مستعلية مكافحة، ويعلم ضخامتها أعداداً هائلة، ويعلم ضخامتها موقعاً فريداً، ويعلم ضخامتها مواردَ وإمكاناتٍ مذخورة، وطاقاتٍ في غاية الغنى والتوسع والكثرة، ويعلم أن هذه الأمة تنتظر مَنْ يلهب قواها هذه، ويوقد فيها شرارةَ الجهاد، ويستخرجُ منها أقصى إمكاناتها، في مسيرةٍ جادةٍ صادقة، مؤمنةٍ متحمسة، لتكونَ أعجوبةَ العصرِ من جديد، ووثبةَ الظفرِ من جديد، والموجةَ التي تكتسحُ الدنيا من جديد، فتطهّرها من رجس الزيف والكذب، والضلال والباطل، والفساد والنفاق، والشرور والآثام، وتبني عليها دولةَ الصدقِ والصحة، والهداية والحق، والخير والأمانة وما شِئْتَ من فضائل ومكرمات.

     أما العقيدة الإسلامية فهي مكمن القوة الحقيقي في هذه الأمة، وهي بحمد الله تعالى عقيدةٌ صحيحةٌ لا خطأَ فيها، نقيةٌ لا شائِبةَ فيها، واضحةٌ لا غموض فيها، وهي عقيدةٌ شاملةٌ كاملةٌ متوازنة، وهي عقيدة جادة منشئة مبدعة، وهي عقيدة إيجابية عملية مكافحة، وهي كذلك عقيدة إباء واستعلاء، وشموخ ويقين، وثقة بالغة لا حد لها.

     وهذه العقيدة العظيمة التي هي أعظم ما يملكه المسلمون، وأقوى وأغلى ما يملكه المسلمون، هي مكمن القوة الأول عندهم، وهي الشرارة التي تفجّر كلَّ شيء فيهم نحو الخير، وهي سندهم الأكبر في الحياة، وأملُهم في صياغةِ مستقبلٍ عظيمٍ من بعد، صياغتها لمجدٍ باذخٍ من قبل.

     وبعدَ العقيدةِ الصحيحة، وبتوجيهِ العقيدةِ الصحيحة؛ ترى الإمكانياتِ الكبرى للأمة المسلمة وضخامتها، فالموقع عظيم فريد، يمتد ما بين جاكرتا وطنجة، أو بين إندونيسيا والمغرب، وفيه مناطق في غاية الأهمية كجبل طارق، وباب المندب، وقناة السويس، والعدد هائل كبير يتجاوز مليار مسلم في بقاع هذا العالم. أما الإمكانات من الموارد والثروات، المخبوءة منها والمستخرجة، المجهولة منها والمعلومة، فهي من الكثرةِ والسعة والتنوع والغنى بدرجةٍ عجيبة باهرة.

     إنَّ مشاهدةَ المرءِ للمسلمين في الحج، ومعرفتَه بضخامةِ أمتهم العجيبة، عقيدةً وأرضاً، وبشراً وموارد، تجعله يعلم أن فرصَ التفوقِ والظهور أمامَها كبيرةٌ جداً، واحتمالاتِ النصر والظفر أمامَها في غايةِ الكثرة، وأنها بحاجةٍ إلى مَنْ يوقد الشرارةَ فيها، ويلهبُ قواها المذخورة لتتدفقَ كالسيلِ العرم، وتتبوّأَ مكانَ الصدارةِ من جديد، وتتولى قيادةَ الحضارةِ البشرية مرةً أخرى كما فعلت من قبل.
*****

المواقيت في الحج

المواقيت في الحج

     من عند الميقات حيث يحرم المسلم بنسك الحج، من ذلك المكان، ومنذ ذلك الزمان الذي أحرم فيه في ذلك الميقات؛ على المسلم أن يستقر في أعماقه أنه يبدأ عهداً جديداً، وأنه يمضي في الخطوات الأولى للرحلة الهادية المباركة، رحلة الحج التي أكرم الله تعالى بها المسلمين، ومنحهم من خلالها فرصة يجددون فيها إيمانهم، ويتوبون من ذنوبهم، ويفيؤون إلى خالقهم، ويفتتحون صفحة جديدة نقية، محيت منها الذنوب، وغفرت فيها السيئات ليبدؤوا عهداً جديداً يسيرون فيه على هدي الله ومنهجه، طاعةً له، وانقياداً لحكمه، وتحكيماً لشرعه، ونأياً عن الشيطان وما يزيّن من المعاصي والآثام، وبُعداً عن شرائع البشر وقوانينهم وأنظمتهم الجائرة الضالة القاصرة، التي يريد أهل الردة الجديدة أن يجعلوها بديلاً عن حكم الله تعالى وشرعه وكتابه.

     من عند الميقات مكاناً، ومن الإحرام فيه زماناً، على المسلم أن يمنح ولاءه لله عز وجل، ولله وحده، فالطريق الذي تسلكه -أيها الحاج الكريم- منذ الآن وحتى الموت هو طريق الله وحده، كل مسعاك إليه يكون، وكل اتجاهك إليه يكون، صلاةً ونسكاً، صوماً وحجاً، تجارةً وزراعة، صناعةً وعملاً، حكماً وقانوناً، في المسجد والشارع، والمعمل والمصنع، والمتجر والمدرسة، والبيت والوظيفة، والحقل والثكنة، وفي كل مكان آخر.

     طريقك -أيها الحاج- منذ الآن، منذ الميقات زماناً ومكاناً، هو طريق الله تعالى وحده، وسحقاً لحياة الرفث والفسوق والجدال، وسحقاً لحياة الشر والجاهلية والآثام، وسحقاً لحياة الهبوط والسقوط والعصيان، وسحقاً لحياة الضلال والفجور والضياع، وسحقاً لحياة الصراع الفكري، والتيه العقائدي، والمبادئ المستوردة، والمذاهب الوضعيّة، والجدل الفارغ العقيم ومهاترات العقول الضالة العمياء.

     طريقك منذ الآن، من عند الميقات زماناً ومكاناً هو طريق الله تعالى فقط، والخروج من كل أدران الحياة، والحرص على الحج المبرور للنجاة من كل الذنوب، وصدق رسول الله ﷺ: ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)). يا لها من رحلة فاصلة!.. ويا لها من بداية جديدة!.. ويا له من ميلاد جديد للإنسان، ولحقيقة الإنسان، ولفطرة الإنسان!.. ميلاد يتوضأ بالتوبة، ويتطهر بالتلبية، ويتعطر بالذكر والشكر والاستغفار، ويرتوي بآي القرآن الكريم.

     إن المسلم حين يهتف بالشهادة العظيمة الصادقة: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"؛ يكون قد اكتشف الحقيقة، ويكون قد اعتنق الحقيقة، الحقيقة الكبرى في الحياة، بل كبرى حقائقها على الإطلاق، وهي أن الله تعالى هو وحده المتصرف في الكون، المالك لأمره، ليس له شريك ولا شبيه، وأنه قد بعث محمداً ﷺ رسولاً إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وعلى الناس جميعاً أن يتبعوه ويطيعوه.

     فالتوحيد إذن لله جل شأنه، والتلقي عنه يكون بواسطة رسوله الذي اختاره واصطفاه. وهكذا تحدد الشهادة الطريق الصادق إلى الحقيقة الكبرى التي يساوي الإيمان بها الهداية كلها، والخير كله، والسعادة جميعاً، والتي يعني الكفرُ بها الضلالَ كله، والشرَّ كله، والشقاَء جميعاً.

     تلكم هي الدلالة الحقيقية لمعنى الشهادة ومضمونها، إنها طريق الحقيقة أو هي الحقيقة إن شئت. أما الأركان الأربعة الأخرى وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج فإنها معالم الطريق، أو أكبر معالمه. والحج من بين هذه الأركان هو المَعْلَمُ الذي يتوِّجُ كل المعالم الأخرى، لأنه الركن الذي تشترك فيه كل أمة التوحيد لرفع راية التوحيد، ولأنه الركن الذي يطبق المسلم إبّانه الأركان الأخرى، ففيه أداء الشهادة، وفيه الصلاة، أما الزكاة فيمثلها الإنفاق في سبيل الله إذ يُخرج الحاج نفقة الحج من ماله ابتغاء رضوان الله، وأما الصوم فيحل محله إبان الحج امتناع الحاج حتى عن أصغر اللمم، وكظمه الغيظ، وحمله النفس على المكاره، والرضى بالمشقة. فالحج تشترك فيه بصورة وبأخرى كل أركان الإسلام، كما تشترك فيه أمة التوحيد جميعها، لإعلاء كلمة التوحيد وإعزازها ورفع راياتها.

     وفي الحج اجتماع دائم، قديمٌ حديث، جديدٌ متجدد، باقٍ إلى ما شاء الله عز وجل، اجتماع تلتقي فيه الأمة المسلمة من أقصى الأرض إلى أقصاها، لتمثل حقيقة الحياة كما يريدها هذا الدين، وكما تفتح بابها شهادة التوحيد، وكما تعبّر عنها الأركان الخمسة.

     إنه اجتماع الحقيقة الدينية كلها في ركن الحج، وإنه اجتماع المسلمين، أهلِ هذه الحقيقة وحماتِها، وحملة مشعل نورها الوهاج لهداية الناس جميعاً وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

     هو اجتماع الأمة الوسط، الهادية المهدية، المباركة الراشدة، الوصية على الناس، الشهيدة على البشرية، لتتعاون فيما تفعل، وتتشاور فيما تواجه، وتفكر فيما تستقبل، وتستنبط العبرة مما سلف، من أجل إسعاد الإنسان وهدايته، وإعزازه وإكرامه.

     إنه اجتماع الخير والصدق والفضيلة الذي لا يشبه لا من قريبٍ ولا من بعيد اجتماعات الناس في مؤتمراتهم الكاذبة، حيث يلتقي الزيف والكذب والتزوير، وأكل لحوم الضعفاء كما في المجالس الدولية الكاذبة.

     هذه اجتماعات صنعها البشر، وفيها عيوب كل البشر، والحج اجتماع صنعه الله، فجاء في أحسن صنع وأتم تكوين.
*****

أيها الحجاج (8)

أيها الحجاج (8)

     يا أيها الحجيج الذين أكرمَهم الله تعالى بالحج هذا العام، وطفقوا إلى بلادهم يعودون!.. تقبل الله تعالى منكم، واستجاب لكم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وأعادكم سالمين غانمين.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام الأحبة حيث أنتم في الوطن الإسلامي الكبير!.. سدد الله خطاكم، وبارك مسعاكم، وجعلكم جنود صدق لدعوة الحق والهداية والإنقاذ، حذار أن تسمعوا دعاة السوء الذين يريدون أن يفرقوكم إلى أقسام شتى، ومزق متعادية، من خلال اعتمادهم على أوثان عفنة سبق للإسلام أن دمرها، وقضى عليها من عصبيات جاهلية متخلفة، كالجنس والقوم، والأرض والوطن، والعشيرة والقبيلة، واللغة واللون، وما إلى ذلك، فالأمة المسلمة أمة واحدة، جنسيّتها عقيدتها فقط، وهويتها إيمانها فقط.

     وأعداؤها اليوم يحاولون تقسيمها إلى أقسام وفصائل، وشعوب وأعراق، وأجناس وألوان، وطبقات متعادية متناحرة يضطرم فيها الصراع المدمر، والحقد المجنون، فيعدو بعضها على بعض، وتقتتل بشراسة ووحشية، فتتآكل من الداخل بسبب ذلك، وينخر فيها السوس، ويفتك بها الخراب الذاتي، فإذا بها آخر المطاف صدئة مهترئة كورقة صفراء في مهب الريح، ذلكم بعض ما يهدف إليه أعداء الإسلام من محاولة تقسيم الأمة المسلمة، فاحذروا -يا إخوةَ الإسلام- سماعَ أقوالهم، فإنها السم الزعاف، وإن الانقياد لها إضاعة للدين والدنيا على السواء، وعودة إلى الجاهلية من جديد.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام!..

     إن دينكم عدو للعصبيّات والقوميات، وأمتكم لا تتحدد بالأرض والجنس، واللون واللغة، والصقع والإقليم، والسحنة والشكل، والزي والعادات، إنما يحددها فقط أنها مؤمنة مسلمة، رضيَتْ بالله تعالى رباً، وبمحمد ﷺ نبياً ورسولاً، وبالإسلام ديناً، فالشهادة وهي الركن الأول من هذا الدين، وهي مدخله وخلاصته تقرر هذه الحقيقة، والصلاة تقررها كذلك، وقُلْ مثلَ ذلك عن الزكاة والصيام، أما الركن الخامس وهو الحج فلعله أكثرها وضوحاً في تقرير هذه الحقيقة الكبرى، ونظرة واحدة فقط إلى الحجاج يطوفون حول البيت العتيق، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون على صعيد عرفات، ويرجمون الشيطان في منى، كافية لظهور هذه الحقيقة بشكل جلي سافر ليس فيه أي غبش أو قتام. إنها صورة الأمة الواحدة التي ليس لها حدود لأنها أكبر من كل حدود، والتي لا تنتمي لقوم لأنها فوق الأقوام، والتي لا يحتويها زمان لأنها باقية خالدة. إنها الأمة الواحدة التي التزمت رسالة آخر الأنبياء محمد ﷺ، وانخلعت عن كل ما يناقض هذا الالتزام، إنها الأمة القيّمة الراشدة، المباركة الطهور، أمة القرآن الخالد المحفوظ.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام!.. يا من أعلنتم بإباءٍ واعتزازٍ وشموخٍ إيمانكم، واستمسكتم بدينكم، واستضأتم بقرآنكم، وقررتم أن تنهضوا بعبء الدعوة إلى الله عز وجل، في هذا العصر الذي فشت فيه الجاهليات بأشكال جديدة، وصور شتى، ومضيتم في دربكم المبارك الهادي بثقة وثبات، وفضلتم الصعب على السهل، واخترتم التعب والنصب، والسهر والبذل والعطاء، مؤثرين بذلك كله الباقية على الفانية طالبين رضوان الله تعالى ومثوبته وجنّته!.. إن عصراً من عصور التاريخ لم يكن بحاجة إلى دعاة الحق كحاجة عصرنا اليوم، فهيّا -يا إخوةَ الإسلام- إلى إسعاده بالإسلام، وهدايته بالقرآن، وإنقاذه بالإيمان.

     ها هو العصر الحديث يقدم صناعات رائعة، ومبتكرات عجيبة، ومنجزات تبعث على الدهشة والإعجاب حقاً.

     ها هو يرتاد النجوم والقمر، ويجوب الأرض، ويصعد الجبال، ويغوص في البحار والمحيطات، ويحوّل الصحراء إلى أرض خضراء.

     ها هو يبني ناطحات السحاب، ويستخرج كنوز الأرض، ويصنع الآلات العجيبة الدقيقة، لكنه -وقد خلا وجدانه من الهدى، وصوّح بستانه من الإيمان، وأجدبت نفسه من الفضائل، وأقفرت روحه من النور الذي يسعدها- طفق يستعمل ما أنجز في الأذى والفساد والدمار، ومضى يوظِّف ما ابتكر للشر لا للخير، والتقاتل لا للتعاون، والكذب لا للصدق، فإذا بالذي أبدعه عقله وكدحه وكده ينقلب عبئاً عليه، ويصبح وبالاً على منكبيه يزيد من متاعبه وهمومه.

     إنكم بوسعكم وحدكم -يا إخوةَ الإسلام- أن تصححوا مسيرته، وتقوّموا طريقته، وتجنّبوه العثار، وتقدموا المعادلة التي يستطيع أن يحيا بها في سعادة، ويوظف بها المنجزات للخير والفضيلة، جامعاً بين العلم والإيمان في مسيرة هادية مباركة، والنفع الديني والدنيوي فهل أنتم فاعلون!؟
*****

أيها الحجاج (7)

أيها الحجاج (7)

     يا أيها الحجيج الذين أكرمَهم الله تعالى بالحج هذا العام، وطفقوا إلى بلادهم يعودون!..

     تقبل الله منكم حجكم، واستجاب دعاءكم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وأعادكم سالمين غانمين، وحماكم من السوء وعصمكم من الآثام.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام في كل مكان من المحيط إلى المحيط، من سواحل المغرب إلى مشارف الصين!.. يا إخوة الإسلام من سُمرٍ وبِيض، سودٍ وصُفر، مسافرين ومقيمين، مهاجرين ومغتربين!..

     أنتم اليوم بشائرُ فجرٍ سيطلع، وإقبالٌ بعدَ إدبار، وامتدادٌ بعد انحسار، ونورٌ بعد ظلمة، وخيرٌ بعد شر، ونصرٌ بعد هزيمة، وأنتم اليوم بوادرُ وثبةٍ كريمةٍ مشرّفة، وطوالعُ زحفٍ إسلامي ميمون، ينقذ الأمة المسلمة مما تعاني وتكابد، ويقود خطاها للظفر والعلو والغلبة، ويجعل الإسلام فيها الحكم، والقرآن فيها الدستور.

     يا إخوة الإسلام!.. أنتم اليوم تقاومون التحديات، وتغالبون الصعاب، وتفكرون وتدبرون، تخططون وتناقشون، وإن فيكم طلائع من طلائع الخير، هم على حظٍّ من الوعيِ كبير، وقَدْرٍ من الفهمِ طيِّب، وإحساسٍ جدي بالمسؤولية. وإن الإخلاصَ ماثلٌ فيما يعملون، والصدقَ فيهم حقيقيٌّ وجاد، والنيةَ طيبةٌ زكية، هكذا تراهم، وهكذا تلمس شخصياتهم المؤمنة التي ينعقد عليها أمل كبير.

     يا إخوة الإسلام!.. إن شمسكم الخيِّرة تكاد تشرق على الأكوان، وإن ربيعكم الخصيب الممراح أوشك أن يطل على هذه المعمورة، ها هي ذي البشائر يقترب موكبها البهيج، وها هو ذا النور تدب رويداً رويداً خيوطه الذهبية الحبيبة، وها هو ذا الشجر يورق بعد عُرْي، والأغصان تزهر بعد مَوات، والزهرات الحسان ينحسر الصقيع عنهن، وظل الغفلة يرحل، وغيهب الجهالة يتقشَّع، وليل الأحزان يتصرم، ذلك أن في المسلمين اليوم بداية صحوة إيمانية كريمة.

     ما أحلاها من بشرى وضيئة!.. ما أجملها من رواية حبيبة أثيرة، تصافح الأذن!..

     إن في المسلمين لَصحوة.. ها هم يُحْيون البدايات الحقيقة الصعبة التي لا بد أن يواجهها الرواد، وها هم يضعون أرجلهم على أوائل الطريق، ويا للروعة والبشر!.. يا لسعادة المسلمين!..

     إنَّ دماء الشهداء لم تضعْ، وإن تضحيات الأبطال لم تذهب هدراً، وإن ثبات الرجال الكرام الأوفياء الذين ابتلوا بسبب إصرارهم على الحق، ونأيهم عن الباطل، وإبائهم أن يتحولوا إلى مهرجين في مواكب الطغاة لم يذهب أدراج الرياح، وإن أصوات الدعاة الصادقين لم تتبدّد ولم تمت، بل ضربت عميقاً عميقاً في وجدان الأمة، وها هي ذي براعمها وقد نبتت، وإنها سوف تنمو بإذن الله وتزدهر، ويشتد ساقها، وتقوى وتعلو، ترعاها عناية السماء، وتسهر عليها عيون المؤمنين، وتباركها دعوات الصالحين، وتحميها سواعد الأوفياء لدينهم العظيم.

     وإن اليوم الذي سوف تؤتي أكلها فيه قادم بإذن الله، قادم لا ريب في قدومه، فالبداية الصحيحة قد اهتدى إليها المسلمون، وها هي طلائعهم تلتزمها بوعيٍ وذكاء، وحماسةٍ وإصرار، وصدقٍ وإخلاص، وعزائمَ كالصخرِ راسيةٍ شمّاء.

     يا إخوة الإسلام!.. كثيرة هي الهجمات التي اقتحمت ديار المسلمين، وكثيرة هي النكبات التي ألمّت بهم، وكثيرة هي الرزايا التي فتكت بهم، غزواً عسكرياً، واستعماراً اقتصادياً، واحتلالاً موبوءاً، وحرباً فكرية، بل وإبادة وتصفية جسدية، بهدف القضاء التام عليهم، ومحو اسمهم من سفر الوجود، محواً مادياً ومعنوياً على السواء، لكن ذلك كله، على الرغم من عتوّه وفتكه، وبطشه وإيذائه، وحقده الدفين، ومبالغته في العداوة وصنوف الدمار، آبَ بالخيبة والخذلان، وعاد بالخسارة والاندحار، وبطل كيده وسحره ومكره، وظل هذا الدين العظيم راسياً ثابتاً، وبقي القرآن الكريم خالداً محفوظاً، ونجت أمتنا وعاشت لغتنا، بل وانطلقت بعض موجاتنا الإسلامية في أشد الظروف صعوبة، لتكتسب مواقع جديدة للراية القرآنية لم تكن قد كسبتها من قبل.

     يا أيها الحجيج العائدون!.. كونوا من الساعين لمجد الإسلام، المكافحين لتعلو رايته، وكونوا مع المجاهدين من أجل هذا الدين لا مع القاعدين، وأبرئوا ساحتكم أمام الله عز وجل من التقصير، اجعلوا ولاءكم للإسلام وحده، وطالبوا بتطبيقه، واجعلوا إمامكم القرآن، وطالبوا به دستوراً لحياتكم في كل ميادينها، واستفرغوا جهودكم من أجل استئناف حياة إسلامية خالصة، حتى تعلو كلمة الله وحدها في كل ديار المسلمين، وترفرف راية الإيمان خفاقة عالية، ويذهب بدون عودة ليل الجاهلية الكريه المشؤوم.
*****

الأكثر مشاهدة