الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 05 - الحكمة


الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

5- الحكمة:

     تشيع الحكمة في مراثي شوقي شيوعاً كبيراً، فلا تكاد تغادر قصيدة من قصائده إلا جاءت فيها، ويمكن أن يعزى ذلك إلى أن الشاعر كان كثير القراءة، كثير التأمل، كثير الشغف بالتاريخ، شديد الإعجاب به، ويرى أن لشعره منزلة عالية وخلوداً يستدعيان انتشار الحكمة فيه لأنها من دواعي الخلود، فضلاً عن إعجابه بالمتنبي حكيم العربية الأشهر الذي طالما رنا إليه شوقي وحاكاه وتمثله، مؤملاً أن تكون له شوارد كشوارده يتناقلها الناس ويرددونها . يضاف إلى ذلك أن عاطفة شوقي يغلب عليها البرود، وقلما ينفعل من أعماقه، فكأن الحكمة تعويض عن عاطفته الباردة.

     في رثائه لسيد درويش يتحدث شوقي عن الإنسان الجدير بالبكاء ويجعله النابغ الذي يستفاد منه ويستضاء به:

إنما يبـــكى شعـــــاع نــابغ     كلما مر به الدهر أضاء[1]

     وما يغرسه الناس لا يدوم إلا ما كان منه عبقرياً نابغاً حاز سر البقاء:

غرس النــــاس قديماً وبنوا     لم يدم غرس ولم يخلد بنـاء
غير غرس نــــابغ أو حجر     عبقـــري فيهما سر البقـــاء

     وإذا كانت خسارة الرجال بفقدان البنين فإن خسارة الدول بفقدها للعلماء فعليها تجزع جزع الكتائب المقاتلة حين تفقد راية لها، يقول شوقي في رثائه لأبي هيف:

ثكل الرجـــــال من البنين وإنما     ثكل الممـــالك فقـــــدها العلماء
يجـــزعن للعلم الكبير إذا هوى     جزع الكتائب قد فقدن لواء[2]

     والشباب وأيامه الملاء جديرة بأن تحب الحب الجم:

إن الشباب يحب جماً حافلاً     وتحب أيــــام الشبـاب ملاء

     وفي رثائه لسليمان أباظة يدعو الإنسان إلى أن يرفع نفسه بالجميل الباقي، ويذكره بأنه سوف يذكر من بعده فيوصف إما بالإساءة وإما بالإحسان:

والمرء يذكر بالجمائل بعـــده     فارفع لذكرك بالجميــــل بناء
واعلم بأنــك سوف تذكر مرة     فيقال أحسن أو يقال أساء[3]

     وحين رثى شكسبير، جعل الناس صنفين، أموات وهم أحياء، وأحياء وهم أموات، ثم هم بعد ذلك لا يستوون لاختلاف قدراتهم ومواهبهم:

والناس صنفان موتى في حيــاتهم     وآخـــرون ببطن الأرض أحيـــاء
تـــأبى المواهب فالأحياء بيــــنهم     لا يستوون ولا الأموات أكفاء[4]

     ويجعل شوقي من الرأي الصادق المخلص عقيدة فوق الشك والهوى، ويجعل الزمان هو الحكم الذي يميز مواقف الرجال، يقول في رثائه لمصطفى فهمي:

والرأي إن أخلصت فيه سريــــرة     مثـــل العقيـــــــــدة فوق كل مراء
وإذا الرجال على الأمور تعــاقبوا     كشف الزمان مواقف النظراء[5]

     وليس كل أب جديراً بشرف الأبوة فربما كان في قسوته صخرة صماء:

ما كل ذي ولد يســـــمى والداً     كم من أب كالصخرة الصماء

     ويقرر في رثائه لحافظ أن أعظم الشجاعة هي شجاعة الرأي، وهو ملحظ ذكي من شوقي يشكر عليه، لأن شجاعة العقول ابتكاراً ومجاهرة ومخالفة للمألوف نادرة جداً:

رتب الشجاعة في الرجال جلائل     وأجلهـــن شجـــــاعة الآراء[6]

     ويبدأ شوقي قصيدته في يعقوب صروف بمقدمة عامة عن الدنيا، يظهر فيها وكأنه أبو العلاء المعري، فهي عنده سراب خادع، وعمرانها إلى خراب، وهي جيفة تقوم حولها الذئاب، ويقتتل فيها الناس بدافع الحاجة اقتتال الأسود بدافع الجوع:

سمـــاؤك يادنيــــا خداع سراب     وأرضك عمران وشيك خراب
وما أنت إلا جيـــفة طال حولها     قيام ضباع أو قعود ذئــاب[7]

     وفي آخر القصيدة يقرر أن الإنسان إنما هو تراب وابن تراب:

وكل أخي عيش وإن طال عيشه     تراب لعــمر الموت وابن تراب

     وربما كان الموت لدى شوقي راحة للمتعب، وشفاء للروح، ودواء للجسد، كما يقول في قصيدته عن كارنافون:

هو منـــزل الساري وراحة رائـح     كـثــــر النهار عليه في إتعــــــابه
وشفـــاء هـــذي الروح من آلامها     ودواء هذا الجسم من أوصابه[8]

     وخلود المرء الذي يسر به، إنما يكون بالمعالي وجلائل الأعمال، وهو حياة له تبقى بعد الموت:

من سره ألا يمــوت فبالعلا     خلد الرجال وبالفعال النابه

     والمرء يرغب الحياة طويلة، لكن خُطا المنية من وراء طلبه لا تنفك عنه، كما يقول في رثائه لحسين شيرين:

والمرء في طلب الحيــــاة طويلة     وخطا المنية من وراء طلابه[9]

     وأقدار الموتى متباينة، لذلك يجل الخطب في جليلهم، وتكبر النائبة في كبيرهم، ولذلك أيضاً ليس الميت الذي تبكيه البلاد كالميت الذي تبكيه النائحات، كما يقول في رثائه لرياض باشا:

يجل الخطب في رجــــل جليل     وتكبــــر في الكبير النائبــــات
وليـــس الميــــت تبكيه بــــلاد     كمن تبكي عليه النائحات[10]

     وإذا كان الناس على سفر عقيم لا رجعة منه، فإن النوابغ راجعون منه بجليل أفعالهم:

بنو الدنيــــا على سفر عقيـم     وأسفار النوابغ مرجعـــــات
أرى الأموات يجمعهم نشور     وكم بعث النــوابغ يوم ماتوا

     وغياب الثقة يمزق الصلة، وربما كان من ارتبت فيه أخا ثقة، وربما كان من وثقت به غير جدير بذلك، وربما حببت إليك التجربة من كنت تظن به خلاف ذلك:

إذا الثقة اضمحلت بين قـــوم     تمزقت الروابط والصـــلات
فثق فعسى الذين ارتبت فيهم     على الأيــــام إخوان ثقـــات
ورب محبـب لا صبـــر عنه     بـــدت لك في محبتــــه بداة
ومكــروه على أخـــذات ظن     تحبـــــبه إليك التجربـــــات

     ويقرر شوقي في رثائه لجدته أن الناس مخلوقون للموت كما هم مخلوقون للحياة، وأن الموت لابد آت، وأن مهد الوليد كنعش الميت، وإذا كان الطفل لا ينجو من الشكوى فهل ينجو منها المعمر؟:

خـلقـنــــــا للحيــــــاة وللممات     ومن هذين كل الحــادثـــــــات
ومن يولــد يعش ويمت كأن لم     يمـــر خيـــــاله بالكائنــــــــات
ومهد المرء في أيـدي الرواقي     كنعـــش المرء بين النـــائحات
وما ســـلم الوليد من اشتــــكاء     فهل يخلو المعمر من أذاة[11]

     والنعوش إنما هي رسل دائمة بين الأحياء والأموات، وهي رسل مستمرة في عملها، حملت أنواعاً مختلفة من البشر إلى حيث ينام الميت مع آبائه وأجداده، لذلك لا يصح أن يوصف بالغريب وقد حل بينهم، ولا بالوحدة وهو معهم، يقول شوقي في رثائه لعبد العزيز جاويش:

أجل بيــــننا الخشــــب الدائبـات     وإن كان راكـبـــــها لا يعـــــود
مضى الدهر وهي وراء الدموع     قيـــــام بملك الصحــــارى قعود
وكم حمــــلت من صديد يسيـــل     وكم وضعت من حنـــاش ودود
وكيـــف يسمّى الغــــريب امرؤ     نزيـــل الأبوة ضيف الجـــــدود
وكيف يقــــال لجــــــــــار الأوا     ئل جار الأواخر ناء وحيد[12]

     والجهل هو ألد الأعداء، وهو نكد كله فلا يأتي منه إلا الشر حتى لو خيل لنا خلاف ذلك، ولطالما دمر البلاد وفتك بالعباد، كما يقول في قصيدته في الخديوي إسماعيل:

صغـــر الجهل أن يشيــــر بنوه     إنــــه لـقـــــب العـــــــدو الألدَّا
نكــــد كــــله وإن يداً بيضــــــا     ء تجـــــري على يديه لســــودا
طالما دمــــر الممــــــالك تدميـ     راً وهد البلاد والناس هدَّا[13]

     والمرء دائماً بحاجة إلى عون الله تعالى، فإذا فقد هذا العون فأولى به أن يطرح آماله لأنه لن ينال منها شيئاً:

وإذا لم يكن من الله عـــــون     فاطراح الآمال بالنفس أبدى

     والموت أمر الله الغالب الذي لا خلود معه ولا مرد له:

إنما الموت منــــتهى كل حي     لم يصب مالك من الملك خلدا
سنـــــة الله في العبــــاد وأمر     نــــاطق عن بقــــائه لن يردا

     وفي رثائه لعبد الخالق ثروت يقرر أن لكل من يشمت بالناس يوماً يبكي فيه، فيشمت به الآخرون كما شمت بهم:

وراء ريب الليــــالي أو فجـــــاءتها
               دمع لكل شمات ضاحك رصد[14]

     وما يقدمه المهد من جواهر المواليد أفضل مما يقدمه الماء من جواهر الدر:

إن الجواهر أسنـــــاها وأكرمها     ما يقذف المهد لا ما يقذف الزبد

     وأكثر الموتى لا يكاد يشعر بهم أحد لهوان المصيبة بهم:

وقـــد يموت كثيـــــر لا تحســـهم     كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا

     والناس كلهم غادون إلى الموت موكباً بعد موكب تحدوهم آجالهم، فلا يبقى منهم لا بدو، ولا حضر، يقول شوقي في رثائه لمحمد فريد:

كل حي على المنيـــــــة غــــادي     تتـــوالى الركاب والموت حـادي
ذهب الأولــــون قرنـــاً فقــــرنـاً     لم يدم حاضر ولم يبق بادي[15]

     وربما قادت السلامة إلى المرض، والهناء إلى العزاء، والوداد إلى الاختلاف:

ســـقم من سلامة وعزاء     من هناء وفرقة من وداد

     والموت غاية النفوس، ومنتهى العيش شقيه وسعيده، وما في الطرق إلا جنائز الموتى من كبار وصغار، لذلك فالحياة هي خيط واه بل هو أوهى الخيوط، يقول في رثائه لمحمد ثابت:

هذه غـــــــاية النفـــــوس وهذا     منتهى العيــــــش مره والرغيد
هل ترى النـاس في طريقك إلا     نعش كهل تلاه نعش وليد[16]

     وربما جارت على المرء همة نفسه وكد فكره وشغل فؤاده فقتل ولم يزل شاباً، كما يقول شوقي في رثائه لصديقه عمر لطفي:

وقد يقتل المرء هم الحيـــــاة     وشغل الفؤاد وكد الفكر[17]

     والميت من الناس هو الذي إذا عاش لم ينفع وإذا مات لم يضر، كما يقول شوقي في رثائه لمصطفى كامل:

إنما الميــــــت من مشى     ميــــت الخيـــر والخبـر
من إذا عـــــاش لم يفـــد     وإذا مات لم يضر[18]

     والمنية كأس عسراء كريهة، يشربها الناس جميعاً، ولا يهربون منها، كما يقول شوقي في تعزيته لصديقه حامد خلوصي بأبيه:

كأس المنــــــــية في يــد     عســـــراء ما منها فـرار
تجـري اليمين فمن تولى     يسرة جرت اليسار[19]

     والعلم وحده لا يعلي المراتب لأنه يخلط نافعاً وضاراً، لكن العمل هو الذي يميز الناس، يقول شوقي في رثائه لصديقه عمر لطفي:

العـــــــلم لا يعــــــلي المراتب وحـــــــده
               كـــم قــــــــدم العمل الرجـــــــــال وأخرا
والعـــــــلم أشبــــــه بالسماء رجــــــــاله
               خلطت جهاماً في السحاب وممطرا[20]

     وقصيدته في ذكرى هيجو تنتهي بهذا البيت الذي يجعل الحياة آمالاً لا تنتهي والموت أصدق منها:

والعيـــــش آمال تجـــــــد وتنقـضي
               والموت أصدق والحياة غرور[21]

     وفي رثائه لقاسم أمين يقرر شوقي أن ملك الأوطان يبنى بالعلم الذي ربما أشاد لها من المعالي مالم تشده القوة الغالبة:

بالعـــــــلم يبنى الملك حق بنــــــائه
               وبـه تنـال جلائـــــــل الأخطـــــــار
ولقــــد يشـــــاد عليه من شــم العلا
               ما لا يشـاد على القنا الخطـار[22]

     والموت هو الحكيم الصامت الذي يفضح زور الدنيا وخداعها، والذي إذا حضر لم يبق نعيماً يلذ به الناس ولا متاعاً. يقول شوقي في رثائه محمد عاطف بركات:

حكيـــــم صامت فضــــح الليـالي
               ومزق عن خنـــــا الدنيا القنـــاعا
إذا حضـــــر النفوس فلا نعيــــماً
               ترى حول الحياة ولا متاعا[23]

     ورثاؤه لمحمد المويلحي ينتهي بهذين البيتين اللذين يجعل بهما الحي منتهياً إلى انقطاع، وأن ما تحرص عليه النفوس إنما هو عالم باطل قليل المتاع:

كل حي وإن تراخت منــــايا     ه فضـاء عن الحياة انقطاعه
والذي تحرص النفوس عليه     عالم باطل قليل متاعه[24]

     وفي رثائه للمنفلوطي يعلي شوقي من قيمة القلم ذي المكانة، ويجعله أجل ما فوق التراب وما تحته:

وأجل ما فوق التــراب وتحته     قلم عليه جلالة الإجماع[25]

     والدنيا تكدر خيرها بشرها، ونعماؤها كالريحان المحبب لكنه مختلط بالسم الزعاف، كما يقول شوقي في رثائه لإسماعيل صبري:

نعمـــــاؤك الريحــــــــان إلا أنه     مسّت حواشيه نقيع زعاف[26]

     ولقد دان الناس جميع أنواع المطايا إلا مطية واحدة هي النعش، التي كانت وسوف تبقى من يدين البشر:

دان المطي الناس غير مطية     للحق لا عجـــلى ولا ميجاف

     وفي رثائه لفوزي الغزي، يجعل شوقي الدنيا مطبوعة من السم الذي لابد أن يتجرعه الناس جميعاً:

طبعت من السم الحيــــاة طعامها     وشــــرابها وهواؤها المتنشـــــق
والنـــــاس بين بطيـــئها وذعافها     لا يعلمون بأي سميها سقوا[27]

     والمصائب تختلف قوة وضعفاً. لذلك ربما أنست إحداها الأخرى، يقول شوقي في رثائه أمين الرافعي:

رب ثــكل أساك من قرحة الثـــكـ     ـل ورزء نسّاك رزءاً جليلا[28]

     وكما يمحو الزمان الطلول ورسوم الأحباب، يمحو كذلك ذكريات الأحبة فيلفهم غبار النسيان:

ذكريـــــــات من الأحبة تمحى     بيد للزمــــان تمحــــو الطلولا
كل رســـم من منزل أو حبيب     سوف يمشي البلى عليه محيلا

     وربما أكلت القطة صغارها إذا جاعت بخلاف اللباة:

تـأكل الهرة الصغار إذا جا     عت ولا تأكل اللباة الشبولا

     وليس كل غلو في الرأي خطأ، بل ربما كان أصالة وصواباً:

قيل غال في الرأي قلت هبوه     قد يكون الغـــــلو رأياً أصيلا
وقديماً بنى الغـــــلو نفوســــاً     وقديماً بنى الغــــــلو عقــولا

     وحين عزى البارودي في كريمته حذره من أن يحسب الزمان المر شهداً وأكد له أن المر من الزمان يعلو، والحلو منه يسفل:

أتحسب شـــــهداً إناء الزمـان     وطينتـــه الصـــاب والحنظل
وما كان من مـــــره يعتــــلي     وما كان من حلوه يسفل[29]

     وفي رثائه للطيارين العثمانيين فتحي ونوري، وهو من أجود قصائده في الرثاء، تلقانا حكمة شوقي كما اعتدنا عليها، فالموت مدرك كل إنسان عزيزاً أو ذليلاً:

ولكل نفس ســــــاعة من لم يمت     فيها عزيزاً مات وهو ذليل[30]

     ونعمى الحياة وبؤسها سيان، ونضرتها سرعان ما تذبل كعمر الورود:

لا تحفــــلن ببؤسها ونعيمها     نعمى الحياة وبؤسها تضليل
ما بين نضرتها وبين ذبولها     عمر الورود وإنه لقــليـــــل

     والأحزان تأتي من حيث نتوهم الأفراح:

ولرب أعراس خبــــأن مآتما     كالرقط في ظل الرياض تقيل

     والناس الذين لهم قيمة هم الذين يعطون الحياة من روحهم ومالهم وعلمهم وإبداعهم، وما بعد ذلك فزيادة لا قيمة لها:

والناس باذل روحه أو ماله     أو علمه والآخرون فضول

     والوفاء قليل نادر، فإن وفى لك أحد فتلك أعجوبة غير معتادة:

ومن العجائب في زمانك أن يفي     لك في الحياة وفي الممات خليـل

     والشباب يحمل الإنسان على العلا والمجد والكرم خلافاً للمشيب الذي يحمل على البخل والجبن، يقول شوقي في رثائه لشهداء العلم والغربة:

وما الشيب من خيل العلا فاركب الصبــا
               إلى المجــــد تركب متــــن أقــدر جــوال
يســـن الشبــــــاب البــأس والجود للفـتى
               إذا الشيب سن البخل بالنفس والمال[31]

     وفي رثائه لسعيد زغلول يقرر شوقي أن الإنسان يموت بالأجل لا بالسن:

إنمـــا من كتــــــابه يتــــوفى المر     ء لا من شبـــــــابـه واكـتهــــــاله
لست تدري الحمام بالغاب هل حـا     م على الليـث أم على أشباله[32]

     وحين رثى شوقي والدته، كان في حال يماثل حال المتنبي، فحاكاه ونافسه وقلده، ومن هنا كان لابد لنا أن نجد الحكمة في هذه القصيدة، فلا سهم كالأحداث ولا رامي كالليالي ولا حكم كالأقدار ولا لقاء كالموت:

ولم أر كالأحــــداث سهماً إذا جـرت
               ولا كالليـــــالي رامياً يبعـــد المرمى
ولم أر حـــكماً كالمقــــــادير نــــافذاً
               ولا كلقاء الموت من بينها حتما[33]

     والمرء ذاهب إلى حيث آباؤه الذين سبقوه:

إلى حيث آباء الفتى يذهب الفتى     سبيل يدين العــــــالمون به قدما

     ولا سبيل لك إلى الخلود إلا بحكمة أو علم يبقيان بعدك:

ولا خـلد حتى تملأ الدهر حكمة     على نزلاء الدهر بعدك أو علما

     والدهر لا يكتمل فيه الهناء لأنه ولوع بتهديم البنيان إذا تم:

أتى الدهر من دون الهناء ولم يزل
                         ولوعاً ببنيــــان الرجــــــاء إذا تما

     وحين رثى بطرس غالي قرر أن الحكم الصائب هو للتاريخ الذي يقضي على الرجال أولهم:

والرأي للتـــاريخ فيك ففي غد     يزن الرجـال وينطق الأحكاما
يقضي عليهم في البرية أو لهم     ويديم حمداً أو يؤيد ذاما[34]

     وفي رثائه لعثمان باشا القائد العثماني، يشيد شوقي بالفطنة التي تؤدي إلى النجاة من الصعاب:

وإذا كـــانت العقـــــول كبـــــاراً
               سلمت في المضايق الأجسام[5]

     والملك يقوم على العلم والسيف وبدونهما يسود الطغام، والأمور إنما تقوم على العقل والعدل وبدونهما تختل الأحوال وتفسد:

إنما الملك صــارم ويراع     فإذا فارقـــــاه ساد الطغام
ونظام الأمور عقل وعدل     فإذا وليــــا تولى النظـــام

     والشجاعة تجعل صاحبها يحترمه أعداؤه، خلافاً للجبن الذي يبغض إلى المرء أصدقاءه، يقول شوقي في رثائه أدهم باشا:

وكم من شجــــاع في العداة مكــــرم
               وكم من جبان في اللدات مذمم[36]

     والشجاعة لا تقتل صاحبها، والجبن لا يمد عمر صاحبه كما يقول في رثائه للأمير اليمني:

وما في الشجاعة حتف الشجاع     ولا مد عمر الجبان الجبن[37]

     وفي الناس رغبة عارمة في التسلط والغلبة، ولا يحملهم على العفة إلا العجز، وحظ الأمم من العظمة بمقدار حظها من النوابغ وهؤلاء النوابغ هم جمال الدنيا في حياتهم، وهم جمالها أيضاً في مماتهم، يقول شوقي في قصيدته عن نابليون:

قســـماً لو قدروا ما احتشــموا     لا يعـــف الناس إلا عاجـزين
أرأيــت الخـيـــــــر وافى أمة     لم ينـــالوا حظهم في النابغين
يحســـن الدهر بهم ما طلعـوا     وبهم يزداد حسناً آفلين[38]

     ويختتم شوقي رثاءه للدكتور أحمد فؤاد بهذا البيت الذي يفيض بالإيمان العميق، بقدرة الله عز وجل التي تبقى من بعد الطبيب، والتي تجعل المريض المهدد بالموت يشهد مصارع أطبائه:

سبحــــان من يرث الطبيـــــب وطبـــه
               ويري المريض مصارع الآسينا[39]

     وفي رثائه لمصطفى كامل يقرر شوقي أن في الناس من يجري لغاية وهدف ومن يجري بدونهما:

الناس جــــار في الحيـــــاة لغاية
               ومضلل يجري بغير عنان[40]

     والخلد في الدنيا هو أعلى المراتب التي لا تتاح إلا للشجعان، وهم ندرة منهم الفقيد المرثي:

والخلد في الدنيا وليس بهين     عليا المراتب لم تتــح لجبان

     والأخلاق في سجل المجد بمثابة العنوان في الصحف، هي أمارته التي لا تخطئ، ودليله الذي لا يخيب:

المجد والشرف الرفيع صحيفة     جعلت لها الأخلاق كالعنــــوان

     وحياة قصيرة ملأى بالإنجازات الجليلة الباقية المشهود لها، أفضل من حياة طويلة ملأى بالعجز والذل والسلبية والتواكل:

وأحب من طول الحياة بذلة     قصر يريك تقاصر الأقران

     وعلى المرء أن يحسن الانتفاع من الوقت بجلائل الأعمال التي تجعل له ذكراً من بعده، لأن الذكر عمر ثان للإنسان:

دقــــات قلب المرء قائـــــلة له     إن الحيــــاة دقــــــائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها     فالذكر للإنســـان عمر ثـــاني

     وفي رثائه لبطرس غالي يدعو الأقباط إلى تناسي المصيبة، فإن الفقيد محكوم بأجل أدركه حتى لو لم يطلق الورداني عليه النار:

ووالله لو لم يطــــلق النـــــار مطلق
               عليه لأودى فجــــــأة أو تداويـــــــا
قضـــــاء ومقـــــدار وآجـــال أنفس
               إذا هي حــــانت لم تؤخـــر ثوانيـــا
نبيــــد كما بـــــادت قبــــائل قبـــلنا
               ويبقى الأنام اثنين ميتاً وناعيا[41]

     وفي رثائه لعلي بهجت يعلي شوقي من شأن المعلم بنفعه وضره، ويوفق توفيقاً بعيداً باستدعاء شخصية موسى عليه السلام لتمثل الهدى، وشخصية السامري لتمثل الضلال:

إذا رشــــد المعــــــلم كان موسى
               وإن هو ضل كان السامريا[42]

     وتكثر في مراثي شوقي الإشارة إلى ما يمكن تسميته بتساوي الأضداد، وهو ما يذكرنا بالمعري في داليته الشهيرة الذي جعل بكاء الحمامة مثل غنائها، وصوت البشير بالمولود كصوت الناعي بالميت، وتساوي الأضداد فكرة سلبية ربما كانت منسجمة مع المعري بحكم ظروفه واختياره خلافاً لشوقي.

     يقول شوقي في رثائه ليعقوب صروف مسوياً بين العذاب واللذة:

نعيـــــش ونمضي في عذاب كلذة
               من العيش أو في لذة كعذاب[43]

     وفي رثائه لجدته يجعل مهد الوليد بين رواقيه مثل نعش الكبير بين الباكيات عليه، فالمهد كالنعش، ومن يرقي الوليد حال استقباله الحياة كمن يبكيه حال تركه لها:

ومهــــد المرء في أيدي الرواقي
               كنعش المرء بين النائحات[44]

     والأثداء التي ترضع الوليد، إنما ترضعه الموت، كما يقول في قصيدته في الخديوي إسماعيل:

وتولته في البــــــــداية أثــــــــــدا     ء تدر الردى وتحسب شهدا[45]

     وفي قصيدته التي عزى بها الدكتور هيكل، يجعل الكون قائماً على التضاد، فناء وبقاء، وائتلافاً واختلافاً، وحسناً ومنكراً:

عـــــــالـم مدبـــــره     بالبقـــــــاء منفـــرد
من بــــــــلى كوائنه     كائنـــــــاته الجـــدد
لا تـقــــــــــل به إدد     إن حســــــــنه الإدد
تلتــــقي نقـــــائضـه     غـــــــاية وتتحـــــد
الفـنـــــاء فيــه يــــد     للبقـــــاء أو عضـــد
ائتــــــــــــلافه رشد     واختــــــــلافه سـدد
والغــني لخدمتــــــه     كالفقيــــــر محتشـد
والحيــــــاة حنظــلة     في حروفهـــــا شهد
عرســـــــه ومــأتمه     غايتاهما نفـد[46]

     وفي رثائه لمحمد فريد يجمع بين السقم والسلامة، والعزاء والهناء، والفرقة والوداد، ويجعل شهد الحياة من إبر النحل مثل وردها من إبر الشوك:

سقــــــم من ســـــلامة وعــــــزاء
               من هنـــــاء وفرقـــــــــة من وداد
يجتــــنى شهــــدها على إبر النحـ
               ـل ويمشى لوردها في القتاد[47]

     والحمائم التي تترنم لتعين هي بحاجة إلى العون، وحين عجز البكاء عن آلامها غنت كما يغني الثاكل:

يا حمـــاماً ترنمت مسعدات     وبها فـــــاقة إلى الإسعــــاد
ضاق عن ثكلها البكا فتغنت     رب ثكل سمعته من شـــــاد

     والناس هذا نائم وهذا يقظان، لكن الدهر لا ينام عن أحد منهما، ولا يغفل فهو له بالمرصاد:

وعلى نائم وسهران فيها     أجل لا ينام بالمرصــــاد

     وحين رثى شوقي الطيارين العثمانيين فتحي ونوري، دعا سامعه ألا يبالي بالحياة فبؤسها ونعميها سيان، ونضرتها كذبولها، والبشير كالناعي، وربما فاجأنا العرس بمأتم مخبوء اختباء الأفاعي في الرياض:

لا تحفـــــلن ببــؤســــها ونعيــــمها
               نعــمى الحيــــــاة وبؤسها تضـــليل
ما بين نضــرتهــــا وبين ذبولهـــــا
               عمـــــر الورود وإنــــــه لـقـليـــــل
هذا بشيــــر الأمس أصبح ناعيـــــاً
               كالحـــــلم جــــاء بضده التــــــأويل
يجـــري من العبرات حول حديثـــه
               ما كان من فـــرح عليــه يسيــــــــل
ولرب أعـــراس خبـــــأن مآتمـــــا
               كالرقط في ظل الرياض تقيل[48]

     وفي رثائه لمصطفى كامل يدعونا إلى الصبر على نعمى الحياة وبؤسها لأنهما سيان، وربما كان المتعب الذي يتألم له الرحماء هو الهاني، وربما كمن الشجن في لذائذ المنعم:

الناس غاد في الشقـــــــاء ورائـح     يشــقى له الرحمـــاء وهو الهاني
ومنـــــعم لم يـلـــــــــق إلا لــــذة     في طيـــــها شجن من الأشجـــان
فاصبر على نعمى الحياة وبؤسها     نعمى الحياة وبؤسها سيـان[49]

     وفي رثائه لعلي بهجت يجعل شوقي الحياة باباً إلى الموت لأن الضد يفضي إلى ضده، فالنجوم سوف تسكن بعد دورانها، كما يسكن الإنسان بعد موته:

أتاك من الحيــــــاة الموت فانظر     أكنت تموت لو لـم تـلــــــف حيا
وللأشـيـــــــاء أضــــــــداد إليها     تصير إذا صبــــرت لهـــــا مليا
ومنقــــلب النجـــــوم إلى سكون     من الدوران يطويهن طيا [50]

     وهكذا تكثر الحكمة في مراثي شوقي فلا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائده، وهي حكمة تتنوع في مراميها وطريقة تناولها للأشياء، فمرة تمجد النبوغ، ومرة تعلي قيمة العلم والشباب، وثالثة تدعو إلى أن يخلد الإنسان نفسه بأعمال جليلة تبقى بعد موته. وحيناً تدعو إلى احترام شجاعة الرأي، وآخر إلى عدم الاغترار بالدنيا، وثالثاً إلى سطوة الموت وغلبته، وهي تحذر من الشماتة بمصائب الآخرين وتلح على الربط بين العلم والعمل، وتذكرنا بتفاوت المصائب، وتلتمس العذر للغلو في الرأي، وتساوي بين الأضداد المتنافرة كما فعل المعري من قبل، وما إلى ذلك.

     هذا ويمكن أن نلاحظ على حكمة شوقي أنها حكمة باردة وإن كان المعنى فيها صحيحاً والعبارة فيها مشرقة، ذلك أنها لم تخرج من قلب عانى تجربة محرقة كتجربة المتنبي الذي كانت حكمته تمثل موقفه من الحياة، وقلبه الممتلئ بها، لذلك كتب لها الخلود، وكان الناس وسيظلون يترنمون بها، لأنهم يجدون فيها وصفاً مكثفاً لما يمرون به، وذلك كقوله:

ذل من يغبـــط الذليل بعيـش     رب عيش أخف منه الحمام
كل حـــلم أتى بغير اقتــــدار     حجــــة لاجئ إليها اللئــــام
من يهـن يسـهل الهوان عليه     مالجــــرح بميت إيلام[51]

     وقوله:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله
               مخافة فقر فالذي فعل الفقر[52]

     وقوله:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
               عدواً له ما من صداقتـــه بد[53]

     وقوله:

من الحـــــــلم أن تستعمل الجهل دونــه
               إذا اتسعت في الحــــلم طرق المظـــالم
وأن تـرد المــــــــاء الذي شـــــطره دم
               فتســـــقى إذا لم يســــق من لم يزاحــم
ومن عرف الأيـــــــام معرفـتي بهـــــا
               وبالنــــــاس روى رمحه غير راحــــم
فـليـــــس بمرحـــــوم إذا ظفـــــروا به
               ولا في الردى الجاري عليهم بآثم[54]

     وقوله:

إذا غامرت في شــــرف مروم     فلا تقنـــــع بما دون النجــــوم
فطعم الموت في أمر صغيــــر     كطعم الموت في أمر عظيــــم
يرى الجبناء أن العجز عقــــل     وتلك خديعــــة الطبع اللئـــــيم
وكم من عــــائب قولاً صحيحاً     وآفتـــــه من الفــــهم السقيـــــم
ولكن تـــــأخذ الآذان منــــــــه     على قدر القرائح والعلوم[55]

     وقوله:

وإذا كانت الـنفـــوس كبــــــاراً     تعبت في مرادها الأجسام[56]

     وقوله:

بذا قضت الأيــــــام ما بين أهلها     مصائب قوم عند قوم فوائد[57]

     وقوله:

أرى كـلنـا يبـــغي الحيـــــاة لنـفســــه
               حريصـــاً عليها مستهــــاماً بها صبـا
فحب الجبـــــان النفس أورده البقـــــا
               وحب الشجــاع الحرب أورده الحربا
ويختــــلف الرزقــــــان والفعل واحد
               إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا[58]

     وقوله:

إذا ما لبســــــت الدهر مستمتعاً به     تخرقت والملبوس لم يتخرق[59]

     وقوله:

ومن يجعــــــل الضرغـــــام بــازاً لصيـــــده
               تصيـــــده الضرغــــــــــام فيــمن تصيــــــدا
وما قـتـــــل الأحــــرار كـالـعـفــــو عـنـــــهم
               ومن لــك بـالحــــــر الــذي يحفـــــظ الـيــــدا
إذا أنـــــت أكرمـــت الـكـريـــم مـلـكـتــــــــه
               وإن أنـــــت أكرمــــت اللئـــــــيم تمــــــــردا
ووضع النـــدى في موضع السيـــــف بالعلى
               مضر كوضع السيف في موضع الندى[60]

     وقوله:

على قدر أهل العزم تـــأتي العــــزائم
               وتــــأتي على قدر الكرام المكــــــارم
وتعظم في عين الصغير صغــــــارها
               وتصغر في عين العظيم العظائم[61]

     وقوله:

وما تنفع الخيـــل الكريمة والقنـــا
               إذا لم يكن فوق الكرام كرام[62]

     وقوله:

ولذيذ الحيـــــاة أنفس في النفــ     س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيـــــــخ قال أف فما مـ     ــل حيــــاة وإنما الضعف ملا
آلة العيــــش صحة وشبــــاب     فإذا وليا عن المرء ولى[63]

     وقوله:

وإذا ما خــلا الجبــــان بـــأرض
               طلب الطعـــــن وحــــده والنزالا
من أطاق التــماس شيء غلابـــاً
               واغتصــــــابــاً لم يلتمسه نــوالا
كل غــــــاد لحــــــــاجة يتـــمنى
               أن يكون الغضنفر الرئبالا[64]

     وقوله:

ما الذي عنده تــدار المنـــــــايا     كالذي عنده تدار الشمول[65]

     وقوله:

إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى
                         فلا الحمد مكســـوباً ولا المال باقيــــا
وللنفس أخــــلاق تــــــدل على الفتى
                         أكان سخــــاء ما أتى أم تساخيا[66]

     وقوله:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه     وصدق ما يعتاده من توهم[67]

     وقوله:

وكل امرئ يولي الجميــل محبب     وكل مكان ينبت العز طيب[68]

     وقوله:

ما كـــل ما يتــــمنى المـــــرء يــــدركه
                         تجري الرياح بما لا تشتهي السفن[69]

     وقوله:

ومراد الـنفـــــوس أصغر من أن
                         نتعـــــادى فيـــه وأن نتفـــــــانى
غيــــر أن الفتى يلاقي المنــــايـا
                         كالحـــــات ولا يلاقي الهوانــــــا
ولو أن الحيــــــــاة تبـــــقى لحي
                         لعـددنــــا أضلنا الشجعــانـــــــــا
وإذا لم يكـــن من المــــوت بــــد
                         فمن العجز أن تموت جبانا[70]

     والحقيقة أن استقصاء هذا الأمر في ديوان المتنبي أمر واسع، ذلك أن الحكمة تملاً جوانبه وتشيع في قصائده، شيوعاً كثيراً بحيث لا تكاد تغادر واحدة منها، ولذلك كان لابد من الاكتفاء بنماذج للتمثيل والدلالة.

     وهذه النماذج تروع وتأسر لأنها صادرة عن روح حية، وقلب محترق، وتجربة ومعاناة، لذلك يقع الإعجاب بها كما يقع الاستشهاد ما تكررت الدواعي النفسية بجامع التماثل والتشابه. وهو فرق كبير بينها وبين حكمة شوقي، ولذلك قرر عباس حسن بحق أن حكمة المتنبي تتفوق على حكمة شوقي وجعل من أسباب ذلك قربها من النفوس[71].

     وحين قارن الأستاذ أحمد محفوظ بين حكمة الشاعرين المتنبي وشوقي انتهى إلى ذلك، مع إعجابه الشديد بشوقي وإعلائه من منزلته وإشادته الكثيرة به. يقول: ((شوقي كان ينشد أن يكون شاعر حكمة من الطراز الأول، ولكنه قصر في لحوق أبي الطيب المتنبي الذي كان يلهث وراءه ليلحق غباره، فقد كان شاعره ورائده وأستاذه. كان مفتوناً بحكمته، وقد حاول بتجاربه الفنية أن يجاريه ولكنه لم يقدر له ذلك. كانت له أبيات حكيمة ولكنها لم تصل إلى تلك الحكمة الكاملة القوية في البيت الواحد لأبي الطيب، تلك التي تهز قارئها هزاً عنيفاً وترسله وهو في دوار ... فشوقي لم يتغلغل في أعماق الأحداث ولا في أعماق النفس البشرية كما تغلغل فيها المتنبي بإلهام الشاعر العبقري، وقد كان شوقي في كهولته يجنح إلى قول الحكمة، ويعجبه أن يطرقها في شعره وفي أكثر قصائده، ولكنه لم يبلغ فيها حتى مبلغ أبي العتاهية، ونحن لا ننكر عليه أبياتاً جيدة نظمها في هذا الضرب من الشعر ولكنها لا تسلكه في شعراء الحكمة))[72].

     وهناك ملحظ آخر على حكمة شوقي، وهو أنها تفقد نسقاً عاماً، وروحاً واحدة وفلسفة ترفرف عليها، لذلك تظل قطعاً متناثرة جميلة تفتقد القوة التي تبعث فيها الحياة، كما تفتقد النظام الواحد الذي يظلها جميعاً.

     إن روح المتنبي القوية الوثابة المغالبة تسود كل حكمه فتطبعها بطابع مميز، وإن روح المعري المتشائمة المحزونة تسود كل حكمة فتطبعها هي الأخرى بطابع مميز، خلافاً لشوقي الذي يفتقد هذه الروح العامة التي تجعل له موقفاً من الحياة يظهر في شعره بشكل عام وفي حكمته بشكل خاص، ولذلك ربما وجدنا في حكمته شيئاً من روح المتنبي، وشيئاً من روح المعري، لكننا يعسر علينا أن نلمس روحه هو، ويمكن لنا – على سبيل المثال – أن نجد مصداق ذلك حين نقف على رأيين له في الغلو متناقضين، نراه في الأول يشيد به في رثائه لأمين الرافعي فيقول:

قيل غال في الرأي قـلت هبوه     قد يكون الغـــــلو رأياً أصيلا
وقديماً بنى الغـــــلو نفــــوساً     وقديماً بنى الغلو عقولا[73]

     ونراه في الثاني يذمه في رثائه لجرجي زيدان فيقول:

ليــس الغـلـــــو أميناً في مشــــورته
                         منـــاهج الرشد قد تخفى على الغالي
لا تطلبوا حقــــكم بغيـــاً ولا صلفــاً
                         ما أبعد الحق عن باغ ومختال[74]

     وهذا التناقض يؤيد الفكرة التي ينتهي إليها دارس مراثي شوقي من أن حكمته ليست لها روح واحدة تعبر عن شخصية قائلها تعبيراً دقيقاً. وقد نبه إلى هذا الملحظ في حكمة شوقي الأستاذ سيد قطب رحمه الله حين قال: ((الأولى أن نسمي حكمة شوقي (( مواعظ شوقي)) أو ((اجتماعيات شوقي)) فهذا التعريف أدق وأكثر تحديداً لطبيعة هذا القسم من شعر شوقي. والمسافة كبيرة بين الحكمة والمواعظ، فالحكمة تقتضي فلسفة خاصة وطابعاً معيناً. كالذي نلحظه في حكمة المتنبي مثلاً أو حكمة المعري، وكلاهما يطبع فلسفته بطابعه فيعرف به ولو لم يذكر اسمه، ولا طابع لحكم شوقي ومواعظه، فهي مواعظ شائعة لا تحمل سمة شخص معين، ولا تتناول إلا مسائل يومية كالحض على مكارم الأخلاق ... إننا نفهم من الفلسفة المعينة أن تكون كفلسفة المتنبي مثلاً: فلسفة الصراع والغلاب والاقتحام، تنبعث من الطبع الحي المصطرع مع الأحياء، أو كفلسفة المعري فلسفة التشاؤم المنعزل الزاري على الحياة في أساسها العميق، فما فلسفة شوقي في مثل هذا المجال؟ لا شيء إلا الحكم والمواعظ الشائعة التي لا تحمل فلسفة خاصة ولا تدل على مزاج معين لفرد خاص من بني الإنسان))[75].

     وفي المقدمة التي كتبها الأستاذ الشاعر عزيز أباظة لكتاب الأستاذ أحمد محفوظ عن شوقي عقد مقارنة بين شوقي والمتنبي انتهى فيها إلى هذا الرأي، يقول عن شوقي: ((فما كتبه في هذا المجال لا يدخل في نطاق الفلسفة الحق ... وإن امتاز بصفة عامة؛ بإشراق الديباجة ويسر الأداء ووضوح التنغيم وجمال الطلاوة، وهذه الميزات من أهم خصائصه الشعرية، وهي التي مهدت له السبيل إلى منافسة المتنبي والاستعلاء عليه في كثير من الحلبات التي استبقا فيها))[76].

     وشهادة الأستاذ يحيى حقي في حكمة شوقي في مراثيه تلتقي هي الأخرى مع ما انتهينا إليه إزاءها. يقول: ((أما فلسفة شوقي إزاء الموت فهي لا تخرج عن صياغة يتراوح جمالها بين القمة والسفح للمعاني الشائعة عند عامة الناس: الدنيا فانية وباطلة، كل إنسان سيموت حتماً ... إلخ))[77].

     وهناك ملحظ ثالث على حكمة شوقي، وهي أنها إحدى نقاط الهروب التي يفر إليها الشاعر من برود عاطفته، فشوقي – عامة – يغلب على مراثيه برود العاطفة، ولذلك يبحث عن مجالات للحديث يغطي بها هذا البرود، فيكثر من الحكمة والتفلسف كأنه يجد في ذلك تعويضاً، يقول الدكتور شوقي ضيف: ((ويحتل الرثاء حيزاً واضحاً في شعره، وكان يريد في أكثره أن يرضي بعض أصدقائه ويقضي حقوقهم عليه كما يقول في بعض قصيده، ولكن من يتصفحه يجده ينحاز عن الندب والبكاء وبث اللوعة إلى التفكير في الحياة والموت، وأن دنيانا لحظات قصيرة ملأى بالأوصاب والآلام، ويسترسل في هذا العنصر الإنساني حتى يخرج القصيدة من حيز الرثاء إلى حيز إنساني عام ... وبذلك يصبح الشخص في أكثر مراثي شوقي ليس غاية في نفسه، بل هو وسيلة ليعرض شوقي على قرائه حقائق الحياة))[78].

     والملحظ الأخير أن حكمة شوقي تظل مرتبطة بإحساسه الكبير بتفوقه الشعري وعبقريته الفنية، وهو إحساس جعله يتوهم نفسه نداً للخليفة في تركيا، فيقول له:

يـــا واحــد الإســـــلام غيــــر مدافــــع
                         أنـــا في زمانـــــك واحــــد الأشعــــــار
لي في ثنــــــائك وهو بـــــــاق خـــــالد
                         شعر على الشعرى المنيعة زاري[79]

     وجعله يقول له أيضاً:

ملكت أمير المؤمنيــــن ابن هــــــانئ
                         بفضـــــل له الألبــــاب ممتـــــــلكات
وما زلت حســـــان المقام ولم تــــزل
                         تـليـــــني وتسري منـــك لي النفحات
زهـدت الذي في راحتيـــــك وشاقني
                         جوائــــز عنـــــد الله مبتـغيــــــــــات
ومن كان مثــــلي أحمد الوقت لم تجز
                         عليــــه ولو من مثـــــلك الصدقــــات
ولي درر الأخلاق في المدح والهوى
                         وللمتـــــــنبي درة وحصــــــاة[80]

     بل جعله يخاطب أنقرة لما صارت هي عاصمة تركيا بدلاً من إستامبول، بعد إلغاء الخلافة العثمانية فيقول لها:

لم ترضني ذنبــــــاً لنجــمك همتي
                         إن البيــــان بنجـــــــمه ينبــيـــــك
قـلمي وإن جهــــل الغبي مكــــانه
                         أبقى على الأحقـــاب من ماضيـك
ظفرت بيونــــان القــديمة حكمتي
                         وغزا الحديثة ظافراً غازيك[81]

     هذا الإحساس المتمكن من أعماق شوقي بخلود شعره وعبقريته الفنية وتفوقه على أقرانه، جعله يطرق أبواب الخلود ويبحث عنها، ومن أجل ذلك أكثر من الحكمة، وظل يبدئ فيها ويعيد لأنه كان يريد أن يجعلها سلماً للخلود والمجد، محتذياً في ذلك ما صنعه أستاذه المتنبي.

     يبقى أن نقول أخيراً: إن الشاعر الإحيائي شاعر حكيم وشاعر معلم، ذلك أنه كان يعي هذا البعد في وظيفة الشعر ويحبه، ويتمنى أن يكون فيه مجلياً، لأنه ينظر إلى شعره وبين عينيه كثير من نماذج التراث الخالدة التي تنتمي إلى هذا البعد، فيريد أن يكون له منها اليوم ما كان لسلفه بالأمس، خلافاً للمدرسة الرومانسية التي يعبر فيها أبناؤها عن آمالهم وآلامهم وأشواقهم، بقطع النظر عما إذا كان لهذا كله صلة بمن حولهم لأن أعمالهم أقرب إلى البوح والتعبير لمجرد التعبير منها لأي شيء آخر. هذا الجانب في الشاعر الإحيائي يظهر عند شوقي بأوضح مما يظهر لدى سواه، ويعبر عن نفسه بأشكال شتى منها الحكمة التي طالما أكثر منها شوقي في شعره وفي مراثيه.

--------------------------
[1] الديوان 2/333.
[2] الديوان 2/337.
[3] الديوان 2/348.
[4] الديوان 2/350.
[5] الديوان 2/354.
[6] الديوان 2/359.
[7] الديوان 2/373.
[8] الديوان 2/377.
[9] الديوان 2/383.
[10] الديوان 2/386.
[11] الديوان 2/398.
[12] الديوان 2/408.
[13] الديوان 2/412.
[14] الديوان 2/427.
[15] الديوان 2/434.
[16] الديوان 2/439.
[17] الديوان 2/447.
[18] الديوان 2/449.
[19] الديوان 2/452.
[20] الديوان 2/454.
[21] الديوان 2/461.
[22] الديوان 2/468.
[23] الديوان 2/475.
[24] الديوان 2/480.
[25] الديوان 2/483.
[26] الديوان 2/486.
[27] الديوان 2/492.
[28] الديوان 2/496.
[29] الديوان 2/500.
[30] الديوان 2/503.
[31] الديوان 2/516.
[32] الديوان 2/523.
[33] الديوان 2/532.
[34] الديوان 2/543.
[35] الديوان 2/547.
[36] الديوان 2/550.
[37] الديوان 2/555.
[38] الديوان 2/564.
[39] الديوان 2/571.
[40] الديوان 2/574.
[41] الديوان 2/591.
[42] الديوان 2/594.
[43] الديوان 2/373.
[44] الديوان 2/398.
[45] الديوان 2/412.
[46] الديوان 2/423.
[47] الديوان 2/434.
[48] الديوان 2/503.
[49] الديوان 2/574.
[50] الديوان 2/594.
[51] العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب لناصيف اليازجي،دار صادر،بيروت،1/326 - 327.
[52] المرجع السابق 1/370.
[53] المرجع السابق 1/383.
[54] المرجع السابق 1/404.
[55] المرجع السابق 1/434-436.
[56] المرجع السابق 2/14.
[57] المرجع السابق 2/103.
[58] المرجع السابق 2/114.
[59] المرجع السابق 2/144.
[60] المرجع السابق 2/183.
[61] المرجع السابق 2/202.
[62] المرجع السابق 2/211.
[63] المرجع السابق 2/239 – 240.
[64] المرجع السابق 2/247 – 249.
[65] المرجع السابق 2/279.
[66] المرجع السابق 2/296.
[67] المرجع السابق 2/324.
[68] المرجع السابق 2/339.
[69] المرجع السابق 2/344.
[70] المرجع السابق 2/347.
[71] عباس حسن: المتنبي وشوقي، دار المعارف، القاهرة، 1964م، ص 328.
[72] حياة شوقي، ص 113 – 114.
[73] الديوان 2/496.
[74] الديوان 2/512.
[75] كتب وشخصيات، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1981م، ص 266 – 267.
[76] حياة شوقي، ص (ز – ح).
[77] د. طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 276.
[78] شوقي شاعر العصر الحديث، دار المعارف، القاهرة، ص 153-154.
[79] الديوان 1/102.
[80] الديوان 1/436.
[81] الديوان 1/356.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 04 - الموقف الديني

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

4 - الموقف الديني:

     كان شوقي رجلاً عميق الإيمان بالله تعالى، مسلماً معتزاً بالإسلام، أحبه وأشاد به ودافع عنه، لذلك يحتل الإيمان بالله تعالى، والتسليم بأمره، والرضا بقدره، والتنويه بجهود المرثي الدينية، والإيمان بالبعث والنشور والجنة والنار، مكاناً بارزاً في مراثيه.

     وقضية الدين في شعر شوقي، وما يجاوره أحياناً من شعر يأباه الدين، ومن سلوك لشوقي كان فيه مجافياً للدين مرتكباً للمعاصي، قضية ثار حولها جدل قديم، جعل الناس يتساءلون عن صحة تدين شوقي وصدقه في إسلامياته وتتباين آراؤهم وتتعدد، ويبدو لي أن الأمر أقرب للفهم وأيسر للتعليل إذا تذكرنا أن مقارفة الإنسان للمعصية، مع شعوره بخطأ ما يفعل لا تنفي عنه الإيمان وإن كانت تسجل عليه إثماً وحراماً.

     وشوقي من هذا النوع من الناس. كان مؤمناً عميق الإيمان، عمقت إيمانه ثقافته الواسعة، وكثرة اطلاعه على التاريخ، والدماء المسلمة غير العربية التي تجري في عروقه، وصلته بالأسرة العلوية في مصر، والأسرة العثمانية في تركيا، وهي صلة تتداخل فيها مصالح السياسة، بأواصر القرابة، بالوحدة الدينية، فضلاً عن اطلاعه على كثير من خفايا السياسة التي جعلته يبصر الوجه الصليبي للغرب ضد المسلمين وهو ما جعل شعوره الديني أكثر يقظة وانتباهاً وإحاطة.

     أما معصيته فكانت معصية سلوك لا اعتقاد، وضعف لا سوء، ونزوة يدفعه إليها ثراء وجاه وحياة مواتية، وهي معصية لا تسكن عقله ولا قلبه اللذين ظلا عامرين بأعمق الإيمان، الأمر الذي ظهر في شعره كثيراً واحتل مساحة واسعة منه، حتى حظيت بدراسات كاملة، أبرزها ((الدين والأخلاق في شعر شوقي)) للأستاذ علي النجدي ناصف، و ((أحمد شوقي، شعره الإسلامي)) للدكتور ماهر حسن فهمي، و ((الإسلام في شعر شوقي)) للدكتور أحمد محمد الحوفي، و((التدين والمجون في شعر شوقي)) للدكتور عائض الردادي.

     يقول الأستاذ أحمد محفوظ الذي كان من أعرف الناس بشوقي عنه مصوراً هذا الجانب فيه: ((في الحق أني لم أصادف رجلاً مثل شوقي في قوة إيمانه وراسخ عقيدته، كان لا يصوم ولا يصلي لاعتلال صحته، وأبى أن يحج مع عباس الثاني لإرهاق أعصابه، على يسر الرحلة وسهولتها، ولكنه كان عميق الإيمان عمقاً تغلغل في جميع كيانه. كان لا يذكر اسم الله مجرداً قط، بل كان يتبعه بلفظي سبحانه وتعالى، ولم يذكر اسم النبي مجرداً ألبتة، بل كان يصلي ويسلم عليه دائماً، وما مررت معه في طريق وصادفنا جنازة محمولة إلا وقف تعظيماً لها رافعاً سبابته متشهداً على الميت، وأذكر أن نجله حسين كان صغيراً، فتحدث حديثاً دينياً فيه غرارة الصبا وكان يمزح، فحملت الحديث إلى شوقي أمام ابنه، وأنا لا أعني إلا الفكاهة لأن الحديث لم يكن فيه خروج صارخ على الدين، ولكنه رغم هذا غضب غضباً شديداً وعنف ابنه تعنيفاً موجعاً على حبه الشديد له، ولا أشك أبداً أن كل قصائد شوقي الدينية إنما صدرت عن عقيدة وحب عظيمين، ولم تكن القصائد التي كانت تنشر في المولد النبوي أو في ذكرى الهجرة المعظمة قصائد أملتها المناسبات كما كان يفعل كثير من الشعراء غيره، إنما كان الدافع إليها فرح شوقي بهذه الذكريات العطرة وكان ينتظرها مشوقاً ليفرغ نفسه في هذا الحب المقفى ... وحدثني مرة وكنت أراكبه عربته بعد أن نظر إلي طويلاً، قال: إن فلاناً وفلاناً وغيرهما طالما ناصبوا الإسلام العداء، وكانوا ألسنة ولهم أقلامهم، وصحف في بلد عربي شقيق ينشرون فيها غمزاً في الإسلام وتشكيكاً فيه ويشيدون بالمسيحية، فانبريت أنا لهم بهذه القصائد الدينية التي أنشرها في تمجيد الإسلام، والإشادة به وإثبات قدسيته وجلاله، فكان هذا ردي عليهم وحربي، دفاعاً عن الإسلام))[1].

     وعندي أن هذه الشهادة، شهادة صحيحة وقوية، وديوان شوقي في الرثاء وفي غير الرثاء ينطق بصحتها، وليس عليها من مأخذ إلا ما قد توحي به عبارة صاحبها الأستاذ أحمد محفوظ من أن تهاون شوقي في الصوم والصلاة والحج يمكن تبريره باعتلال صحته.

     ولذلك يمكن القول: إن شوقي صادق في إسلامياته، وإن ما أخذ عليه من ضعف وتقصير في بعض سلوكه لا يقدح في صدقها، كما يمكن القول: إن مراثيه تعبر تعبيراً قوياً عن صحة موقفه الديني وعمقه وأصالته.

     في رثائه لعبد الحليم العلايلي يعزي أهل دمياط الذين خسروا الفقيد، بأن الموت غالب للجميع، وأن الباقي هو الله وحده، وأن عليهم الرضا بالقضاء لأنهم أهل إيمان وتقوى، يصلون كباراً وصغاراً ونساء، ويحرصون على صلاة الفجر حرصاً شديداً:

بني دميــــاط ما شيء ببــــاق     سوى الفرد الذي احتكر البقاء
تعــــالى الله لا يبــــــقى سواه     إذا وردت بريتــــه الفنـــــــاء
وأنتــــم أهل إيمـــــان وتقوى     فهل تلقــــون بالعتب القضــاء
ملأتم من بيـوت الله أرضـــــاً     ومن داعي البكور لها سمـــاء
ولا تستقبـــــلون الفجــــر إلا     على قدم الصـــلاة إذا أضـــاء
وترتقبـون مطلعه صغـــــاراً     وتستبــقون غرته نســـــاء[2]

     والأبيات تفيض بالإيمان الذي يعين على الصبر، وتفيض بتعظيم الله وتمجيده وتفيض بالإشارات المتصلة بالدين من بقاء وفناء، وإيمان وتقوى، وصلوات ومساجد.

     وفي رثائه لعمر المختار وهو من درر مراثيه، يجعل المسلمين في كل مكان يبكون الفقيد الكبير، لأن المصاب ليس مصاباً ليبياً فقط، بل هو مصاب المسلمين في كل مكان:

والمسلمون على اختلاف ديـارهم     لا يملكون مع المصاب عزاء[3]

     وقصيدته في رثاء محمد علي أحد زعماء المسلمين في الهند، تفيض بالمعاني الدينية، فبيت المقدس حيث دفن الفقيد هو للمسلمين لا أحد يستطيع منازعتهم عليه، ورسولهم الكريم ×، صلى على جنباته واستقبل الرحمات في أرجائه:

من ذا ينــــازعنا مقــــالد بابــــــه     وجـــلال ســـدته وطهر فنــــــائه
ومحــــمد صـــلى على جنـبــــاته     واستقبل السمحات في أرجائه[4]

     والفقيد المدفون في القدس الشريف جدير بكل تكريم فهو من سيوف الله في نصرته للإسلام، وهو من سيوف الهند في الحدة والقوة، وهو من الجلال بحيث إن الرسول الكريم × فتح له مناخ براقه وإسرائه ومعراجه:

يـا قدس هيئ من رياضك ربوة     لنزيــل تربــــك واحتفـل بلقـائه
هو من سيــــوف الله جل جلاله     أو من سيوف الهند عند قضائه
فتـــح النبي له منـــــــاخ براقه     ومعـارج التشـريف من إسرائه

     والفقيد بطل له مواقف مشهودة في نصرة الإسلام:

بطل، حقوق الشرق من أحماله     وقضيـــة الإسلام من أعبــــائه

     ولذلك سيظل النيل يذكر جهاده، والأتراك يشهدون بصدق بلائه:

النيل يذكر في الحوادث صوته     والترك لا ينســون صدق بلائه

     ويطلب الشاعر من الفقيد أن ينام في جوار الله، فما به من غربة وهو مدفون في ظل بيت، هو من أبنائه الذين أخلصوا له:

نم في جوار الله مابك غربة     في ظل بيـت أنت من أبنائه

     وفي قصيدته في كارنافون وهو الذي كشف عن الفرعون توت عنخ آمون، ينكر الشاعر ما يدعيه بعضهم من موت المكتشف بلعنة الفراعنة، ويقرر أن الروح سر من أسرار الرحمن:

لا تسمعن لعصبــــة الأرواح ما     قــــالوا ببـــــاطل علمهم وكذابه
الروح للرحمــــن جـــــل جلاله     هي من ضنائن علمه وغيابه[5]

     والكشف عن توت عنخ آمون، ليس عودة له إلى الحياة، بل العودة هي يوم الحساب:

ما آب جبـــار القرون وإنما     يوم الحساب يكون يوم إيابه

     وحين رثى حسين شيرين أشاد بدينه واستقامته، وجعله وهو يعد للدفن، مثل زين العابدين في التقوى:

أرأيت زين العــــــابدين مجهزاً     نقلوه نقل الورد من محرابه[6]

     والفقيد ينتمي إلى أسرة عريقة في التدين، ولذلك فهو طيب وابن طيبين، ولذلك هو مؤمن مترفع عن كل ما يشين، وهو دائماً بين المسجد يصلي فيه والقرآن الكريم يتلوه:

الطيـــب ابن الطيبـــين وربمـا     نضح الفتى فأبان عن أحســابه
والمؤمن المعصوم في أخـلاقه     من كل شــــائنة وفي آدابــــــه
أبداً يراه الله في غـــلس الدجى     في صحن مسجده وحول كتابه

     والفقيد وفي لوطنه الذي عاش فيه، وفي للمسلمين الذين ينتمي إليهم:

ويفي كديــــدنه بحق بلاده     ويفي بعهد المسلمين كدابه

     ويطلب شوقي من إسماعيل شقيق الفقيد ألا يجزع للحادث، وأن يفيء إلى تقواه يتمسك بها، ويذكره أن كل علاقة إلى انفصام:

تقـواك إسماعيل كل علاقــــة     سيبتها الدهر العضوض بنابه

    وفي قصيدته في رياض باشا، يطلب منه في تصوير رائع، وخوف بين من الموت، أن يحدثه عن الموت، وساعة الوفاة وما إلى ذلك، وبعد أن يستفسر منه عن مصير الروح، يجزم بقدرة الله تعالى وعظمته، ويجزم بالبعث والنشور:

وهل تقع النفـــوس على أمان     كما وقعت على الحرم القطاة
وتخـــــلد أم كزعم القوم تبلى     كما تبــــلى العظام أو الرفات
تعــــالى الله قابضهـــــــا إليه     وناعشها كما انتعـــش النبات
وجــــازيها النعيم حمى أميناً     وعيشاً لا تكــــــدره أذاة[7]

     وفي رثائه لجدته تمزار، يستنزل رحمة الله تعالى على قبرها، ويصفها بأنها كانت في أعوامها التسعين مثالاً للإحسان والفضل والبر حتى كأنها أم للمؤمنات:

صـــلاة الله يا تمزار تجزي     ثراك عن التــلاوة والصلاة
وعن تسعين عاماً كنت فيها     مثــال المحسنات الفضليات
بررت المؤمنـــات فقال كل     لعلك أنت أم المؤمنـات[8]

     ويجعل شوقي أسر جدته في اليونان وهي بنت عشر سنوات خيراً لها، لأن هذا الأسر كان سبباً في إسلامها:

عننــت لهم بمورة بنت عشر     وسيف الموت في هام الكماة
فكنت لهم وللرحمن صيــــداً     وواسطة لعقـــد المســــلمات
تبعت محمداً من بعــد عيسى     لخيــــرك في سنيك الأوليات

     وفي رثائه لعبد العزيز جاويش، يشيد بجهوده في خدمة المسلمين، وجمع كلمتهم، والدفاع عن الإسلام في دياره، ودعوة الجاحدين إليه، ويلوم من يتساءلون عن سبب عناية المرثي بالترك والهنود وقريب المسلمين وبعيدهم:

يقــــولون ما لأبي نـاصــــــــــر
            وللتـــــرك ما شــــــأنه والهنـود
وفيـــم تحـــــمل هم القـريــــــب
            من المســــلمين وهــــم البعيــــد
فقـــــلت وما ضركم أن يقـــــوم
            من المســـــلمين إمام رشيـــــــد
أتســـتكثـــــرون لهــم واحـــــداً
            ولي القـــــديم نصير الجديــــــد
ســعى ليــــؤلف بين القـــــلوب
            فــــلم يعد هدي الكتاب المجيـــد
يشـــــد عرا الديـــــــن في داره
            ويدعو إلى الله أهل الجحود[9]

     وينهي شوقي قصيدته الطويلة في الخديوي إسماعيل، بأبيات يقرر فيها أن الموت نهاية كل حي، وأن تلك سنة الله في عباده، وأن النفس عائدة إليه، وأن وعد الله تعالى وأنبيائه الكرام صادق:

إنمـا الموت منــــــتهى كل حي     لم يصب مالك من الملك خــلدا
سنــــة الله في العبــــــــاد وأمر     نــاطق عن بقــــــــائه لن يردا
وإلى الله ترجع النفــــــس يوماً     صدق الله والنبيون وعـدا[10]

     وفي قصيدته في تولستوي، يدافع عن الأديب الروسي الكبير، ويجعله مؤمناً يطوف على الفقراء بالحنان والمواساة كما كان يفعل عيسى عليه السلام، ويجعل ذلك لبَّ الدين، أما الناقمون عليه فهم معنيون بالقشور:

تطوف كعيسى بالحنان وبالرضا     عليــــهم وتغــشى دورهم وتزور
ويأسى عليــــــك الدين إذ لك لبه     وللخادمين النـــاقمين قشور[11]

     وحين يجمع شوقي بين تولستوي والمعري، يقرر أن الذي طواهما هو الله القادر على كل شيء، وهو الذي ينشر بعد الطي:

طوانا الذي يطوي السموات في غد     وينشــــر بعد الطي وهو قديـــــــــر

     وقصيدة شوقي في الطيارين العثمانيين فتحي ونوري وهي من أجمل مراثيه، تعبق بالعاطفة والمعاني الدينية، فالفقيدان طياران عثمانيان، خسارتهما خسارة للمسلمين، لأن الدولة العثمانية يومذاك كانت تتولى زعامة المسلمين الدينية والسياسية، وخليفة المسلمين في إستانبول رمز للمسلمين جميعاً، ولشوقي ارتباط وثيق بالإسلام وبالأتراك وبالدولة العثمانية.

     يقدم لنا شوقي الطيارين العثمانيين في صورة تعبق بالرموز والأجواء الدينية، فقبرهما هو السماء بطولها وبعرضها، وهو ما لم يحظ به غاز قبلهما، وهذا القبر العجيب يحوطه التسبيح والتهليل ويقف عليه النبيان الكريمان إدريس وعيسى عليهما السلام، في عالم مطهر نقي:

أي الغــزاة أولي الشهادة قبــــلكم     عرض السماء ضريحهم والطول
يغـــــدو عليه بالتحيـــــــــة أهلها     ويرفــــرف التسبيــــــح والتهليل
إدريس فوق يميـــــــنه ريحــــانة     ويســــــوع فوق يمينه إكليـــــــل
في عـــــالم سكانه أنفـــــــــاسهم     طيب وهمس حديثهم إنجيل[12]

     ووقع الكارثة بالفقيدين كبير لخسارة المسلمين بهما، فالحزن في كل مكان، والمسجد الأموي هدته الكارثة، وصفوف المسلمين تصلي على الفقيدين ونعش الواحد منهما عال في الأرض والسماء، ولا غرابة في ذلك ففيه شهيد، كفن بالكتاب وغسل بمدامع جبريل عليه السلام:

هلعت دمشق وأقبــــلت في أهـــلها     ملهـــوفة لم تـــــدر كيف تقــــــول
مشــــت الشجون بها وعم غياطها     في كل سهـــل أنـــــة ومنـــــــاحة
بيــــن الجـداول والعيــون ذبــــول     وبكــــل حـــزن رنــــة وعويـــــل
في كلّ سهــــــل أنّة ومنـــــــــاحة     وبكل حــــــزن رنة وعويـــــــــل
وكأنما نعيــــــت أميـــــــة كـلهـــا     للمسجـــــد الأموي فهو طلــــــول
خضعت لكم فيه الصفوف وأزلفت     لكم الصــــــلاة وقــــــرب الترتيل
من كل نعش كالثـريـــــــــــا مجده     في الأرض عال والسماء أصيـــل
فيه شهيــــــد بالكتـــــاب مكـفــــن     بمدامع الروح الأميـــــــن غسيــل

     والفقيدان دفنا إلى جوار صلاح الدين الأيوبي، البطل المجاهد المسلم، فمدفنه ومدفنهم بقعة مباركة كأن فيها عبقاً من روح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:

حتى نزلتـــــم بقـــعة فيها الهـــدى     من قبل ثـــــاو والســـــــماح نزيل
عظمت وجل ضريح يوسف فوقها     حتى كــــأن الميـــت فيه رســـول

     ويرى شوقي أن من واجبه أن يعزي إستامبول حاضرة الخلافة العثمانية التي خسرت هذين الطيارين المسلمين، فيكلف شعره أن يقوم بالمهمة وأن يطلب من الخليفة الصبر الجميل على الكارثة فتلك أخلاق العظام:

شعـــري إذا جبت البحور ثلاثة     وحـــواك ظل في فروق ظليــل
وتداولتــــــك عصــــابة عربية     بين المــــآذن والقـــــلاع نزول
وبلغت من باب الخـــــلافة سدة     لستورها التمســــــــيح والتقبيل
قـــل للإمـــــــــــام محمد ولآله     صبر العظام على العظيم جميل
صبراً فأجر المسـلمين وأجركم     عنــد الإله وإنـــــــه لجزيــــــل

     ويختم شوقي قصيدته بدعوة الخليفة إلى إطلاق سراح عزيز المصري القائد الحربي الشجاع ويناشده أن يفعل ذلك بالله جل وعلا، وبالإسلام، وبمآسي المسلمين الدامية:

بالله بالإســــلام بالجرح الذي     ما انفك في جنب الهلال يسيل
إلا حللت عن السجين وثـــاقه     إن الوثـــاق على الأسود ثقيل
فاذكر أمير المؤمنيــــن بلاءه     واستبقه إن السيـــــــوف قليل

     وفي رثائه للقائد العثماني أدهم باشا، يصور شوقي عظيم ما فعله الفقيد لصالح الإسلام حيث حاز له نصراً مؤزراً، بعد أن ظن الناس بمستقبل الإسلام كل الظنون، وتوقعوا انحلال دولته واقتسامها بين الظافرين:

ليالي بـــــات الدين في غيــــــــر قبضة
               وزلـــــــزل في إيمــــانه كل مســــــــلم
وقــــــال أناس آخر العهـــــد بالمــــــلا
               وهمت ظنـــــــون بالتراث المقســــــــم
فــــأطلع للإســـــلام والملك كوكبـــــــاً
               من النصر في داج من الليل مظلم[13]

     والمصاب بالفقيد مصاب جلل، يجعل الشاعر يتساءل هل لبس الصفا السواد حداداً عليه، وهل غص الشاربون بماء زمزم، وهل مضى الركبان ينعون القائد العسكري العظيم الذي كان مشابهاً لخالد بن الوليد إلى المحرمين في الحج ورماة الجمار:

ألا أيها السـاعون هل لبس الصفا     سواداً وهل غص الورود بزمزم
وهل أقبل الركبـــان ينعون خالداً     إلى كل رام بالجمار ومحــــــرم

     ويطلب من إستامبول أن تضحك وتبكي في آن واحد كما تفعل أم الشهيد لأنها بين الفرحة بشهادته والحزن بفقده:

فروق اضحكي وابكي فخاراً ولوعة     وقومي إلى نعش الفقيــــد المعــــظم
كــأم شهيــــــد قد أتــــــاها نعيــــــه     فخفـــــت له بين البكـــــا والتبســــم

     ولما رثى شوقي مصطفى كامل، وكان زعيماً واسع الشعبية يجمع بين الوطنية والدين، جعله خادماً للإسلام له أجر المجاهد خلوداً ورضواناً:

يا خــــــــــادم الإسلام أجر مجاهد     في الله من خلد ومن رضوان[14]

     والمصيبة بالفقيد مصيبة للمسلمين جميعاً، لأنه كان يعمل لدينهم وخليفتهم لذلك روع الحرمان الشريفان وسرى الأسى في زوارهما، وسكة حديد الحجاز الشهيرة نكست أعلامها وقضبانها حزناً عليه لما كان له عليها من فضل في دعم مشروعها، بذله ابتغاء الله ورسوله ونصرة لخليفة المسلمين:

لما نعيت إلى الحجاز مشى الأسى     في الزائـــــرين وروع الحرمـــان
السكة الكبـــــرى حيال ربـــــاهما     مــــنكوسة الأعلام والقضبـــــــان
لم تــــــألها عند الشـــــــدائد خدمة     في الله والمختـــــــار والسلطــــان

     ونعش الفقيد يختال عجباً بحامله، كأنه نعش الحسين بن علي سليل النبوة الكريمة، وما ضم هذا النعش من مكارم جدير بأن يترك أمانة عند الله تحفظ وتصان:

وكأنه نعش الحسين بكربـــــلا     يختال بين بكا وبين حنـــــــان
في ذمة الله الكريـــــــــم وبره     ما ضم من عرف ومن إحسان

     ولو أن للقرآن الكريم بقية لم تأت بعد، لذكر الفقيد فيها لما له من منزلة دينية عالية:

أو كان للذكر الحكيــــم بقية     لم تأت بعد رثيت في القرآن

     والفقيد لما له من طهارة ونقاء، ملك يهاب الملكان سؤاله:

أقسمت أنك في التراب طهارة     ملك يهــــــاب سؤاله الملكــان

     وفي رثائه لإسماعيل أباظة يطلب منه أن ينزل في رحاب الله تعالى حيث الكرم والرحمة، وحيث عفوه تعالى، الذي يقبل التوبة ويقيل العثرة، ويمتدح الفقيد بأن دنياه على غناها واتساعها، لم تلهه عن دينه:

إلى الله إســـــماعيل وانزل بساحة     أظل الندى أقطـــــارها والنواحيــا
ترى الرحمة الكبرى وراء سمائها     تـــلف التقى في سيبها والمعاصيـا
لدى ملك لا يمنـــــع الظل لائــــذاً     ولا الصفح تواباً ولا العفو راجيــا
وأقســـــم كنت المرء لم ينس دينه     ولم تلهه دنيـــاؤه وهي ماهيا[15]

     وهكذا كان الإيمان بالله تعالى، والاعتزاز بالإسلام، ونصرة المسلمين، وما يتصل بذلك من رموز وإشارات وبطولات وحالات ديدن شوقي، يظهر حيث تدعو الحاجة ليشهد بقوة إيمانه، وعميق اعتزازه بالإسلام، وانتمائه للأمة المسلمة، وإعلائه من شأن الأخوة الإسلامية.

     من أجل ذلك يكثر شوقي من الإشارة إلى عظمة الله جل جلاله وبقائه وهلاك الناس، واستقامة المرثي خلقاً وإيماناً وبراً وصلاة، والإشادة بدور الفقيد الديني إن كانت له في ذلك ريادة تجعله منشغلاً بهموم المسلمين.

     ومن أجل ذلك أيضاً نجده عميق الإيمان بخلود الروح، وبعث الناس ونشورهم، وعودتهم إلى رحاب العلي القدير يوم الحساب، معتزاً بخلافة المسلمين التي هي رمز مجدهم الديني والسياسي والعسكري، فرحاً إذا انتصروا محزوناً إذا انهزموا، مفتخراً بالمرثي إذا كان له جهد ديني مميز، داعياً إلى أن يكفن بالكتاب، مستعملاً مقدسات المسلمين في شعره لإظهار الحزن، كالحرمين الشريفين وزمزم والصفا ومنى والجمرات.

     إن شخصية شوقي المسلمة المؤمنة معلم بارز من معالم رثائه، لا يخطئ الدارس أن يراه حيث دعت الحاجة إليه.

     ويحمد لشوقي الذي رأيناه عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، معتزاً اعتزازاً شديداً بالإسلام ونبيه الكريم ×، طالما دافع عنه وغنى له وأشاد به، أن موقفه هذا لم يقده إلى عصبية مذمومة فغلبت عليه روح التسامح انسجاماً مع توجيهات الإسلام المتسامحة من جانب، وانسجاماً مع طبيعته الشخصية المتسامحة من جانب آخر. لذلك نجده يحذر من التعصب المذموم، ويدعو للوفاق بين المسلمين والأقباط إثر اغتيال الورداني لبطرس غالي، ويرثي عدداً من النصارى، بل ويمجد عدداً من أعلام النصارى الغربيين من قديم وحديث.

     حين احتفل المجمع العلمي في إنجلترا عام 1916م بذكرى شكسبير، نظم شوقي فيه قصيدة، مجده فيها تمجيداً كبيراً وأثنى على شعره، وجعل شرف إنجلترا به عالياً:

ما أنجبت مثل شكسبير حـاضرة     ولا نمت من كريم الطيـــر غناء
نالت به وحده إنجـــــــلترا شرفاً     ما لم تنــل بالنجوم الكثر جوزاء
لم تكشـف النفس لولاه ولا بليت     لها ســــرائر لا تحصى وأهـواء
شعر من النســــق الأعلى يؤيده     من جانب الله إلهام وإيحاء[16]

     ورثى شوقي يعقوب صروف، وهو مسيحي لبناني متمصر استوطن مصر وأنشأ مع فارس نمر – وهو الآخر مسيحي لبناني متمصر – مجلة المقتطف، بقصيدة تدل على صلة مودة بين الشاعر والمرثي، مطلعها:

سمـــــاؤك يا دنيا خداع ســـــــراب     وأرضك عمران وشيك خراب[17]

     وقد أشاد فيها بالمرثي وأثنى عليه وعلى أعماله، وتوجع له وسلم عليه تسليماً حاراً:

سلام على شيخ الشيـــــوخ ورحمــــة     تحــــدر من أعطــاف كل سحـــــــاب
ورفــــاف ريحان يروح ويغتــــــــدي     على طيبـــــات في الخلال رطـــــاب
وذكرى وإن لم ننس عهــــدك ســـاعة     وشـــــوق وإن لم نفتــــــكر بإيـــــاب
وويح السوافي هل عرضن على البلى     جبينـــــك أم ستـــــــــــرنه بحجــــاب
وهـل صُــــنَّ ماء كــــــان فيه كأنــــه     حيــــــاء بتول في الصــــــــلاة كعاب

     ولشوقي قصيدة فريدة في ذكرى كارنافون، وهو صاحب البعثة الأثرية التي كشفت مقبرة توت عنخ آمون عام 1932م، وكان لهذا الكشف يومها دوي كبير، مجد كارنافون وأشاد بجهوده، وصور كيف مات بلسعة بعوضة في الصعيد، أصاب خرطومها وجهه العزيز:

صادت بقارعة الصعيــد بعوضة     في الجو صائد بــــــازه وعقــابه
وأصاب خرطوم الذبــابة صفحة     خلقت لسيف الهند أو لذبابه[18]

     وصور شوقي في إعجاب واضح بكارنافون، عمله في كشف المقبرة بصبر متصل لم يتوقف حتى ظفر بالمقبرة وصاحبها، إذ فض ختم الزمان، وحبا إلى قدس التاريخ، وأعاد الزمان إلى الوراء فوجدنا أنفسنا مع فرعون بين طعامه وشرابه وكنوزه:

الجـــــــائب الصخر العتيد بحاجر
               دب الزمـــان وشب في أســــرابه
لو زايل الموتى محــــــاجرهم بـه
               وتلفتـــوا لتحيـــــــروا كضبــــابه
لم يــــأله صبراً ولم يـــــن همـــة
               حتى انثنى بكنــــوزه ورغــــــابه
أفضى إلى ختــــم الزمان ففضــه
               وحبـــا إلى التاريخ في محــــرابه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى
               فرعون بين طعــــــامه وشــرابه

     وحين رثى شوقي رياض باشا أشاد به وعدد أعماله وأثنى عليه، ومما عني به من أعماله، موقفه المحمود من الفتنة التي كادت تستعر بمصر إثر اغتيال الورداني لبطرس غالي، بين المسلمين والأقباط، وذلك في المؤتمر الذي أقيم في عين شمس، وما كان لهذا الموقف من أثر في إطفاء الفتنة المستعرة، وذلك لوقار الفقيد وقوة شخصيته وحلمه الذي طامن زهو الشباب واندفاعهم:

طلعت على النـــــدي بعين شــمس
               فوافتــــها بشمســــين الغــــــــــداة
على ما كان ينــــــدو القـــــوم فيها
               توافى الجـــــمع وائتمر الســـــراة
تملــــكهم وقـــــارك في خشــــوع
               كما نظــــمت مقيميــــها الصـــلاة
رأيت وجــــوه قومك كيف جــــلت
               وكيف ترعرعت مصر الفتــــــــاة
أجيـــــل الرأي بين يديـــــــك حتى
               تبيـــــنت الرزانة والحصــــــــــاة
وأنــــت على أعنتــــــــهم قديـــــر
               وهم بـــك في الذي تقضي حفــــاة
إذا أبــــدى الشبـــاب هوى وزهواً
               أشـــــار إليـــه حلمك والأنــــــــاة
تفجـــــر حكــــــمة التســــعين فيه
               فــــآذان الشبيــــبة صاديـــــــــات
تقــــول متى أرى الجيران عـادوا
               وضـــــم على الإخاء لهم شتـــات
وأين أولو النهى منـــــــا ومنــــهم
               عسى يأسون ما جرح الغلاة[19]

     ولشوقي قصيدة طويلة في مصرع اللورد كتشنر وهي قصيدة مستغربة أشاد فيها باللورد وبقومه الإنجليز، ويظهر أن الشاعر أحس بغرابة ما فعل، فالتمس العذر لنفسه بأنه إنما يلتمس العبرة، من موت رجل له أهميته، فضلاً عن أن التاريخ فوق الأهواء، وجلال الموت فوق الهذر والهذيان:

لا تقــــولوا شاعر الوادي غوى     من يغــــالط نفســــه لا يعتــــبر
موقف التــاريخ من فوق الهوى     ومقــــام الموت من فوق الهــذر
ليس من مات بخــــــــاف عنكم     أو قليل الفعل فيكم والأثر[20]

     ولشوقي قصيدة في فكتور هيجو أشاد فيها ببيانه الخالد، الباقي على مر الزمان، وجعله أجل من عيد ذكراه:

ما جـــل فيهم عيدك المــــأثور
               إلا وأنت أجــــــل يافكتــــــور
ذكروك بالمئــــة السنين وإنها
               عمر لمثــلك في النجوم قصير
ستدوم مادام البيان وما ارتقت
               للعالمين مدارك وشعور[21]

     وله في تولستوي قصيدة جيدة، تشيع فيها روح مسيحية مناسبة للمرثي، وحكمة وفلسفة يجمعه فيها إلى المعري، ونظرة تشاؤم توحي بغلبة الشر والظلم. يقول شوقي مصوراً بكاء العلم والفقراء والضعفاء والفلاحين على الفقيد:

تولستـــوي تجري آية العلم دمعــها
               وشعب ضعيف الركن زال نصيره
عليــــك ويبــــكي بــــائس وفقيـــر
               وما كل يوم للضعيــــف نصيــــــر
وشعب ضعيف الركن زال نصيره
               وما كل يــــوم للضعيــــف نصيــر
وينــــدب فلاحون أنت منـــــارهم
               وأنت ســـراج غيبوه منيـــر[22]

     ويجعله شوقي إنساناً مؤمناً، كتبه كالأناجيل، ثم يجمعه مع المعري، حيث يخبره بأن ماشكا منه من قديم لا يزال فاشياً بين الناس ظلماً وبغياً وزوراً:

قم انظر وأنت المـــالئ الناس حكمة
               أأجــــدى نظيــــم أم أفـــــاد نثيـــــر
أنـــــاس كما تدري ودنيا بحــــــالها
               ودهــــر رخي تــــــارة وعســــــيـر
وحرص على الدنيا وميل مع الهوى
               وغش وإفــــــك في الحيـــــاة وزور

     ولما مات جورجي زيدان قال فيه شوقي قصيدة، استغل فيها كون المرثي مسيحياً ليحذر من الفرقة باسم الدين، ومن الغلو الذي يخفى معه الرشد:

لا تجعــــلوا الدين بـــــاب الشر بيــــنكم
               ولا محــــل مـبـــــــــــــــــــاهـاة وإدلال
ما الدين إلا تــــــراث النـــــاس قبــــلكم
               كل امرئ لأبيـــــــه تــــــــابع تـــــــــال
ليس الغـــــــلو أمينـــــــــــاً في مشورته
               مناهج الرشد قد تخفى على الغالي[23]

     ويتخذ شوقي من رثائه لبطرس غالي مناسبة حميدة للدعوة إلى الوئام بين المسلمين والأقباط، وإشاعة التسامح الديني، يقول شوقي لغالي: لقد كانت حياتك داعية سلام بين النصارى والمسلمين، وموتك اليوم فرصة مواتية لمن يقف فوق قبرك يدعو للوفاق، لذا أنت نافع في حياتك وموتك:

قد عشت تحدث للنصــارى ألفة     وتجــــد بين المســــلمين وئـاما
واليوم فوق مشيـــــد قبرك ميتاً     وجد الموفق للمقال مقاما[24]

     ثم يقرر أن المسلمين والقبط أمة واحدة، كل فئة تحترم الأخرى وتوقر لها دينها:

أعهـــــدتنا والقبـــط إلا أمة     للأرض واحدة تروم مراما
نعلي تعـاليم المسيح لأجلهم     ويوقرون لأجـــلنا الإسلاما

     على أن توقير المسلمين للمسيح عليه السلام هو استجابة لأوامر دينهم، وليس مجاملة لأحد، وهو أمر ما كان له أن يغيب عن شوقي.

     ويخلص شوقي بعد ذلك إلى فكرة التعايش بين الأديان، لأن الله جل وعلا لم يوحد الناس في عقائدهم:

الدين للديـــــان جل جلاله     لو شاء ربك وحد الأقواما

     ثم ينتهي إلى خطاب المسلمين والأقباط داعياً إياهم لنبذ الأوهام واتباع الحقائق، فمصر للفريقين منذ القدم تتجاور فيها جماجمهم وعظامهم، ويستحلفهم بحرمة الموتى أن يعيشوا كما يملي عليهم واجب الجوار:

يا قوم بان الرشد فاقصوا ما جرى     وخذوا الحقيقة وانبـــذوا الأوهاما
هــذي ربوعــــكم وتلك ربوعنـــا     متجـــاورين جمــاجماً وعظـــاما
فبحـــــرمة الموتى وواجب حقـهم     عيشوا كما يقضي الجـوار كراما

     وفي قصيدة أخرى يعود شوقي إلى رثاء بطرس غالي، ويتخذ من هذا الرثاء مناسبة يدعو فيها للوئام بين الأقباط والمسلمين، ويهيب بالأقباط أن يجعلوا من الفقيد يسوعاً آخر يفدي بنفسه الناس، وهو الأمر الذي تقوم عليه عقيدتهم:

بني القبط إخوان الدهور رويدكم     هبوه يسوعاً في البرية ثانيا[25]

     ويعزيهم بأن الموت غالب، ولو لم يقتل بطرس بيد الورداني لمات فجأة أو بالمرض:

ووالله لو لم يطلق النار مطلق    عليه لأدوى فجــــأة أو تداويا
قضاء ومقدار وآجـــال أنفس     إذا هي حانت لم تؤخر ثوانيا

     ويطلب من الأقباط أن ينهضوا مع المسلمين إلى طي الخلاف والشقاق:

تعالوا عسى نطوي الجفاء وعهده
وننبــــذ أسبــــاب الشقــاق نواحيا

     ويشهد لهم أن فيهم أهل فضل، ويذكرهم أن في المسلمين من هو كذلك، ثم يدعوهم إلى حفظ عهودهم مع المسلمين، ويهيب بهم ألا يثنيهم عن ذلك مقتل غالي، فالقتل قديم في الناس:

وما زال منـــــكم أهل ود ورحمة
               وفي المسـلمين الخير مازال باقيا
فلا يثـنكم عن ذمة قتــــل بطرس
               فقدماً عرفنا القتل في الناس فاشيا

     ولشوقي قصيدة في الشاعر الموسيقي الإيطالي فردي، يشيد فيها بعبقريته الفنية في الشعر والموسيقى، ويعزي آل الفقيد، ويحرص على التأكيد على خلود أوبرا عايدة التي لحنها، مطلعها:

فتى العقــــل والنغمة العالية     مضى ومحاسنه باقية[26]

     ولشوقي قصيدة طويلة في نابليون، يثني فيها على القائد الفرنسي، ويحاول سبر أعماق التاريخ لاستخلاص دروسه وعبره، ويلومه مرة، ويلتمس له العذر مرة، ويتحدث عن تقلب الدهر وصروف الأيام، ويبث فيها حكمته، مطلعها:

قف على كنــــز ببــــاريس دفين
               من فريد في المعالي وثمين[27]

     وهكذا كان لشوقي من سعة الأفق وصحة الفهم، ماجعله ينأى عن العصبية المذمومة، ويرتاد آفاق التسامح، ويعجب بالعبقرية والنبوغ اللذين يلقاهما المرء لدى المسلم ولدى غير المسلم، بل إنه ليسعى في خطوة ذات بعد وطني وسياسي إلى التحذير من الفرقة باسم الدين، وإلى اجتماع الكلمة بين المسلمين والأقباط وهو ما رأيناه في رثائه لبطرس غالي.

-------------------------
[1] حياة شوقي، ص 84 – 85 .
[2] الديوان 2/341 .
[3] الديوان 2/344.
[4] الديوان 2/364.
[5] الديوان 2/377.
[6] الديوان 2/383.
[7] الديوان 2/386.
[8] الديوان 2/398.
[9] الديوان 2/408
[10] الديوان 2/412.
[11] الديوان 2/463.
[12] الديوان 2/503.
[13] الديوان 2/550.
[14] الديوان 2/574.
[15] الديوان 2/588.
[16] الديوان 2/350.
[17] الديوان 2/373.
[18] الديوان 2/377.
[19] الديوان 2/386.
[20] الديوان 2/441.
[21] الديوان 2/461.
[22] الديوان 2/463.
[23] الديوان 2/512.
[24] الديوان 2/543.
[25] الديوان 2/591.
[26] الديوان 2/592.
[27] الديوان 2/564.

الأكثر مشاهدة